بنموسى يعلن قرب إطلاق منصة رقمية لتعلم الأمازيغية عن بعد    أمل تيزنيت يكتفي بالتعادل خارج ميدانه أمام إتحاد سيدي قاسم    طقس الثلاثاء..عودة الأمطار بعدد مناطق المملكة    لماذا يجب تجنب شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خصوصا في الصيف؟    الصحافة الإسبانية تتغنى بموهبة إبراهيم دياز    مخرج مصري يتسبب في فوضى بالمهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة    تصفيات مونديال 2026.. أسود الأطلس يواجهون زامبيا والكونغو    ميراوي محذرا طلبة الطب: سيناريو 2019 لن يتكرر.. وإذا استمرت المقاطعة سنعتمد حلولا بخسائر فادحة    انقلاب سيارة يخلف إصابات على طريق بني بوعياش في الحسيمة    وزير العدل يعلن إجراء محادثات أخيرة مع جمعية هيآت المحامين حول قانون المهنة قبل طرحه في البرلمان    القوات المسلحة الملكية.. 68 عاماً من الالتزام الوطني والقومي والأممي    المداخيل الجمركية ارتفعت إلى نحو 28 مليار درهم خلال أربعة أشهر    "إسكوبار الصحراء".. هذه تفاصيل مثول لطيفة رأفت أمام محكمة الاستئناف بالبيضاء    المكتب المديري لأولمبيك آسفي يرفض استقالة الحيداوي    وزير التربية متمسك بالمضي في "تطبيق القانون" بحق الأساتذة الموقوفين    الأمثال العامية بتطوان... (597)    الفرنسي أوليفيي جيرو يعلن رسميا رحيله عن ميلان إلى "الدوري الأمريكي"    جائزة أحسن لاعب إفريقي في "الليغ 1" تعاكس المغاربة    جماهري يكتب: هذه الحكومة لا بد لها من درس في الليبرالية...!    تنظيم الدورة ال23 لجائزة الحسن الثاني لفنون الفروسية التقليدية "التبوريدة"    "أطلنطاسند" تطلق منتوجا جديدا يستهدف المقاولات الصغرى والمهن الحرة    الجمعية المهنية تكشف عدد مبيعات الإسمنت خلال أبريل    اليابان عازمة على مواصلة العمل من أجل تعاون "أوثق" مع المغرب    أضواء قطبية ساحرة تلون السماء لليوم الثالث بعد عاصفة شمسية تضرب الأرض    أمن ميناء طنجة يحبط تهريب الآلاف من الأقراص الطبية    النيابة العامة التونسية تمدد التحفظ على إعلاميَين بارزَين والمحامون يضربون    المركز الثقافي بتطوان يستضيف عرض مسرحية "أنا مرا"    أحزاب الأغلبية ترشح التويمي لخلافة بودريقة في رئاسة "مرس السلطان"    الاتحاد الأوروبي يرضخ لمطالب المزارعين ويقر تعديلات على السياسة الفلاحية المشتركة    أوكرانيا تقر بالنجاح التكتيكي لروسيا    المندوبية العامة لإدارة السجون تنفي وجود تجاوزات بالسجن المحلي "تولال 2" بمكناس    طقس الثلاثاء.. عودة التساقطات المطرية بعدد من الأقاليم    رشيد الطالبي العلمي في زيارة عمل برلمانية لجمهورية الصين الشعبية    الطلب والدولار يخفضان أسعار النفط    الزمالك يشهر ورقة المعاملة بالمثل في وجه بركان    شح الوقود يهدد خدمات الصحة بغزة    هام لتلاميذ البكالوريا بالناظور.. هذه هي تواريخ الامتحانات والإعلان عن نتائجها    سي مهدي يثور في وجه بنسعيد    إضراب وطني يفرغ المستشفيات من الأطباء والممرضين.. والنقابات تدعو لإنزال وطني    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الارتفاع يطبع تداولات بورصة الدار البيضاء    الدرس الكبير    السينما في الهوامش والقرى تشغل النقاد والأكاديميين بالمعرض الدولي للكتاب    هل انفصلت فاطمة الزهراء لحرش عن زوجها؟    