عرف المشهد السياسي في الآونة الأخيرة تسارعا للأحداث بشكل يثير الإهتمام و يستدعي الوقوف عندها بشكل متأن قصد بلورة رؤية واضحة عن دواعي ما يحدث و الخروج بخلاصة تحليلية تحيط الدواعي و المرامي المخزنية هاته و مدى تأثرها و تأثيرها في المناخ السياسي الراهن . فبعد العفو عن البيدوفيلي دانيال كالفن و مرورا بإقرار نظام المقايسة و وصولا إلى إعتقال الصحفي الحر علي أنوزلا و التهييء لمحاكته وفق قانون الإرهاب بالتوازي مع إصدار قانون مرسوم وزاري بتمديد العمل بالتوقيت الحديث إلى 27 أكتوبر ، كل هذه الاحداث تركت إنطباعا لدى الرأي العام و تعددت التفسيرات حولها و أسيل عن كل حدث الكثير من المداد ، إلا ان ما يهمنا في هذا المقال هو مدى تأثر الحركة الإحتجاجية بهذه الأحداث و كيفية تعاملها معها كمحاولة متواضعة لتشريح الوضع من اكبر عدد من الزوايا النقدية . 1_ المخزن و الحركة الإحتجاجية : الثابت و المتحول في الخطاب و الممارسة . لن نختلف أن الزخم النضالي الذي خلفه حراك 20 فبراير إستطاع أن يخلق نقاشا سياسيا جديدا يتركز على العمق النظامي للنظام المخزني و إرتباطه المباشر بالاوضاع المعاشة المزرية ، و لن نختلف أيضا أن 20 فبراير كان لها دور كبير في تسييد ثقافة التشارك في النقاش السياسي و وضع فئة من الجماهير في صلب الإهتمام النضالي ليتغير مفهوم الحراك معها من نضال نخبوي لفئة الأنتلجنسيا إلى مشاركة عموم الجماهير في الحراك وعيا منها أنها معنية بالسياسات الممنهجة ، إلا ان النظام السياسي إستطاع ان يخلق إستثناءا من خلال إستعماله لعنصر المراوغة و المماطلة تارة عبر الزعم المفروغ من أية رغبة تطبيقية في إحتضان مطالب الحركة الإحتجاجية و الظاهر بينا في خطاب 9 مارس الذي جاء كتمويه المخزن لعموم الجماهير بإستجابته للمطلب الرئيسي للحراك ( مطلب الدستور الديمقراطي شكلا و مضمونا ) ، من خلال تسخير الفلول السياسية المخزنية و وسائل إعلامه كأدوات تمويهية تروج لتغيير موهوم إذ أن الخطاب مثلا بشر بتعديل دستوري و في الوقت نفسه نصب لجنة المنوني لتتكلف بالتعديل و ذلك ضرب للشرط الديمقراطي الذي يستلزمه المطلب بالرجوع إلى شعب كقاعدة بكل اطيافه السياسيين للتوافق على نص الدستور ، ذلك ما أضعف الحراك بعد إنسحاب عموم الجماهير بصدق نيتها و تصديقها ان التغيير جاري التنفيذ بسبب عدم إلمامها بالشروط التي تستوجبها الدساتير الديمقراطية ، ليبقى الحراك بعد ذلك نخبويا يتقلص إمتداده شيئا فشيئا بعد مهزلة الإنتخابات المفبركة يوم 25 نونبر التي جاءت بالإسلاوموين كورقة رابحة للنظام السياسي من اجل تفكيك بوثقة الحراك و تكميم أفواه الإسلامويين بعد تنصيب حكومة ميدلت التي شلت قدراتها بقدرة قادر و كشفت سفسطة أصحاب القنديل و متاجرتهم بالمعانات الشعبية لأهداف سياسية ضيقة . ليكون النظام السياسي قد تمكن من جعل الربيع خريفا إستثنائيا فارغا من أية بوادر حقيقية للتغيير ، و لتتغير سياساته بعد ذلك عبر طبخ ملفات جاهزة لمجموعة من القيادات المناضلة في محاكمات صورية بإعتبار ان المخزن يجيد سياسة التمياك ( يتناسى و لا ينسى ) ، و ما زاد الوضع سوءا هو سقوط التيارات المنظوية تحت لواء الحركة الإحتجاجية في خندق التصارع من أجل إعلاء المرجعية الإيديولوجية لكل طرف على حساب التوحد من أجل إحتضان الهم الشعبي العام ، فالصراع حول القيادة كان حاضرا منذ البداية و بدأ يكبر ككرة الثلج و يظهر للعيان بعد التسابق على قطف ثمار حراك لم يعط نتائجه بعد أنذاك ، دون إغفال عمل النظام السياسي على إحتواء مجموعة من العناصر و إغراءها بنصيب من كعكته . و مع التغيرات السياسية التي شهدتها دول الربيع و سيادة التطاحن ، عمد النظام المخزني إلى إعتماد سياسة التتعيب و الإلهاء بإقحام المشهد السياسي لأحداث مؤقتة تشغل الرأي العام الإحتجاجي ينتهي