من المعلوم أن النظام السياسي المخزني إنبنى على التصور الكولونيالي المرسوم من طرف ليوطي الذي يعتبر المهندس الأول لصورة المخزن المركب من ثنائية التقليدانية و النمط الحديث للجهاز المخزني ، فالأولى حافظت على النمطية المخزنية التقليدية القائمة على شرعية دينية بالأساس تصوره كنظام إسلامو_ديني تجعل منه مؤسسة مقدسة بشرط ديني يضمر نزوعا عروبيا على غرار الفكر البيلفوري الذي ينظر للنظام السياسي كحارس ديني يقوم بواجب الذود على الدين أكثر من تحقيق هدف سياسي إستراتيجي ،و الثاني يتجلى في توصيف النظام المخزني بالشرط السياسي القائم على التعاقد بين الحاكم و المحكوم وفق صيغة التوافق من خلال إستصدار أول دستور ممنوح سنة 1962 ، الذي خول للمخزن لعب دور مزدوج يتجلى في شرعية دينية قائمة على العروبة و الإسلام محصنة بالنسب الشريف و إمارة المؤمنين ، و من جهة ثانية هنالك حضور لمشروعية سياسية للمخزن في التواجد تتمظهر من خلال تحكم المؤسسة الملكية في إستصدار السياسي بصفة أحادية لا تقبل التشارك عبر شخصنة الدولة بأكملها في هذه المؤسسة بإعتبارها الحافظة لوحدة الأمة و الذائدة عن سلامتها و إمتلاكها للسلطة التشريعية و التنفيذية و القضائية عبر التحكم في جميع مؤسسات الدولة التي علقت وظائفها وفق إرادة دستورية غير متوافَق عليها أصلا فالمؤسسة الملكية لها ان تحل الحكومة و البرلمان و تعلن الحرب و لها أن تدعو إلى تعديل دستوري و هذا تناقض صارخ بين الشرط الديمقراطي لممارسة الحكم بشكل ديمقراطي الذي يقتضي التوافق و الرجوع إلى الشعب كمنطلق و منبع القرار السياسي و بين الشعارات الرنانة المرفوعة من قبيل رغبة الدولة في إنفراج سياسي لدمقرطة هياكل الدولة التي لا تزال متسمة بصفة الإستبداد ، و إن الحديث عن حضور طابع المقدس في عمق بنية الدولة المخزنية يقتضي إستحضار الإشارة لمجموعة من الطابوهات السياسية التي تحمي هذه البنية المخزنية من الخلخلة و تصون الهرم الوظيفي للمخزن من أي شريك محتمل قد يشاركه وظيفة إستصدار القرار السياسي العمودي بالأساس و الجاهز الذي لا يقبل نقاشا أوليا حوله قبلا ، و لا نقدا و تحليلا بعده . 1. شخصنة الدولة : المخزن هو الدولة و الدولة هي المخزن . قبل الإستقلال الشكلي 1956 الضامن لمصالح القوى الكولونيالية قبل الإنسحاب الشكلي ، كان المخزن جهازا قائما على شرعية الحكم من زاوية الإمتياز الإنتسابي لعائلات مشرقية قيل انها تنتمي لسلالة النسب الشريف ، ذلك أعطى إمتيازا في إحتكار السلطة بعد إشاعة فكر مفاده أن أحفاد النبي (ص) لا يخطئون ،و قد ظل المخزن يستغل سذاجة الشعب و تصديقه بالحيلة فتمادى في النهب و السلب بإسم الإلاه و الرسول حتى بدأت تبزغ ملامح خروج القبائل عن طاعته و إعلانها العصيان و التمرد الذي توالى حتى كان العرش المخزني قاب قوسين من الإنهيار لولا إستقدام المستعمر لحماية تواجده السياسي ، و بعد 1912 ظهر المخزن في شكل المستسلم لإملاءات المستعمر الذي يرسم خريطة كل شيء و يحكم و يسود إلى جانب الإستئناس به كورقة يواجَه بها قوة المقاومة المسلحة بمساندة المتخرجين من مدارس المستعمر المنتمين للعائلات التي تربطها بالمخزن علاقات التصاهر و الصداقة ذات الهدف المشترك في إبقاء صورة المخزن حية رغم تواجده في حالة موت سريري مع إشتداد قوة