مصر تُهدد بإنهاء "كامب ديفيد" إذا لم تنسحب إسرائيل من رفح    الأساطير التي نحيا بها    تراجع صرف الدولار واليورو بموسكو    فيلم الحساب يتوج بالجائزة الكبرى في برنامج Ciné Café    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    لماذا قرر حزب بهاراتيا جاناتا الهندي الحاكم أن لا يخوض الانتخابات في إقليم كشمير؟    "إغلاق المعبر يعني أن أفقد قدمي الثانية" شهادات لبي بي سي من مرضى ومصابين في رفح    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    الأمثال العامية بتطوان... (596)    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأبعاد السياسية والقانونية للفصل 19 في الدستور المغربي
نشر في لكم يوم 04 - 04 - 2011

اختلفت آراء أساتذة القانون الدستوري وعلم السياسة والمهتمين بالشأن السياسي في المغرب حول تفسير وضعية أمير المؤمنين وصلاحياته الدستورية، فمنهم من رأى أن سمو المؤسسة الملكية فرضتها ضرورة "إعطاء العرش وصاحبه القيمة القانونية التي يقتضيها العهد الجديد، وإبعاد كل العوامل التي تزيل عنه صفة الاستقرار وحفظ التوازن الصحيح بين أفراد الأمة وطبقاتها وهيئاتها، وذلك يستوجب قبل كل شيء النظر إلى صاحب العرش جلالة الملك كشخصية فوق كل الأحزاب وسائر الاعتبارات السياسية التي يمكن أن يتنافس فيها الرأي العام بصفته الحارس الأمين لسير السلطة وأعمالها، ويجب أن تتكون من حوله صوفية الاستقرار الحكومي والوعي الوطني والاستمرار الوجودي للدولة".
فيما اعتمد آخرون على المفهوم الخاص للسلطة المبني على الطابع الشريفي للمشروعية وعلى هرمية الأجهزة والقواعد القائمة على وجود الله، فرسوله، فسبطه، فالأمة، فنوابها، فالناخبين، حيث لا يوجد على رأس هذه الهرمية الدستور، وإنما الملك بعد الله ورسوله، وما دام الملك سابق على الدستور، فإن هذا الأخير لا يقيد سلطته، لأن الملك يستمد سلطته من الله والرسول.
وهناك من اعتبر أن تنصيص الدساتير المغربية على مفهوم أمير المؤمنين وعلى صلاحيات متعددة للملك، وتكريس سمو المؤسسة الملكية بالمقارنة مع باقي السلطات، ورفض الجمعية التأسيسية، يدل على رفض قيام مشروعية جديدة ديمقراطية منافسة لمشروعية الملكية الدينية والتاريخية السابقة على الدستور.
فأين يتجلى دستوريا سمو المؤسسة الملكية؟ وهل الفصل 19 الذي ينص على مفهوم إمارة المؤمنين يعطي للملك حق التصرف في الشأن العام دون ضوابط وبشكل يتنافى مع المشروعية؟ وما هي الإبعاد القانونية لمقتضيات هذا الفصل؟ وهل التنصيص على مفهوم إمارة المؤمنين هو الذي يعفي الملك من المسؤولية والمحاسبة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه الدراسة.
اختلف الفقهاء السياسيون والدستوريون ورجال القانون حول الأبعاد القانونية للفصل 19 نظرا لاختلاف مرجعياتهم الفكرية وميولاتهم الذاتية مما نتج عنه اختلاف في القراءة السياسية والقانونية لهذا الفصل.
فقد اعتبر بعض الباحثين أن هذا الفصل جعل الدستور المغربي يتكون من طبقتين عليا وسفلى، وأنه بمثابة دستور داخل الدستور، فيما رأى فيه اتجاه آخر دسترة للحق الإلهي، وذهب بعض الفقه الدستوري المغربي في تحليله للفصل 19 إلى القول إن أمير المؤمنين "لا يستمد صلاحيته من الدستور بل يستمد مهامه من الكتاب والسنة"، وإن "ممارسة السلطات الخليفية استنادا إلى قراءة النصوص الشرعية التي تشير إلى ما أناط الله به الخليفة، يعطي للملك مجالا للممارسة لا حدود له".
