قمت قبل مدة، رفقة صديق حميم لي، بجولات فريدة. فقد كان صاحبي يريد شراء شقة بمواصفات حالمة. ولأن ضالته لم تكن في مكان معلوم، فقد قادنا البحث إلى أكثر من حي وأكثر من ورش وأكثر من مركب سكني... وإذا كان لواحدة من تلك الجولات أن تحكى، فلن أجد أمتع من تلك التي قمنا بها إلى إقامة الفردوس . ذات صباح ربيعي حار أخذني صديقي بسيارته قصد القيام بزيارة لإقامة الفردوس، تلك التي حدثه عنها بافتتان أحد أصدقائه من بلجيكا بعد أن تصفح بعض شققها على الإنترنيت . تذكرت قصة الكنز في ألف ليلة وليلة، قصة ذلك الرجل الذي يسافر إلى بلد بعيد بإغراء من كنز في حلمه، فيلتقي هناك من يدله على كنز حقيقي يوجد في عقر بيته. تذكرت بورخيس أيضا ، وحاولت عبثا أن أقدر خسائر الإنترنيت التي لم يكتب عنها هذا الرجل الكبير... ثم ركن صديقي سيارته قرب مركز الاستقبال . حين دخلنا، وجدنا في استقبالنا هواء مكيفا ووجوها ناعمة وحفاوة فوق اللزوم. ثمة مكاتب للإرشادات وأخرى للاستشارات ، ثمة طاولات صغيرة عليها علب سكاكر وشوكولاطة ، ثمة ولدان يطوفون بالمياه المعدنية ، بالشاي والقهوة وخلافهما ، ثمة بنات مكويات بعناية يذرفن الفَراش من ثغورهن ، وثمة ، ليس أخيراً ، المدير التجاري . شاب وسيم ذو أناقة في اللباس وطلاقة في اللسان . لعله خريج أحد تلك المعاهد التي تعلم طلبتها كيف يبيعون السمك في قاع البحر، وكيف يبيعون جلد الدب قبل قتله. بسط الشاب أمامنا خريطة للبحر وبدأ يحدثنا عن أنواع الأسماك وجزر المرجان. ولما رأى أن شهيتنا لم تنفتح ،اقترح أن نغوص أكثر بجولة في عين المكان . في طريقنا إلى الإقامة، وهي على مرمى صنارة من مركز الاستقبال ،جعل الشاب يجرب الدرس الآخر، أقصد جلد الدب. فحدثنا عن المساحات الخضراء والمسابح والشقق النموذجية بأنواعها، الأوروبي والشرقي والمراكشي... وكذا عن بعض النجوم الذين بادروا إلى حجز شققهم في الفردوس، وهي شقق من فئة خمس نجوم كما سنرى. دخلنا شققا عديدة . كل واحدة تنسينا سابقتها. وفي كل مرة ينبري صاحبنا لتعداد المميزات والفضائل والفروق... فيسهب في الحديث عن التكييف والتدفئة ومصدر المرمر وأصل الخشب وقيمة الأثاث... حتى إذا وصل إلى الشرفة، فتحها بيقين من يفتح كنزاً حقيقيا، فإذا هي تطل على حوض سباحة به كواعب يُضرمن النار في الماء. على اختلاف تصاميمها تشترك كل الشقق في ذلك المرفق الملحق بالمطبخ : غرفة صغيرة، ملتبسة، معتمة، وخاملة الذكر. حين سألت المدير التجاري عنها، أخفي ارتباكه بابتسامة ماكرة توسلت مني تواطؤاً صغيراً، ثم همس لي : إنها " مربط العنزة" . ( ولقد كانت هذه هي المرة الأولى التي نطق فيها صاحبنا باللغة العربية، فطيلة جولتنا كان شديد الفرنسية معنا ). أطللت مرة أخرى على ذلك المرفق الغريب، فإذا به مذود صغير وأنيق. عدنا إلى مركز الاستقبال حيث مكاتب ممثلي الشركة، ومكتب الموثق، ومكتب مندوب البنك... دخلنا أكثر من واحد، وطرحنا عدة أسئلة. وفي كل مرة : كلمات، سكاكر، ابتسامات، مياه معدنية، بشاشة مفرطة، أرقام فلكية، بطائق زيارة، مجاملات، وعود، ووعود. ثم خرجنا كمن يخرج من حلم أخضر. في طريق عودتنا قلت أفسر لصديقي هذا الحلم : أما الهواء المكيف فهو ريح الجنة، وأما السكاكر والمياه المعدنية والشاي والشوكولاطة والقهوة ... فترمز لحلاوة ومجانية العيش فيها، وأما أحواض السباحة فهي الأنهار التي تجري من تحتها، وأما الكواعب فهن حور العين ، وعصير الفواكه يبشر بالكوثر... وإذا كان فردوس الله يفتح أبوابه للمؤمن بعد عمر من الصالحات، فإن فردوس هؤلاء يرهن ما تبقى من حياة المرء بالأقساط والكمبيالات. وهنا ابتلعت لساني، فقد وصلت إلى مربط العنزة. ولم أشأ أن أفسد فرحة صديقي بشروحي المغرضة. فكل الحضر الفارهين الذين دخلنا مكاتبهم يأنفون من ذكر الماعز، فأناقتهم المفرطة وعطورهم الثمينة لا تسمح لهم باستعمال لغة البدو. هكذا ابتكروا كنايات عديدة. فإذا العنزة هي القرض، وحبلها هو مدته، والعلف هو الفائدة، والمذود هو مصاريف الملف... وتوقفت السيارة عند باب بيتي. بعد أيام قليلة أخبرني صديقي بأنه شرع فعلا في الإجراءات اللازمة لدخول الفردوس، وأن الشركة متعاقدة مع بنك لتمويل قروض زبائنها، بنك اسمه "القرض الزراعي" . اغتلت بداخلي قهقهة صغيرة وأنا أهمس لنفسي الأمارة بالتأويل : هكذا إذاً ، من المزرعة إلى المذود .