المقاومين و ظهور المخزن في صورة المتآمر على الشعب و عبء يثقل كاهل المتسمين بالوطنية التي إفتقدها المخزن و حاشيته ممن اطلقوا على نفسهم لقب الوطنيين زورا و بهتانا . وفي مطلع الأربعينات و مع تغير موازين القوى الدولية و الإقليمية بعد بداية الحرب العالمية الثانية ، إرتات فرنسا ان تواجدها المباشر يخسرها الكثير و عمدت إلى إيجاد صيغة تحمي من خلالها مصالحها بالمغرب بعد الإنسحاب الذي ظل مسألة وقت و فقط ، و إستقر الرأي على تكريس نمط ممزوج بين التقليدانية و التحديث يعمق تواجد المخزن و يحميه من الشعب و هو النمط القدسي للمخزن الذي يعطيه إمتياز الإعلاء و السمو و يجعله في مرتبة فوقية من النقد و المحاسبة بإعتباره المتحكم الأول بالقرار السياسي و المنزه عن الخطأ الذي تتحمل تبعياته جهات أخرى خلقت من رحم المخزن لتكون حائط صد و كبش فداء سياسي يتحمل الهفوات المترتبة عن خلل النظام ، ذلك ما أدى إلى إستخدام المخزن للقمع و التصفية و الإعتقال و الإختطاف في حق كل من يحاول فتح نقاش سياسي يهدف إلى جرد الإخلالات للخروج بخلاصة صياغة البدائل الممكنة التي تشكل خطرا حقيقيا على النظام السياسي لأنها ستنجح في تحميله صائر الوضع المتأزم و ستجعل إطلاقيته الوجودية أمام محك حقيقي بعد بلورة أي طرح سيكون فيه صوت الشعب طرفا في إستصدار القرار السياسي و مشاركا في الحكم كبديل عن الخلل البنيوي المترتب عن إكراه الشعب للقبول باوامر السلطة العليا و الإمتثال لها و ذلك ما يتضح لنا بالملموس في مجموعة من المحطات التاريخية أبرزها أحداث 58_59 و 65 و84و2011 و لا تزال سارية المفعول إلى يومنا هذا بإعتبار ان فتح نقاش عن سبل الدمقرطة و التنظير لدولة ديمقراطية هو في رأي الدولة عمالة أجنبية و محاولة لتشييع الفوضى و مساس بالحكم بل حتى إعتناق فكر متطرف كفكر تنظيم القاعدة الإرهابي ، كل ذلك للحفاظ على شمولية المخزن و إعلاء المؤسسة الملكية عن دائرة النقد ، بإعتبار ان الدساتير المتعاقبة تكرس مبدأ التطابق بين الدولة و الملك فهو مؤسسة سياسية كاملة و هو ممثل الدولة و هو امير للمؤمنين و رئيس دولة و قائد أركان الجيش و المتحكم في سراديب الحكومة و البرلمان فالدولة حسب هذه الدساتير لا يكمن أن تكون خارج نطاق هذا النوع من الحكم الأحادي المشخصن للدولة في شخص الملك كمركز لمؤسسات سياسية تقتضي الإجماع في حالة توفر أدنى شروط الديمقراطية المغيبة بإرادة عليا ، و عليه فالمؤسسة الملكية عملت جاهدة على الحفاظ على قدسيتها و جعل إقحامها في أي تصور سياسي تعديا للخطوط الحمراء و مسا بمهابة الطابو الحامي لأركان دولة المخزن . 2_ الطابو المخزني : من هو و كيف يشتغل ؟ من منطلق الصبغة المعقدة لتركيبة النظام المخزني المكونة من مجموعة من السجايا الدستورية المخفية في الدساتير الممنوحة التي تجعله" دولة جزء تسود على دولة الكل" ، بتغييب الشرط الديقراطي لمفهوم الدولة الذي يعتبر الشعب كمرجعية قاعدية و ليس كمتلقي للقرارات الجاهزة ،و للحفاظ على ركن الملكية منبع الدولة و وجهها التمثيلي تمت حياكة تمثيلية أقرب إلى دراما مسرح العبث ، فالدولة دستوريا هي دولة المؤسسات ، لكن عندما نتمحص هذه المؤسسات نجدها كالتالي . _ حكومة تفرزها رؤية الركن المخزني و نظرته لمسايرة المتغيرات الآنية التي يشهدها