غير أنه بالرجوع إلى الفكر الدستوري المعاصر وللخبرة التاريخية للحكم الإسلامي ومن خلال قراءتنا لمقتضيات الوثيقة الدستورية نرى أن الاتجاه الذي يوسع من صلاحيات الملك خارج المقتضيات الدستورية على أساس مفهوم إمارة المؤمنين المنصوص عليه في الفصل 19 قد حاد عن الصواب، وذلك لعدة اعتبارات:
أولا: الدستور هو بمثابة التعاقد السياسي بين ولي الأمر والأمة تلزمهما مقتضياته، فالطرفان اختارا تقنين صلاحيات ولي الأمر وباقي المؤسسات في شكل وثيقة دستورية مكتوبة حددت نطاق مهام ولي الأمر، وبالتالي فإن المؤسسة الملكية تقوم بمهامها وصلاحياتها وفق ما هو منصوص عليه في الدستور.
صحيح أن الملك باعتباره أمير المؤمنين ورئيسا للدولة المغربية كان يمارس عبر التاريخ مهامه وصلاحياته في مختلف المجالات باسم الشريعة الإسلامية، لكن في المرحلة الدستورية أصبح خاضعا لما هو مقرر في الوثيقة الدستورية.
فبعد تراضي الأمة المغربية وولي أمرها على الدستور بمقتضى التصويت بنعم على الاستفتاء الدستوري، التزم أطراف التعاقد بالاشتغال في نطاق مقتضيات الدستور. وما يؤكد ما نذهب إليه ويفند الطرح الذي يتبناه الاتجاه الذي يوسع صلاحيات الملك انطلاقا من دسترة مفهوم إمارة المؤمنين في الدستور، هو لجوء الملك سنة 1965 إلى مقتضيات النص الدستوري (الفصل 35) لمواجهة الظروف السياسية بعيدا عن الفصل 19، فقد قال الملك الراحل الحسن الثاني: "ارتأينا للخروج من حالة الانحلال التي تجتازها البلاد أن نستعمل حقنا الدستوري الذي يعطينا جميع الصلاحيات لاتخاذ كل تدبير يفرضه رجوع المؤسسات الدستورية إلى سيرها العادي". الملك استعمل الحق في الإعلان عن حالة الاستثناء الذي خوله له الدستور لإنقاذ البلاد، بعد أن استبعد الحلول الأخرى التي خولها له الدستور كحق حل البرلمان أو تشكيل حكومة جديدة. فالملك لم تصدر منه أية إشارة تفيد أنه أعلن حالة الاستثناء باعتباره أميرا للمؤمنين يملك صلاحيات لا حدود لها. إذ لو كان صحيحا أن سلطاته غير محدودة لكونه أمير المؤمنين بمقتضى الفصل 19 لاكتفى بهذا الفصل أو قام بتجميد التعاقد الدستوري أصلا. فالملك بتقيده بمقتضيات الدستور في مواجهة الظروف والصراعات السياسية التي عاشها المغرب في ظل التعاقدين الدستوريين 1962 و1970، وعدم استخدامه للفصل 19 بالمفهوم الذي قدمه أصحاب هذا الاتجاه، إنما كان متقيدا بالنص الدستوري وبالمفهوم المعاصر لدولة الحق والقانون الذي يعني أن جميع المؤسسات، في إطار احترام الشرعية، مطالبة بالخضوع للقانون، بحيث لا ينبغي لمؤسسة أن تخضع للقانون وأخرى تخترق القانون المتفق عليه.
والمغرب باختياره الحياة الدستورية اختار التزام المؤسسات والسلطات في الدولة، بما فيها المؤسسة الملكية، بالمنطق القانوني والخضوع لمقتضيات الدستور والقوانين. والمنطق القانوني يفرض أن تلتزم المؤسسات الدستورية والسلطات العمومية في ممارستها للسلطة للضوابط القانونية، وبالتالي تمارس كل مؤسسة دستورية صلاحياتها في حدود ما تنص عليه الوثيقة الدستورية والأنظمة القانونية للدولة. ومن هذا المنطلق فالملك يفترض فيه أن يتصرف في إطار مقتضيات الدستور، ولا ينبغي له تجاوزها حتى تكون ممارسته للسلطة صحيحة. وعليه فالقول إن الفصل 19 يعطي للملك صلاحيات غير محدودة، وإن الفصل يمثل دستورا داخل الدستور فيه نوع من المبالغة والتضخيم، فالملك باعتباره أمير المؤمنين يمارس مهامه حسب ما تنص عليه الوثيقة الدستورية التي قننت صلاحياته، أي أنه أن يمارس السلطة في حدود ما اشترطت عليه الأمة. وهذا الوضع ارتضاه الملك نفسه حين انتقل إلى التعاقد الدستوري المكتوب الذي وافق عليه الشعب أيضا.
