أحاول أن أتصور الجلسة التي تمت خلالها المصادقة على ميزانية القصر في ثلاث دقائق. السادة النواب "المحترمون" يجلسون في القاعة المكتظة مثل تلامذة فصل دراسي وهم يستمعون إلى عرض وزير الشؤون العامة للحكومة يتلعثم في قراءة الأرقام الكبيرة للميزانية "المقدسة". يسود القاعة صمت القبور. والنساء والرجال "المحترمون" مطرقون رؤوسهم لايلتفتون يمنة أو يسرة، وكأنما على رؤوسهم الطير، ليس "خشوعا" أو"احتراما"، وإنما خوفا من أن تفسر أية حركة أو التفاتة بأنها تعني ما قد يؤول على أنها تأففا أو امتعاضا من رقم ما، أو أن تصدرعن أحدهم نحنحة فيشك في أنه أراد أن يقول شيئا ما. كيفما كان هذا الشيء لأنه قد يفسر بما لا قد تحتمله نحنحته. يستمر السيد الوزير "المحترم" في تلاوة الأرقام المخصصة لميزانية القصر حسب البنود والإعتمادات. فيقرأ عليهم الأرقام الفلكية لميزانية التجهيز وميزانية اللائحة المدنية، وميزانية التنقلات، وميزانية حظيرة السيارات الملكية الفخمة، وميزانية عشرات الأنواع من الحيوانات النادرة التي تكلف تغذيتها والعناية بها ميزانية شهرية تقدر ب 85 مليون سنتيم، حسب ما نشرته الكثير من الصحف، كان ذلك في الميزانيات السابقة... ينتهى الوزير من القراءة، ولا يهم أن يكون قد تجاوز بعض الأرقام أو تفادى الإفصاح عن بعضها أو طوى صفحات بكاملها دون أن يلتفت إليها... ويعلن الرقم النهائي للميزانية: 250 مليار سنتيم، ليس بالتمام والكمال. لأن مابعد الفاصلة من أرقام لن ينتبه إليه إلا "العدميون" الذين لا يعجبهم العجب العجاب ولا يدركون أن نعمة السكينة والاستقرار الذي ينعم فيه هذا الوطن السعيد بملكيته أغلى من كل أرقام حتى لو كلفت الوطن كل مدخراته! يرفع الوزير رأسه بعد أن أعياه إنحائه على قراءة الأرقام خشية أن يسقط رقما أو فاصلة منها فيفسر ذلك بما لا قد تحمد عقباه. ويتبادل نظرات متوجسة مع رئيس الجلسة الغارق في صمته وكرسيه. وقبل أن تتحرك الشفاه لتنبس بأي شيء يدوي صوت تصفيق نائب برلماني "محترم" يضرب بقوة كفي يديه المتورمتين دون أن يتحرك جسده الضخم مثل طائر بطريق أفاق للتو من سباته، فتهتز القاعة بالتصفيق، تماما مثل ما تفعل طيور البطريق عندما تصرخ جماعة وتصفق جماعة. وأخيرا تفك عقدة لسان أحد النواب فيصرخ بأعلى صوته "عاش الملك"، وتتم المصادقة بالإجماع وباسم الشعب والأمة على ميزانية الملك. لكن هذه السنة لم تجري الأمور كما كان مرسوم لها. وما كان لها أن تجري كذلك. فميزانية القصر الملكي لهذا العام تأتي في سياق مغربي وعربي وإقليمي جديد. سياق ما بعد الانتفاضات العربية التي حطمت الكثير من الأصنام، وحراك الشارع المغربي الذي كسر الكثير من الطابوهات... لذلك كان لابد من تسجيل موقف يتماشى مع الروح الجديدة للدستور الجديد. موقف يناسب "الخصوصية المغربية"، ويحمل طابع "الاستثناء المغربي". وكذلك كان، عندما وقف أحد النواب، أو صرخ من مقعده الوثير، فالرواية التي قدمتها الصحف السيارة، لم تدقق في هذه التفصيل الصغير على أهميته، ليسجل اعتراضه على "الميزانية الموقرة". وعليكم أن تتخيلوا شفاه النائب "المحترم" وهي ترتجف وكلماته تتلعثم ونبرة صوته يقطعها لهاث أنفاسه التي يحاول تجميعها ليقول بأنه يعترض وبقوة... على ضعف ميزانية القصر ويطالب برفعها من أموال الشعب. فالشعب الذي صبر على القهر والفقر والظلم طيلة القرون الماضية يمكن أن يصبر أكثر. فتعود طيور البطريق مرة أخرى إلى حركات أذرعها وترتفع عقيرتها بالصراخ الذي يقول كل شئ ولا يقول أي شيء. لكن الخبراء في فك شفرات نبرات الأصوات الغريزية سيؤولون "أوركسترا البطاريق" هذه بكونها "التنزيل الحكيم للدستور المكين". "الطقس" الجديد الذي ساد مصادقة السادة النواب "المحترمين" على ميزانية القصر لهذا العام، يتماشى تماما مع "فلسفة" الدستور الجديد. ففي السابق كانت المصادقة تتم بالمباركة والتزكية وبدون أن يتعب الوزير في قراءة الأرقام التي كانت سرا من أسرار الدولة. لكن شروط "التنزيل" الصحيح للدستور الجديد ارتأت تغيير "طقس" جلسة المصادقة التي كان النواب في السابق يتفادون الحضور إليها كما يخشون الغياب عنها، فالحضور كما الغياب في مثل هذه الحالات حمالان لأوجه عديدة من التأويلات الغير برئية. ولعل هذا ما يفسر كون العديد من النواب "المحترمين" كانت ترتعد فرائصهم كلما حل موعد هذا "الطقس المقدس". لكن أجواء "الربيع المغربي" كسرت حاجز الخوف عند النواب المحترمين. وهذه إحدى فضائل هذا "الربيع" الذي فك عقدة ألسنة بعض النواب "المحترمين" للتعبير عن اعتراضهم ولأول مرة ومن داخل البرلمان على "ضعف" ميزانية الملك!