الفكر المجتمعي الشعبي لكن ليس لتلبية رغبات الشعب و الإستجابة لتطلعاته ، بل لتحصين شكل الدولة الخفي من أي عاصفة وعي شعبية بمدى السلطوية الممارسة عليه من طرف دولة الجزء ، لذلك كانت الحكومات من قبل من إختيار المؤسسة الملكية وقوفا عند مزاجها السياسي و رغبة منها في تكريس نمط الاحادية و بعد 2007 و مع الحديث عن الإنتقال الديمقراطي تم إشاعة مبدأ الحكومات المفرزة من صناديق الإقتراع مع العلم أن الصناديق متحكم بها عن بعد بمقاربة وزارة الداخلية التي ترسم الأفق الإنتخابي قبل حدوثه بأوامر من خفافيش سياسية تقف ظلا وراء حكومة التلفزة العابرة المكونة من دكاكين أقرب ما تكون من أحزاب سياسية تم إقحامها في المشهد السياسي لتبيين المتغيرات اللحظية و إبقاء أصل القرار منها ثابتا أي أنه تم تسطير رقعة ضيقة لأحزاب تم قولبتها خلقت لتكريس الطاعة و تطبيق الأوامر و مناقشة قرارات في البرلمان الناتج عن هذه الإنتخابات المصنوعة الذي يفتقد لأية ميزة أو قدرة مستقلة لتجديد النسق التشريعي و تحديث أدواته ، كيف يفعل ذلك و المنتخب قد أتت به إرادة الداخلية قبل ان تأتي به شراء الذمم و الأصوات ؟ و الأدهى تواجد رؤوس الأحزاب على رأس الكونفيدراليات و النقابات التي تدعي تبنيها لِهَم المواطن (الرعية) لذلك فهي تحاول إيقاف مد الوعي بالحقوق و الواجبات أكثر من أي شيء آخر بل و تحاول توهيم السواد الأعظم من دولة الكل بتغيير شعاراتي لم يجد له في الواقع منفذا . حتى رؤساء المجالس العليا يتم تعيينهم وفق بروتوكول غير متفق عليه لتعمل هذه المجالس على الإجتهاد ما أمكن لبلورة رؤية طرح ناجح يوَتِد تمكين دولة الجزء من التحكم في كل مشارب دولة الكل عبر إفراز خطط مبهمة و غير مفهومة مدسوسة بمفاهيم تقليدية تجعل من الديمقراطية شعارا خياليا يجب عرقلة تفعيله في دولة الكل ، و هنالك إعلام تطل دولة الجزء من نافذته لتغليط الرأي العام و إظهار أنها تقوم بخطوات جبارة من أجل الرقي بدولة الكل نحو الأفضل مع العلم ان الملاحظ هو إستمرار نفس الخطة القديمة السفسطية لتغيير الظاهر الزائف لإبقاء عمق الداء مستقرا ثابتا . الوضع الدولتي متأزم في دولة الكل فهنالك تدهور ملحوظ في مؤشر السعادة و الرضى و البطالة تنخر القدرات الشابة و الصحة مريضة في دولة الكل و التعليم قابع في زنزانة فشل المنظومات المتعاقبة التكليخية و الإستئصالية و الحقوق مغيبة و الحديث عنها تهمة بالخيانة ، و مؤشر الإقتصاد إختار ان يسلك مسلك الإنخفاض المهول و القدرة المعيشية و الشرائية تعاني فقرا و خصاصا في هرمونات النمو ،و القضاء ينصف ذوي النفوذ و لا يعير للمظلوم أهمية دنيا إن كان الظالم ينتمي لدولة الجزء ، كل هذا و الحكومة مفعول بها و مكبلة بنص قانوني و البرلمان أحْدِث بإنتخابات متحكم بها و الصوت الحر مكبل بدعوى التحريض على الفتنة ، أي أن مؤسسات الدولة من حكومة و برلمان مجرد بيادق مشردة و متسعكة في المشهد السياسي سيتم تغييرها وفق حاجة القوة المقدسة المتحكمة في أحجار رقعة الشطرنج كي تسقط كلها من أجل ألا يسقط سيد الرقعة ،فالمعضلة بنيوية هنا تتجاوز الدستور و الحكومة و البرلمان و باقي غرف الإستئناس السياسي التي لا حول لها و لا قوة و هي غير مسؤولة حتى في قراراتها الشخصية و متحكم فيها حتى في لون البذلة و ربطة العنق