أما التنصيص على إمارة المؤمنين والجمع بينها وبين التنصيص على إسلامية الدولة في الوثيقة الدستورية فتفيد نظريا بأن الملك ملزم بالخضوع لمقتضيات الشريعة الإسلامية في ممارسة صلاحياته الدستورية، بحيث لا يمكنه تحريم حلال أو تحليل حرام، وهو مسؤول في ذلك أمام الله ثم أمام الأمة وذلك لا يعطيه الحق في التمتع بأية قداسة التي تحميه من أية مساءلة.
غير أن تأويل بعض الفقه الدستوري لمقتضيات هذا الفصل وسلوك النخب السياسية داخل أو مع المؤسسات في التعاطي مع القضايا السياسية والتشريعية جعلت الملك يتوسع في استعماله حسب الظرفية السياسية (ابتداء من ثمانينات القرن الماضي).
ثانيا: إن الربط بين إمارة المؤمنين وما تحمله من شحنة سياسية إسلامية وبين الحكم المطلق وما يشير إليه من ديكتاتورية وشمولية لا أساس له من الصحة، فتصوير الحكومة الإسلامية على أنها نظام دكتاتوري يكون الحاكم فيه طاغية له مطلق الصلاحيات، هو تصوير زائف وليس صحيحا. ذلك أن الشريعة الإسلامية ما خلعت على الحاكم سلطة مطلقة، فسلطة الحاكم رغم أنها العليا فإنها تخضع لتقييد هام جدا يأتي من التصور الإسلامي للشرع، فالدولة في التصور الإسلامي يؤسسها الشرع ويصونها، وواجب الحاكم إنما هو الدفاع عن الشرع وإعلاء شأنه والحفاظ عليه وفرضه. ولا يستطيع أن يوسع في حدود السلطة المخولة والمرسومة له بمقتضى هذه الشريعة وفي حالة محاولته فعل ذلك يكون تصرفه مخالفا للشرع، ويكون بالتالي مدان بارتكاب جريمة ضد القانون مما يعرضه للعقاب.
فالإسلام يقيم دولته على أساس أن الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم، وهو ما يعرف اليوم بسيادة القانون في الفكر السياسي الوضعي المعاصر. وكان الخلفاء الراشدون طوال فترة حكمهم يخضعون لقانون الشريعة ولم يضعوا أنفسهم فوق القانون أو يجعلوا من ذواتهم سلطة تعلوه وإنما كانوا في عين القانون متساوين برعاياهم مسلمين وذميين. فهؤلاء الخلفاء لم يخرجوا عن حدود الشرع وكانت حكومتهم مقيدة بالحدود ولم تكن مطلقة العنان.
ويرى الماوردي أن ميزة الدولة الإسلامية أنها تقوم على وحدة الدين والسياسة، والقانون الأعلى فيها للشريعة التي يخضع لها الحكام والمحكومين، وأن السلطة تحظى برضى الأمة التي توكلها إلى الحاكم عن طريق البيعة الاختيارية بدون إكراه أو غصب. ويؤكد ابن تيمية أن الشريعة هي أعلى مصدر للقانون، ومن ثم فإن الطاعة للسلطة تتحقق كلما كانت متفقة مع الشريعة، ويؤكد على ضرورة استشارة العارفين بالقانون الإسلامي وشريعته لإيجاد المنهج الصحيح والحلول المناسبة لمشاكل الأمة. فالإسلام لا يعرف السلطة المطلقة وإنما هي سلطة مقيدة بالكتاب والسنة وشرع الشورى كضمان يحول دون الاستبداد.