الحديث عن حدث ببداية الحديث عن حدث آخر فمن العفو عن المجرم دانيال الذي سارعت الحركة الإحتجاجية إلى التنديد به و الخروج للشارع للتظاهر عن هذا الفعل الشنيع و إحاطة الموضوع بقيمته القصوى لاحظنا فوره خطاب 20 غشت المندد بفشل السياسة التربوية و التعليمية و بعده إقرار الرفع من اثمنة المواد الأساسية و المحروقات الذي خلف إستياءا كبيرا و منه صدم الرأي العام بإعتقال الصحفي الحر علي أنوزلا المعروف بكتاباته التحليلية الجريئة التي تحلل البنية السياسية للمخزن و تشخص الاوضاع من زوايا دقيقة تمرغ إدعاءات النظام السياسي و شعاراته في تراب الفضح و الكذب المبين ، لتعود الحركة الإحتجاجية للشارع للإحتجاج على المساس بعمق حرية الفرد في التعبير عن رأيه و التنديد بالمرامي المخزنية بمحاكمة انوزلا وفق قانون الإرهاب و هنا سقطت الحركة الإحتجاجية مرة أخرى في شرك التسارع ، ففي الوقت الذي كان يلزم عليها التركيز على العلة ( الإعتقال ) ، إلا أنها ركزت على المدلول ( سير المحاكمة و القانون الذي سيحاكم وفقه ) ، كأنها بذلك تزكي إعتقاله و تعارض حيثيات محاكمته و هذا أكبر خطأ للأسف بإعتبار ان إعتقاله هو رد فعل سياسي إنتقامي بالأساس من الأصوات المزعجة لشرعية النظام قبل سياساته . 2 _ الرهانات الآنية للحركة الإحتجاجية الحركة الإحتجاجية أمام إمتحان يمتحن سيرورتها و ديمومتها ، فالأحداث المتسارعة التي عرفها المشهد السياسي التي لعبت دورا مزدوجا بين جس نبض الشارع العام من جهة من خلال الرفع من الأسعار الذي لم يخلف ردود فعل في الشارع و يكون النظام السياسي بذلك مطمئنا من إستمرارية السواد الاعظم من الناس في غفوتها و فشلها في ترجمة غضبها الباطني إلى غضب سياسي مؤجج و إنحيازها إلى زاوية الإستسلام و الخضوع ، و من جهة ثانية هو جس نبض النخبة المثقفة و معها الحركة الإحتجاجية لمعاينة مدى جاهزيتها في تنظيم صفوفها للرد بشكل قوي على كل محاولة تعرقل مسار الخطو للديمقراطية و لو في شكلها الجزئي ، و لن يتأتى ذلك إلا بإعادة النظر في النسق التدبيري للحركة الإحتجاجية في تعاملها مع الأزمات السياسية بعيدا عن تصفية الحسابات الضيقة عبر التخندق في تقديس المرجعية الإيديولجية على حساب المعانات الشعبية المتواصلة و ذلك بإستصغار الأنا السياسية و الإنكباب على توعية الشعب بالمخاطر التي تستهدفه من جراء الحملات الشرسة التي تستهدف كينونته السياسية عبر الفضح السياسي و مجابهة سياسات المخزن الإستصغارية لقيم المواطنة و المكرسة لثقافة القطيع ، أما حب الزعامة و القيادة و محاولة خلق مواليد نضاليين يشخصنون الذات المناضلة فلن تكون نتيجته إلا تقديم هدية مجانية لأعداء الديمقراطية بفتح جبهات الصراع بين أطياف الحركة الإحتجاجية و الزيادة في التراشق بين معتنقي قضية الشعب ففي الوقت الذي يستلزم توحدهم و الوقوف وقفة واحدة في وجه نواميس الإستبداد يكتفون بترقب أية محاولة لإعادة بناء صرخ الصوت النضالي قصد نسفها . و على سبيل الختم فالمعَاين حاليا في المشهد السياسي يقتضي الوقوف وقفة تأمل مع الذات المناضلة لتشخيص الإخلالات و إيجاد الحلول الناجعة لإحياء الزخم النضالي قصد مواصلة مشوار الضغط بكل الوسائل الممكنة لإنتزاع المكاسب المتوخاة و تحقيق جزء من الإنتظارات المطلبية ، عبر الإستفادة من زلات الامس و القطع مع الفكر الاحادي بين الاطياف و التيارات المناضلة ، فالمعضلة القائمة بنيوية بالاساس و تقتضي عملا مشتركا فالأهم هو نشر الثقافة الإحتجاجية و ليس الإنكباب على ترقب قطف الثمار التي تحتاج لعقود . التاريخ وحده من سيقَيم و هو من سيحكم و يفصل بين المتخاذل و المخلص فما يحدث الآن هو محاولة من النظام السياسي لخلخلة الاولويات النضالية و رغبة منه في إركان الحركة الإحتجاجية و إضعافها لتقوم بردود الافعال و ليس الأفعال .