التي سيرتديها المنظوين تحت لوائها هي ليست مسؤولة بالطبع و هي تأتمر بأوامر الآمر المقدس كي لا يتحمل مسؤولية ما أمَرَ به ، الآمر هو الطابو و السائل عنه مشروع معتقل فعلى دولة الكل ان لا تسأل و لا تفكر أيضا فهناك من يفكر مكانها و هناك طابو يفصل بينها و بين تحررها و خلاصها فهي خلقت للإمتثال و ليس لمزاحمة الطابو في قدسيته ، فالديمقراطية تشترط أن تكون إرادة الشعب وحدها المقدسة و لكن دولة الجزء إختارت عكس ذلك لإبقاء دولة الكل سوقا إستهلاكيا للأوامر و ليس مصدر صنع القرار . 3_ أنوزلا و الطابو . إتسمت الكتابات الصحفية لعلي أنوزلا و تحاليله بنوع من الدقة في التمحيص و التشريح التي يفتقدها الكثير من الكتاب و الصحفيين ، فهو يركز دوما على توصيف العلة بالرجوع إلى بنيوية النظام السياسي و إستطاع بذلك تحطيم الطابو الذي يريده النظام المخزني بعيدا عن التشريح ، فالكتابات الأنوزلاوية عرفت بتوغلها إلى ما وراء السطح التحليلي لتصل إلى المسؤول الحقيقي عن الوضعية السياسية الراهنة و دراسة هذه المؤسسة المتحكمة في القرار السياسي مع إحاطتها بتفكيك الشفرات السياسية المرتبطة بها و الشبكات السياسية الداخلية و الخارجية المرتبطة بها ، و هذه النوعية من التحاليل و الكتابات هي التي تجعل النظام السياسي يرتعش و تهتز به الاركان لكونها تضع شرعيته و وجوده تحت المجهر للتوصل للخلاصات و إستنتاج الوسائل الأداتية التي يشتغل بها ، و ذلك ما يتضح لنا جليا عند تفحص كتاباته حول الصحراء و السياسيات الداخلية و إنتقاده للآليات الديبلوماسية المخزنية التي جعلته متحكم به من طرف الأنظمة الخليجية . إن إعتقال علي أنوزلا هي رسالة مخزنية واضحة مفادها ان النظام السياسي لن يتساهل مع كل قلم يحاول تفكيك شفرته الإئتمانية السياسية التي تعريه من طابع القداسة الموهومة التي يضفيها على نفسه ، و لعل توحد الاذيال المطيعة للنظام السياسي في مباركتها لإعتقال أنوزلا و محاولة إضفاء الشبهة عليه و هو الحر الثائر المتسم بالنزاهة و المصداقية ، هي الدليل الأوحد الذي يوضح تخوف النظام السياسي من قلمه الذي ينير المسلك لمن يحلم بوطن ديمقراطي ، فليس غريبا أن تصطف أركان الاحزاب و النقابات و الجمعيات التي تشتغل باوامر المخزن و نواهيه و توحد صفوفها لتطبل أن بعلاقة أنوزلا بتنظيم القاعدة و تبارك البيان المفروغ من اي مضمون الذي خرج به الخلفي و الذي يعتبر تدخلا في شؤون القضاء إن كان هنالك قضاء أصلا ، و إنها لمفارقة عجيبة في بلد الإستثناء أن يعتقل من ينشر رابطا يتضمن فيديو شاهده العالم بأسره في اليوتوب ، هنا يحق لنا التساؤل ، من هو الوطني ؟ هل انوزلا الذي حاول هذا التنظيم الإرهابي المسمى بالقاعدة و المتأبط شرا للمغرب ؟ أم من يحاول تكميم الافواه و حجب المعلومة عن المواطن حتى يحدث ما لا يحمد عقباه ؟ إن إعتقال انوزلا هو إعتقال للصوت الحر الذي يتوق لمغرب أفضل و في إعتقاله ضرب سافر للحقوق الكونية و العهود الدولية التي صادق عنها المغرب فيما يخص حرية الفرد في التعبير عن رأيه و هو تنكر لأية نية حسنة للدفع بعجلة حرية الإعلام نحو الأمام ، فالقاصي و الداني يدرك ان لا علاقة لأنوزلا بالقاعدة و إعتقاله سياسي و محاكمته صورية بإمتياز لأنها تحاكم رجلا غيورا على الوطن على غيرته و محبته لوطنه .