والدولة في الإسلام دولة مدنية والمجتمع هو مبرر وجودها تنشأ طبقا لمبادئ القانون الإسلامي وتقوم الهيئة الحاكمة فيها على هدى من وحي هذه المبادئ التي وجدت قبل وجود الدولة والأمة، والسلطان أو أمير المؤمنين الذي تنيبه الأمة عنها في رعاية مصالحها الدينية والدنيوية مقيد بها ولا يملك الخروج عليها. لذلك يرتبط تولي الحكام للسلطة بالبيعة، التي ليست حقا للإمام دون الأمة، وليست التزاما من جانب الأمة دون الإمام، بل هي التزام من الطرفين تجاه بعضهما، حيث يعتبر "ظافر القاسمي" البيعة عقدا ثنائي الطرف، الخليفة طرفه الأول والأمة طرفه الثاني، ويشترط لتحقيق مشروعية البيعة شروط ثلاثة هي: التزام الخليفة بأحكام الكتاب والسنة ، وتوفر الحرية الكاملة للأمة في البيعة وأن لا يكون هناك أي نوع من أنواع الضغط والإكراه وأن لا يشوبها أي عامل من العوامل التي يفسدها، بالإضافة إلى توفر إمكانية المعارضة والتعبير عن الرأي الآخر.
فقد قال أبو بكر عند بيعته "إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإذا أحسنت فأعينوني، وإن نازعت فقوموني". وقال الإمام مالك "لا يكون أحد إماما إلا على هذا الشرط". كما قال عمر بن الخطاب: "هي لكم علينا ولنا عليكم".
وعلى هذا الأساس تكون البيعة عقدا سياسيا وقانونيا ملزما يجمع بين أمير المؤمنين و الأمة، وتكون الوثيقة الدستورية وما تتضمنه من قواعد وشروط لانتقال السلطة وممارستها بمثابة عقد البيعة. وهي تمكن الأمة من اختيار متولي شؤونها ومحاسبته خلال فترة حكمه، وتترتب عليها التزامات على الطرفين الحاكم والمحكومين. ومن بين هذه الالتزامات حرص أطراف العقد على احترام مسطرة البيعة وبنودها لتولية السلطة، وممارسة الشورى في تدبير الشؤون العامة، وأي خلل في هذه الالتزامات يؤدي إلى المساءلة والمحاسبة على أساس مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يحق للأمة أن تنازع أميرها وتُسائله أمام القضاء في حالات الفساد السياسي والاقتصادي وفي حالة الخيانة العظمى.
وهذا ما جعل الكثير من الباحثين يعتبرون أن السلطة في الدولة الإسلامية هي للأمة من منطلق:
أن الخليفة ما هو إلا نائب أو وكيل في ممارسة السلطة وليس بصاحب لها وقد منحت له هذه السلطة باعتبار صفته وليس لذاته.
أن الشريعة تنظر للأمة كوحدة لها كيانها المستقل وتخاطبها مباشرة بأوامرها وتكلفها بتنفيذها، فالخطاب القرآني في كثير من آياته يتوجه في الأمور العامة إلى المؤمنين أي إلى الأمة الإسلامية كلها، كقوله تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ.."، وهناك آيات قرآنية أخرى جاء الخطاب للمؤمنين آمرا بأداء الأمانة إلى أهلها والحكم بالعدل والوفاء بالعهد وتنفيذ الحدود وقتال الفئة الباغية. وفي توجيه القرآن الخطاب في تلك النصوص وأمثالها إلى الأمة دليل على أنها هي التي تتحمل مسؤولية إقامة الدين وشرائعه ورعاية المصلحة العامة، وبالتالي فهي صاحبة السلطة لقاء ما تحمل من مسؤولية كبرى.
ويؤيد هذا الدور المعترف به للأمة قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة"، أو كما جاء في رواية أخرى: "سألت ربي ألا تجتمع أمتي على ضلالة وأعطانيها"، بمعنى أنه متى اجتمعت الأمة على رأي كان هو الحق، وكان واجبا الأخذ به لأنه صدر ممن له حق السلطة.
أن الشريعة أوجبت على الحكام الرجوع إلى الأمة لاستشارتها في الأمور الهامة، وقد تقرر ذلك في نصين صريحين من نصوص القرآن: "...فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ..." وقوله تعالى "..وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ...".
