لم تختلف ردود الأفعال على الرد الإيراني بخصوص استهداف قنصليتها في دمشق الذي تجسد في إطلاقها لعشرات الصواريخ والطائرات المسيرة عما كان سائدا بين أنصارها وخصومها في تفاعلهم مع السلوك السياسي الإيراني، وقد كان هذا متوقعا فأنصارها يعتبرون كل خطوة يخطوها الإيرانيون إثباتا على صدق التزامهم بخط الممانعة والدفاع عن المستضعفين، أما خصومها فقد سكنتهم نظرية المؤامرة وكل فعل يصدر منها بخصوص مواجهة الأمريكان والكيان الصهيوني ما هو في نظرهم إلا تمثيل في تمثيل، لذلك سارع أغلبهم إلى اعتبار أحداث ليلة السبت الماضي مسرحية معدة سلفا بتنسيق مع أعدائها. الحقيقة أن المزاج المتطرف الناجم عن حدة الاستقطاب بين أنظمة المنطقة واستثمار الورقة الطائفية للجذب أو التنفير يؤدي إلى اللجوء للأحكام الجاهزة مما يحرم نخبنا من استيعاب التغيرات الطارئة في مشهدنا السياسي، وهي عمليا لا تهتم بأخطائها في التشخيص وفي المعالجة لأن أغلبها مكلف بمهمة إسناد كيانات سايكس بيكو العاجزة عن شرعنة وجودها بغير إثارة النعرات التي تقطع أوصال الأمة العربية والإسلامية، غير أن أخطر ما تتسبب فيه لجماهيرها هو دفعها إلى العبث والعبثية فلا شيء منطقي ولا شيء مفهوم في هذا العالم، فحين يصر بعضهم على أننا أمام مسرحية كبرى بين "الفرس" والصهاينة فإنه يفرض علينا أن نصادم حقائقا واضحة وإصرارنا على إنكارها يفقدنا الرزانة. فلا يشفع لإيران استهداف قنصليتها أو اغتيال سلسلة من مسؤولي النظام الإيراني الكبار أبرزهم قاسم سليماني وآخرهم رضا زاهيدي أو تصفية عدد من علمائها أو استمرار العقوبات الاقتصادية عليها أو الدعم الغربي لكل الحركات والاحتجاجات الداخلية أو دعم إيران لقوى المقاومة الفلسطينية التي أقرت به وشكرتها عليه أكثر من مرة أو ضربتها الأخيرة ل"إسرائيل" لتقنع خصومها بحقيقة العداء بينها وبين الكيان الصهيوني ومسانديه، فإذا لم يعبر هذا كله على العداوة فكيف تكون العداوة الحقيقية إذا؟ وإن كان كل ما جرى بين الطرفين مؤامرة فعلى من يتآمران؟ هل يعقل أن تتآمر إيران على من هي أقل منها سقفا في معارضة الكيان من تلك الكيانات الوديعة المستسلمة ممن اصطفت مع الصهاينة لعرقلة هجوم ليلة 13 أبريل؟ الأمر جلي وهو مرتبط بسطوة الهاجس النفسي على مقاربة الموضوع الإيراني وبرفض أن يسبقهم عدوهم الإقليمي إلى حيازة شرف دعم المقاومة الفلسطينية، ونحن هنا لا نطلب الوفاق بين كل الفرقاء في المنطقة فسلوك الغيرة بينهم سلوك طبيعي والذي يجب أن يدفعهم لعدم ترك منافسهم يتصدر المشهد المقاوم ففي ذلك فليتنافس المتنافسون، فالأولى أن يركزوا على خيانة الحكام العرب وتآمرهم المباشر على القضية الفلسطينية حتى يدفعوا بلدانهم للقيام بواجباتها تجاه قضية القدس والمسجد الأقصى وحتى ينهوا احتكار الإيرانيين لهذا الملف، لكن غير الطبيعي هو أن يتمنوا انتصار العدو الصهيوني على الطرف الإيراني أو أن يتبنوا الحياد أو أن يتمنوا التحاقه بركب المطبعين فإن لم يلمسوا أي تغير في جبهته أوهموا أنفسهم بمؤامرة خفية، وكل هذا حتى يبرروا لأنظمتهم التي يوالونها مواقفها المتساقطة. لكن هذا لا يعني أن نبرر مجمل السلوك السياسي الإيراني فلا ننكر براغماتيته وإفراطه أحيانا في الحسابات السياسية مع القوى العظمى التي تجعله يجمد بعض مبادئه الكبرى لقاء مكاسب آنية كتلك التي حصلها بتعاونه مع المحتل الأمريكي في العراق وبدرجة أقل في أفغانستان، ولا ننكر أيضا دافعه الطائفي في إسناده لحزب البعث السوري ضد ثورة شعبه هو الذي بنى شرعيته على ثورة شعبية، في المقابل فقد حافظ النظام الإيراني على التزاماته بالقضية الفلسطينية وإن تسببت تصريحات رموز دولته وحلفاؤها التصعيدية ضد الجانب الصهيوني في رفع سقف تطلعات الجماهير الشيء الذي أدى إلى نوبات من الإحباط عندها، فقد توقعت تفعيلا أكبر لشعار وحدة الساحات وانخراطا أوسع في معركة طوفان الأقصى. عموما فإن الضربات التي وجهتها إيران للعدو الصهيوني قد حققت هدفها الرئيسي المتمثل بتوازن الردع الشيء الذي جعل جمهوره ينام ليلة بيضاء وقادته يتسولون الدعم الخارجي وهم في ملجئهم الحكومي، فأيا يكن أثر تلك الضربات المادي فقد تسببت في استباحة أمن كيان حرص مسؤولوه على كي وعي من يطاله، ولنتذكر أن الرئيس العراقي السابق صدام حسين دفع الثمن من نظامه ومن حياته لقاء إطلاقه عشرات الصواريخ عليه وإن لزم "تأديبه" مرور أكثر من عقد على قصفه له. الحاجة ملحة للقطع مع معايير نظرية المؤامرة غير المنضبطة والتي تشكل صداعا مزمنا لمن أراد أن يفهم مجريات الأحداث على ضوئها، لأنها تتغاضى عن الأخطاء الذاتية وتركز على شيطنة الآخر، فهي تفترض أن الخير لن يأتي منه أبدا فيحول عدم الإنصاف دون تصحيح الأوضاع. ويظهر هذا بوضوح في التعاطي مع الشأن الإيراني فكلما حققت الدولة الفارسية مكاسب على الأرض كلما زادت مكابرة البعض.