حديثنا عن الأحزاب المغربية يرقى لتجسيد صورة الواقع المعاش وسط نشاط العمل السياسي بجميع مكوناته -برلمان ومجالس منتخبة- بسلبياته وإيجابياته الضيقة، وقد نتوقف كثيرا عند الجانب السلبي باعتباره الأهم في محاولة انتقالية بغية التصحيح والإصلاح وليس الإكتفاء بالمثل الشعبي " القافلة تسير ..." فالذي يعتمدها قاصر سياسيا ومتحجر لمصالحه، ورأى في نفسه ما لم يره في غيره، على أساس أنه الأقوى والأجدر وأنه السلطة والنفوذ. فضياع المنصب -كرسي الأمانة العامة- هو موت وفناء ويبقى الموقف الصحيح - حسب اعتقاده - عدم الإستغناء والتخلي والتنحي، لذلك لازالت الوجوه القديمة تعشعش داخل الأحزاب، ولازالت تخاطب الأجيال الجديدة بأسلوبها القديم المتجدر في الإستبداد والجور. فأي مصداقية تتحدث عنها جل الأحزاب وترفع شعارات الديمقراطية؟. مسار التصحيح يبدأ من كلمة "الوطنية" فلا يعقل لأي كان أن يحتكرها ويختزلها في أشخاص دون الشعب، فبعض الأحزاب خوصصت الوطنية وامتلكتها لنفسها وجعلت من هيئاتها أهلا للوطنية، مع تأكيدها على تهميش باقي الأمة، كما احتكرت واقع المقاومة لتربط سياستها بالوطنية المنشودة وإبراز أسماء عناصرها وتخليدهم إلى يومنا هذا، وتسعى جاهدة لبرمجتهم في الكتب المدرسية، مسخرة إعلاما محسوبا وجمعيات للقيام بأنشطة ثقافية لا تخلو من ذكر هذه الأسماء ومسارها البطولي في مقاومة المستعمر، وكأن اولاد الناس من الشعب كانوا في سبات عميق ... " الوطنية " شعار لكل مواطن وليس حكرا على أي حزب مغربي، وليس من حق أحد أن يستثني ما يشاء، ما دام التاريخ دون بطولة المغاربة أجعمين بدماء الفخر، وكانت فداء للوطن ضد الغاشم المستعمر وإلحاحا وإصرارا لعودة الملك إلى عرشه. غياب المصداقية في الخطاب الحزبي لا يضفي الشرعية الشعبية على أي عمل سياسي، فكثيرة هي الأحزاب التي لم تتمتع في حياتها بالمصداقية خدمت مصالحها الفردية بدلا من تطبيق واقعها الدستوري في التأطير لكونها في حاجة لمن يؤطرها ومن لم يصدق في عمله وإتقانه فهو كاذب، وهذه صفة غير مرغوب فيها دينيا وأخلاقيا، ومن يتحلى بهذه الخصلة المذمومة فهو غير موثوق به، فكيف للناس أن تضع تقتها في حزب كانت شعاراته بهتانا وتضليلا ووعوده زائفة، لم تكن إلا طعما لكسب أصوات الناخبين ساعة الإقتراع، أليس هذا ما يوصف بالنصب والإحتيال؟. المسار الجديد لمغرب حداثي بجميع مؤسساته يلزمنا دفن الماضي بما فيه من بطولة ورجال قضوا مترحمين عليهم جميعا لما قدموه من خير للبلاد. ويستدعينا لحوار معاصر مكننا من العمل الجاد والسير قدما للرقي بالبلاد والعباد نحو غد أفضل وجعله بين مصاف الدول العظمى، ولما لا ونحن لدينا طاقات شابة قادرة على تدبير وتسيير الشأن العام، قادرة على قيادة الأحزاب السياسية، وأدرى بحاجيات ومتطلبات العصر مستوعبة ما لها وما عليها راشدة واعية خدومة نزيهة وذات مصداقية في القول والعمل، وتزكيها روح الوطنية. فالعمل السياسي يتطلب المصداقية باعتبارها أس أخلاقي لابد من توفره، قبل استقطاب المواطنين للإنخراط في الحقل السياسي كما تحمل البهائم في وسائل النقل، وإلا فالمعضلة خطيرة كما هو الشأن اليوم في مدى الهوة الواسعة والمتسعة بين الأحزاب وبين المواطن. فرجال السياسة في العالم المتقدم لا يرون في نجاح العمل السياسي إلا ما هو عملي وتطبيقي، وليس الإعتماد على البهرجة الخطابية وبرامج خيالية، والتي تبقى وثائقا على أدراج المكاتب في انتظار من سيدفع الثمن، أو في انتظار المنقد ساعة الغريق. فالعمل السياسي واجب وضروري، لكن نجاحه يرتبط بتغيير جدري للمكاتب السياسية في وجوهها القديمة، كما لا يوجد حزب مغربي "مقدس"، والشعارالمغربي القائم والمعتمد به هو " الله الوطن الملك. فالتجارب السالفة تستدعي تنحية القيادات الحزبية سلميا بما فيها من رجالات ذيلية عدائية للوطن، رغبة في نيل الولاء والعطف، فتقوم بكتابة التقارير المغلوطة والوشايات الكاذبة على المواطنين الأوفياء لمجرد اختلافهم في الرأي، أو الجهر والكشف عن سياسة الإرتجال والمحسوبية.. إنه المنصب والضغط. أما "النضال" فتتحدث عنه جل الأحزاب باعتباره ورقة الدخول من باب السياسة، ومرجعا داعم لقوة الحزب متجاهلة شباب الأمة ورجالاتها، لكون هذه الكلمة "النضال" احتكرتها الأحزاب بالمفهوم السياسي، ولا يسري الأمر على من لا انتماء له، فقد عودتنا الأحزاب في خطاباتها المفتوحة على كلمة النضال من خلال "تحية نضالية".."أيها المناضلون" بغية ترسيخها في عقول السامعين وإسنادها خاصة للمنخرطين في العمل السياسي الذي لا نراه على أرض الواقع. فالمواطن المغربي يناضل من موقعه بالقول والكلمة، وبالقلم والمداد، لأن النضال جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو واجب على كل المواطنين وليس النضال بالضرورة أن تكون منتميا لحزب ما، والنضال لا يتوقف بفترة زمنية أوحقبة تاريخية، لأن الممارسة اليومية للعمل السياسي سواء داخل الأحزاب أو من خلال الفرد نفسه وما يتمتع به من مواقف إيجابية للوطن، ترتبط باالنضال لغاية الإستجابة للمطالب المعقولة والتي لا تخرج عن القانون. وفي هذا الإطار -النضال- فقد دأبت بعض الأحزاب المغربية على تسمية كل أفرادها المنتمين للون السياسي ب "المناضل عمر أو زيد"، وحتى على شاهد القبر ينقش الإسم ب"المناضل" عكس اولاد الناس، فإنهم يلقبون بأسمائهم إلى تاريخ وفاتهم، كما توفي العديد من المقاومين في صمت وبدون مراسيم. هنا تغيب المصداقية في كون العنصر الأساسي للعمل السياسي -الكلمة والمساواة والديمقراطية حقوق الإنسان- ليست في القاموس الواقعي لأغلب الأحزاب، وتبقى كما عبر عنها الشارع المغربي مجرد شعارات زائفة.