أن الأمة مصدر السلطة بما فيها سلطان الخليفة، إذ الموجب لعقد الإمارة في الدولة الإسلامية هو الأمة، فهي التي نصبت الحاكم في منصبه بموجب عقد البيعة له، ويظل الإمام في مركزه يمارس صلاحيته وفق مقاصد الشرع مراعيا المصالح الدنيوية والدينية للأمة. كما أن الأمة هي صاحبة السلطة الأصلية في وقف وعزل أمير المؤمنين كلما تبين لها إخلاله بشروط العقد، واختيار أمير جديد يتولى أمرها وفق شروط يعود للأمة تحديدها.
ثالثا: إن التسليم بأن نظام الحكم في الإسلام يقوم على أساس أن السيادة للشرع "القرآن والسنة" والسلطة للأمة. يعني أن الأمة الإسلامية التي لها حق ممارسة مظاهر السلطة، يجب أن تحتكم إلى القرآن والسنة الصحيحة، مما يفضي إلى تحرر الأمة من تسلط أي أحد يحكم باسم الحق الإلهي. فالقرآن والسنة هما الحاكمان في هذه الأمة. وبالتالي فالتحليل الذي يوسع في مهام أمير المؤمنين إلى درجة تبرير صلاحياته بالاعتماد على الحق الإلهي الذي كان ملوك أوربا يتمتعون به، واعتبار إضافة لقب أمير المؤمنين في الفصل 19 بمثابة السند لصلاحيات الملك غير المحدودة على أساس أن الملك هو "ظل الله في الأرض"، تحليل يجانب الصواب لوقوعه في خطأ منهجي حينما انطلق من تاريخ الفكر السياسي الإسلامي والغربي، ولم يبحث في الأصول الشرعية للحكم. فقد كان واضحا أن هذا الاتجاه تأثر بما قرأه عن الحكومات الدينية النصرانية في أوروبا إبان العصور الوسطى، وبما درسه عن نظرية العقد الاجتماعي ومفهوم السلطة عند هوبز ولوك.
وقد اعتبر محمد حسن الوزاني نظرية الحق الإلهي "نظرية سخيفة لا تثبت أمام البحث العقلي، ولا توافق شريعة التوحيد مطلقا". وأوضح الوزاني أن هذه النظرية لم تتسرب في المسلمين إلا في عهد انقلاب الخلافة إلى حكم الاستبداد، فقد ظهرت في عصر الأمويين الذين كانوا ينصرون القدرية على الجبرية توخيا لأغراض سياسية، وعملت الدولة العباسية بالحق الإلهي بعد أن ألبسته حلة إسلامية. وتجلت هذه النظرية بالخصوص مع الشيعة لتأثرهم بالفرس الذين لما أسلموا أخذوا يلحظون الرسول ثم آل بيته لحظ التقديس كما كان شأنهم مع الأكاسرة.
غير أن الباحث "محمد معتصم" اعتبر أن إضافة لقب أمير المؤمنين في النص الدستوري لسنة 1962 بمثابة إعادة "إدماج الحق الإلهي في أدوات الحكم"، وأن النظام المغربي وظف التقاليد السلطانية وإمارة المؤمنين إلى جانب القانون الدستوري لحكم المغرب، ورأى أن سمو إمارة المؤمنين يرجع إلى ثمرة العمل الدؤوب للقائمين على تلك المؤسسة ونتيجة للدعم الذي عبرت عنه أغلبية الشخصيات المنتمية للنخبة السياسية المغربية، وذكر الباحث أن التشديد على إدماج الحق الإلهي ضمن أدوات الحكم كان بمبادرة من عبد الكريم الخطيب وعلال الفاسي، في الوقت الذي حرصت فيه الملكية على الشرعية العصرية لنظامها بالاستفتاء.
الشيء الذي يجد تفنيدا له في كتابات علال الفاسي، حيث جاء في كتابه المشهور النقد الذاتي ".. وهذه الثورة على الرهبانية بما آلت إليه في العصور الوسطى ليست منافية للدين الخالص بقدر ما هي موافقة له. والإسلام بصفة خاصة لا يمكنه إلا أن يحبذ كل ثورة تقضي على التحكم في العقول والأشخاص باسم الدين، أو تمنح طائفة من البشر مكان التشريع الديني والقداسة الروحية التي تجعلهم آلهة أو أنصاف آلهة، لأن أول ما منعه الإسلام هو تعبيد النفوس والأرواح لأي طغيان من طغيانات الإنس والجن، ولذلك فلا يمكننا إلا أن نكون في مقدمة الثائرين على كل نظام كهنوتي من شأنه أن يتدخل بين الأفراد وبين الله".
