مما لا شك فيه أن المغرب يستقبل التحولات التي تشهدها بلدان محيطه الإقليمي بشكل إيجابي يؤكد أن بلادنا قد اكتسبت مناعة نسبية بدأت تتقوى منذ ما ينيف عن عقد من الزمن. ولذلك ترى أن الحراك الإجتماعي والسياسي الذي ميز المغرب مطلع سنة 2011، لم يأخذ طابعا حادا وعنيفا، رغم الإنحرافات الشاذة التي شابته يوم 20 فبراير، والتي تبرأت منها الحركة التي تحمل اسم هذا اليوم التاريخي المشهود، الذي تلاه يوم 09 مارس الذي سيؤسس لمرحلة جديدة لطالما تطلعت نحوها القوى الحية في البلاد. فكما أكد صاحب فكرة البراديجم، توماس كوهن، حول بنية الثورات العلمية، أن الثورات الكبرى في ميدان العلوم غالبا ما كان يقف وراءها شباب لا يقبلون بمسايرة البراديجمات التقليدية المغلقة؛ فكذلك، في ميدان السياسة والاجتماع، كان الشباب هم من حرك بركة الماء الراكد الذي جثم على كافة المستويات في بلادنا منذ الاستقلال. وكأن هذه "الثورة" الهادئة التي يقودها شباب المغرب، جاءت في وقتها لتعبر عن روح عصر بدأت أحزاب الحركة الوطنية، والأحزاب التي أفرزتها مرحلة ما بعد الاستقلال، تستنفذ إمكاناتها، مما جعلها تعجز عن ضخ دماء الحياة والحيوية في شرايين المشهد السياسي الوطني؛ فكانت حركة 20 فبراير التي التحقت بها، لاحقا، كل الفئات العمرية، بمثابة إكسير الحياة الذي فجر براديجم التقليد والانغلاق، وفتح آفاقا لا متناهية للتغيير والإصلاح المنشودين. بيد أنه قد لوحظ مع توالي الأيام، سعي بعض التيارات و التنظيمات المعلنة والمضمرة إلى الركوب على موجة مطالب هذه الحركة الرائدة و "الثائرة"، بالمعنى الإيجابي والبناء لهذه العبارة، من أجل تصفية حسابات سياسوية وايديولوجية ضيقة الأفق، فشلت لعقود أن تجد لها صدى لدى المجتمع، أو داخل منظومة المجتمعات الحداثية الديموقراطية. مما ينذر بدفع هذه الدينامية الطموحة إلى أفق مسدود، قد ينقلب إلى حمى الصراعات و تبادل العنف الرمزي والمادي، ويفوت، بالتالي، الفرصة التاريخية التي لطالما حلم بها أجدادنا وآباؤنا. إن الروح "الثورية" التي تزرع الرغبة في التحرر لدى أصحاب البراديجم الجديد، تلقى دائما مقاومة عنيفة لدى شيوخ البراديجم القديم، لأسباب سيكولوجية واعتبارية وبراجماتية. وبهذا المعنى نستطيع فهم ما يصدر، سواء عن أهرامات الأحزاب العتيقة التي تحذر من مخاطر هذه الدينامية الخلاقة، أو ما يندلع من تطاحنات و تجاذبات داخل قفص أعلى مربعات القرار في بلادنا، بين من يميل نحو الإصلاح ومواكبة إيقاعات هذا الحراك المجتمعي العام، و بين من يتمترس وراء الجدار المضاد للتغيير والانفتاح الديموقراطي. مما يستدعي التخلص، رغم صعوبة الاختيار، من عقدة الرغبة الدفينة في الهيمنة والوصاية على مستقبل البلاد والعباد، بمبرر الشرعية التاريخية للحركة الوطنية، أو تحفيظ الولاء المطلق والخوف على مصير المقدسات العليا للبلاد والعباد، لأنفسهم دون غيرهم من المواطنين من المغرب القريب أو من المغرب العميق . إن التحولات العميقة التي ينخرط فيها مغرب اليوم، تعبر عن سكيزوفرينية سياسية غير مفهومة. فمن جهة، نشهد دينامية وطنية في مقدمتها شباب جميل وواعي ومسؤول، يواكب الدينامية الشاملة التي سمح بها جلالة الملك محمد السادس في مغرب مثقل ومتعب بموروثات الماضي،(وهنا تجدر ملاحظة التجاوب الذي حمله خطاب 9مارس مع حركة20فبراير)؛ ومن جهة أخرى، نتفرج على مشاهد هزلية وتراجيدية داخل مؤسساتنا المنتخبة، سواء في البرلمان أو في بقية المجالس المنتخبة؛ مشاهد تعكس، بالفعل تحجر البراديجم التقليدي المنغلق، وتعبر عن حالة التردي والانحطاط التي تتخبط فيها النخب السياسية التقليدانية. مغرب يتقاسمه براديجمان، براديجم يدفع نحو الماضي، وبراديجم يجر نحو المستقبل. وحسب منطق الحكيم الإغريقي هيراقليطس، " إن المرء لا يستطيع أن يسبح في ماء النهر مرتين"، لأن الماء يجري إلى الأمام، ولا يمكن له أن يرجع القهقرى لنسبح في أوساخنا. *عمدة مدينة طنجة