وتحليل الباحث "محمد معتصم" القائل بنظرية الحق الإلهي في النظام المغربي، ناتج عن فهم مغلوط شائع عن الفكر السياسي الإسلامي والحكومة الإسلامية يتصور أنهما تيوقراطيان تحت هيمنة رجال الدين. ونفس الطرح يقول به "محمد أكنوش" حول الخلافة حيث يعتبر إن "الحاكم الأسمى فيها مصدر كل السلط من واجبه الحكم وإقامة النظام انطلاقا من الوحي المنزل وكلام الله، والله هنا داخل المدينة والدولة، وهو الذي يملي عليها قواعدها وشريعتها، والإنسان لا يضع قواعد في مكان أو ساحة عمومية، بل يقتصر على الاستسلام، والخليفة ينبغي أن تكون له سلطة مطلقة، في حين أن على المؤمنين طاعته والقيام بواجباتهم الدينية أولا والدنيوية فيما بعد..".
غير أن الإسلام يخلو من طبقة الكهنوت أو أي وساطة بين الله والعبد، كما يخلو من أية هيئة كهنوتية هرمية البنية، ولا وجود في التاريخ الإسلامي لنظراء البابوات والكرادلة. والسلطة في الفقه السياسي الإسلامي هي خلافة للرسول وليست خلافة لله ولا توجد أي إفادة رسمية عن نيابة الله في الأدبيات الفقهية أو الفلسفية أو أدبيات السياسة عند أهل السنة. كما لا توجد أية إشارة قانونية أو فعلية تؤكد هذا الطرح، فالملك الراحل الحسن الثاني أكد في خطابه إلى الأمة بمناسبة الاستفتاء على دستور 1962 أنه بمثابة تجديد للبيعة، بما يفيد أن الموافقة عليه هو تجديد للتعاقد السياسي والدستوري الذي يربط الأمة بأميرها، والذي بمقتضاه يلتزم ولي الأمر بالقيام بمصالح البلاد والعباد وفق ما اتفق عليه طرفي التعاقد الدستوري تحت طائلة لمسؤولية والمحاسبة
فالسياسة في الإسلام من الأمور المخولة إلى نظر الخلق وبالتالي فهي مسألة مدنية وتخضع لقانون الصواب والخطأ لا لقانون الحلال والحرام، والشرعية الدينية ليست شرعية مطلقة أو فوق دستورية بل هي مقيدة وينبغي أن يتم تحديدها وضبطها دستوريا. كما أن الحاكم في الإسلام مسؤول عن أقواله وأفعاله لأن الحكومة في الإسلام قائمة على مبدأ المسؤولية، فأمير المؤمنين مسؤول أمام الأمة صاحبة السلطة في كل تصرفاته المرتبطة بولايته، إنه ليس إلا رجلا اختارته الأمة ليكون ممثلا لها ويتولى الإشراف على أمورها وتدبير شؤونها، ومن ثم يكون عليها واجب النصيحة فيما ينبغي النصيحة وواجب التوجيه والتقويم. وعلى هذا الأساس لم يعرف الإسلام لمتولي إمارة المؤمنين مركزا خاصا في الأمة يحميه من النصح والتوجيه ويعفيه من المسؤولية. فمتولي الإمارة في نظر الإسلام ليست له أية صفة من صفات الألوهية ولو من بعيد، وليس مقدسا ولا معصوما في تصور المسلمين، وليس له الحق وحده في بيان الدين وتفسير نصوصه ولا يخصه الدين بمزية في فهم القرآن والعلم بالأحكام، ولا يرتفع به إلى منزلة خاصة، بل هو كسائر المجتهدين يتفاضلون بصفاء العقل وكثرة الإصابة في الحكم، وقال محمد عبده في هذا الصدد "الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم ولا مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة".
والإمارة في نظر الإسلام أمانة ومسؤولية كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي ذر الغفاري: يا أبا ذر! إنك ضعيف. وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". ومهمة الأمير الأساسية، هي رعاية شؤون الأمة، لأنه ما نصب إلاّ لذلك، فإذا قصر في هذه الرعاية، وجبت محاسبته. وأعطى الشرع للمسلمين الحق في محاسبة متولي الإمارة، وجعل المحاسبة على المسلمين فرض كفاية. والأمة قوامة عليه، يلزمها الإنكار على ما يقصر به في مسؤولياته، أو يسيء في تصرفاته امتثالا لقوله تعالى "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًاً"، كما قال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ"، وقال أيضا "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ". فكيف تكون الأمة شهيدة على الناس إذا لم تكن قوامة بالقسط شاهدة على نفسها؟ وذلك يقتضي ليس الشهادة على كل فرد من أفرادها فحسب، بل كذلك الشهادة على الجماعة، بوصفها جماعة، وعلى الحكام، والقوامة عليهم بالقسط، قال النبي صلى الله عليه وسلم "ألا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". فهذا أبو بكر يخاطب المسلمين "إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني"، وعمر بن الخطاب من بعده يقول للمسلمين "أعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم". وهو ما يفسر وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي استدعاء المعارضة المدنية لا فقط السماح بها. ويروي ابن الجوزي انه كان بين عمر بن الخطاب ورجل كلام في شيء، فقال له الرجل: اتق الله يا أمير المؤمنين، فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله! فقال له عمر دعه فليقلها لي نعم ما قال، لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم". وللتأكيد على أحقية الأمة في مراقبة متولي الإمارة ومحاسبته، سأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الناس مرة من فوق المنبر قائلا "ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا؟ فقام رجل وسل سيفه، وقال: كنا نقول بالسيف هكذا، وأشار إلى حلقه. فنهره عمر ثلاثا والرجل يكرر قوله، وينهره عمر. ثم قال عمر، لما وجده ثابتا على قوله: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا اعوججت قومني". وجاء في تاريخ مدينة دمشق للحافظ ابن عساكر "أن عمر بن الخطاب قال في مجلس، وحوله المهاجرون والأنصار: "أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فقال ذلك مرتين، أو ثلاثاً: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فقال بشير بن سعد: لو فعلت ذلك قومناك تقويم القدح، فقال عمر أنتم إذا، أنتم إذا".
وانطلاقا مما سبق نرى أن أمير المؤمنين طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئ القانون الدستوري إما أن يكون فاعلا في الشأن العام ويقابل إقرار صلاحياته بالمراقبة والمحاسبة من منطلق أن لا مسؤولية بدون مراقبة ولا صلاحيات بدون محاسبة. وإما أن يكون شخصه مقدس فوق المحاسبة، وهذا يستلزم الإقرار بالملكية البرلمانية حيث يسود الملك ولا يحكم.
وعلى كل حال، يستلزم تجاوز الاختلاف في تأويل مقتضيات الفصل 19 من الدستور من خلال التعديلات الجديدة عبر إعادة صياغة هذا الفصل بالشكل الذي يجعله فصلا كباقي فصول الدستور لا يسمح للمؤسسة الملكية بأن تستمد سلطات أخرى من خارج النص الدستوري باللجوء إلى مفهوم إمارة المؤمنين للقيام بتأويلات تتجاوز النص الدستوري وتفقد التعاقد السياسي والدستوري معناه الحقيقي وبالنتيجة تهميش باقي المؤسسات الدستورية الديمقراطية. وإن كنا نخشى على التعديلات الدستورية المقبلة أن تكرس نفس المفاهيم السائدة خصوصا أن الشخصيات الموجودة في هرمية اللجنة والآلية السياسية الساهرتين على إدخال التعديلات معروفة باجتهاداتها الدستورية الداعمة للممارسة السائدة، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، أضف إلى ذلك سلوكيات النخب السياسية المنافية لسمو القانون الدستوري على الأفراد والمؤسسات بلجوئها الدائم إلى التوافقات خارج إطار المؤسسات (قوانين الجهة، القوانين الانتخابية، قانون الأحزاب السياسية..).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.