من ينظر عن بعد لمسار الاتحاد الاشتراكي طوال سنوات، سيلاحظ كيف أن هذا الأخير لا يتطور وفق خط مستقيم، وإنما حسب خط منكسر مليء بالمنعطفات، تارة نحو اليمين وتارة أخرى نحو اليسار. وهو ما نتلمسه سواء من خلال المواقف التي يتخذها أو من خلال نوعية الخطاب الذي يروج له في كل مرة. ونحن إذا أخذنا المؤتمر الاستثنائي كنقطة انطلاق – مع العلم أن هذا المؤتمر الأخير هو نفسه محطة معينة من هذه المنعطفات التي اتخذها منذ التأسيس سنة 1959- سنلاحظ كيف انعطف الحزب بعد ذلك نحو اليسار بمناسبة المؤتمر الثالث سنة 1978، أو أصبح أكثر يسارية حيث رفع سقف مطالبه إلى حد المطالبة "بالتحول من ملكية مخزنية إلى ملكية دستورية برلمانية". غير أن ذلك الانعطاف ربما جاء في غير وقته أو لم يتم تدبيره يالشكل اللائق، مما نتج عنه أن انفجر الحزب لاحقا، وخرج رفاق أحمد بنجلون وبن عمرو ليؤسسوا سنوات بعد ذلك حزب الطليعة. ومن الناحية الرمزية يمكن اعتبار استقالة عابد الجابري آنذاك من المكتب السياسي، بمثابة التعبير عن عدم قدرة الحزب على تحمل الشرخ الذي حدث داخله. وكرد فعل على الانعطافة اليسارية للمؤتمر الثالث، جاء المؤتمر الرابع سنة 1984 ليحدث انعطافة مضادة في اتجاه اليمين، فيتراجع الحزب عن مواقفه الراديكالية من الدولة أو يتغاضى الحديث عنها. وهو ما سينتج عنه أن يتقوقع الحزب على ذاته ويتحاشى كل مواجهة مع الدولة، فتخمد الحركية السياسية في البلاد ككل طوال ما تبقى من عقد الثمانينات وتهيمن حالة من الركود السياسي. في المؤتمر الخامس سنة 1989، سيتحرك الحزب مرة أخرى ويقوم بانعطافة جديدة نحو اليسار، فيسعى إلى تكوين الكتلة الديمقراطية وتقديم ملتمس الرقابة على الحكومة وصياغة وثيقة المطالب الدستورية وتحريك النضال النقابي من جديد، والوصول إلى اعتقال نوبير الأموي بعد أن عبر عن مطلب أن "الملك يسود الملك ولا يحكم". وبسبب هذه الانعطافة اليسارية، عادت الدينامية إلى الحقل السياسي المغربي، وانطلق الجميع يفكر في مرحلة جديدة من تاريخ المغرب، توجت في الأخير بالتصويت الإيجابي على التعديلات الدستورية لسنة 1996 والقبول بالمشاركة في حكومة التوافق. غير أن هذه الانعطافة في اتجاه اليسار الناتجة عن المؤتمر الخامس، جاءت هي أيضا في ظروف غير مناسبة تمثلت من جهة في انهيار المعسكر الاشتراكي وتراجع المد اليساري بشكل عام على الصعيد العالمي، ومن جهة أخرى في تصاعد المد الإسلامي واندلاع الأحداث بالجزائر بالخصوص، فكانت النتيجة أن افتقدت تلك الانعطافة حاضنها الطبيعي من القوى التقدمية واليسارية في العالم، وبالتالي بدل أن تبقى وفية لروحها اليسارية، وقعت تحت تأثير المد الإسلامي الذي جاء في صيغة الدعوة لتحالف مع العدل والإحسان في إطار ما سمي "بالكتلة التاريخية" التي تحمس لها آنذاك كل من الفقيه البصري والأموي. هذا التذبذب الإيديولوجي الذي صاحب انعطافة المؤتمر الخامس نحو اليسار، سرعان ما استغل من طرف الجناح الآخر داخل الحزب بدعوى الانتصار لقيم الحداثة والتجديد في وجه القيم الأصولية، فكانت الانعطافة من جديد نحو اليمين التي كرسها المؤتمر السادس وزكاها المؤتمر السابع، وكان عنوانها الكبير الدخول في التجربة الحكومية والتقارب مع جزء من محيط الملك، أو ما اعتبر في وقته الجناح الحداثي داخل المخزن. غير أنه كما حدث بعد المؤتمر الثالث، أعيد إنتاج نفس السيناريو، فحدث الشرخ مجددا داخل الحزب وغادره أصحاب الأموي والساسي، أي أولائك الذين كانوا وراء الانعطافة اليسارية للمؤتمر الخامس. ومن الناحية الرمزية يمكن اعتبار اعتزال عبد الرحمان اليوسفي هو أحسن تعبير عن عدم قدرة الحزب على تحمل هذا الشرخ الجديد الذي وقع داخله. الآن وقد افتقدت تجربة المشاركة الحكومية كل مبرراتها، وتسببت في إنهاك الحزب وبهدلة صورته أمام المجتمع، وأفرغته من كل طاقاته النضالية، بل وأوصلت البلاد ككل إلى مأزق سياسي واضح عبر عنه المواطنون بمقاطعتهم للانتخابات، ألا يطرح السؤال بأنه قد جاء الوقت ليعيد الحزب تصحيح مساره فيقوم بانعطافة نحو اليسار في المؤتمر الحالي، بعد أن بقي مديرا وجهه نحو اليمين منذ المؤتمر السادس؟ وأليس إدخال هذه الشحنة اليسارية في خطاب الحزب وفي ممارساته، هي ما سيضمن له إعادة توازنه مرة أخرى، ليعود للتوهج مجددا في الساحة السياسية؟ إن الاتحاد الاشتراكي باعتباره حزب للقوات الشعبية، هو مطالب بأن يراعي ويوازي في كل مرة، بين تطلعات كل الفئات الاجتماعية المفترض أنه يمثلها، سواء الفئات الشعبية الدنيا من الطبقة العاملة ومختلف أنواع المهمشين، أو الفئات الأعلى والوسطى من النخبة والأطر. والتراوح الذي كان يعيشه الحزب بين اليمين واليسار ليس في الحقيقة سوى تراوح بين تطلعات الفئات الأعلى وتطلعات الفئات الدنيا. فهو حين يميل نحو اليمين إنما يكون يستجيب بذلك لتطلعات الفئات الأولى والنخبة داخله، والعكس صحيح. هذا ما حدث مثلا بعد المؤتمر الثالث حين مالت الكفة داخله لصالح من نعت آنذاك بحزب الدكاترة أو الأطر التي استفادت من تكوينها لتتبوأ مواقع في التسيير الجماعي وفي البرلمان، على حساب المناضلين في القواعد ومن الذين كانوا قد خرجوا حديثا من السجون أو عادوا من المنافي. وهذا ما حدث بعد المؤتمر السادس حين ابتعد عنه المناضلون النقابيون والشباب لصالح الأطر العليا والأعيان الذين استفادوا من المواقع الجديدة التي أتاحتها المشاركة في الحكومة. ولهذا التجاذب بين منحيين، وجه آخر هو ما يمكن أن نعبر عنه بالتجاذب بين النزعة النخبوية والنزعة الشعبوبة أو الراديكالية. مع التأكيد على أن لكل نزعة منهما ضروراتها الموضوعية وإيجابياتها حسب كل مرحلة، وكذلك سلبياتها ومضارها إن هي تجاوزت حدها، والوضع السليم هو بتحقيق توازن بينهما. فالنزعة الشعبوية أو الراديكالية تسمح بإبقاء الحزب في ارتباط مع القوى الشعبية، بينما النزعة النخبوية تفسح مجالا داخل الحزب أمام الأطر والفئات الأعلى للاستفادة من قدراتها الفكرية وخبراتها. وبناءا على هذا التحليل، فنحن حين نؤكد على ضرورة إحداث انعطافة نحو اليسار في مسار الحزب في هذه المرحلة التاريخية بالضبط، ومده بشحنة شعبوية أو أكثر راديكالية، كما عبر عنه مثلا في مشروع البيان العام المقدم أمام المجلس الوطني الأخير عبر رفع شعار الملكية البرلمانية، لا يغيب عن نظرنا مخاطر هذه النزعة في المدى المتوسط إن سار الحزب في هذا الاتجاه. فالشعبوية وإن كانت قد تفيد الحزب في المرحلة الراهنة، فممكن أن ينتج عنها لاحقا، مظاهر لتقديس الأشخاص و الزعامات، وكل ما يرتبط بذلك من تفشي الحلقيات والزبونية داخل التنظيم ، وممارسة الإقصاء في حق المخالفين في استخفاف بالقوانين الداخلية المنظمة لحياة الحزب. ولنا في تجربة الأموي درس لا يجب أن يغيب عن بالنا. لذلك فنحن نلح أيضا على أن لا يبقى المجال مفتوحا على عواهنه أمام أي قائد أو زعيم تفرزه المرحلة، وأن يتم الحرص على احترام المساطر المتفق عليها، وبالخصوص أن يسمح بتكوين التيارات لتكون هي القوى الموازنة لأي من أراد الاستفراد بالقرارات داخل الحزب، والضامن لأن لا تحدث انشقاقات جديدة داخله. غير أن كل هذا التحذير لا يمنعني بهذه المناسبة لأن أبقى شخصيا، مدافعا ومساندا لكل من يدعو إلى خروج الحزب إلى المعارضة ورفع شعار الملكية البرلمانية. وهنا أود أن أساهم في تفنيد حجج بعض المعارضين لهذا الطرح الذي يبرر أن إقرار سلطات واسعة للبرلمان قد يفسح المجال لأمثال ولد العروسية أن يستحوذوا على الجهاز التشريعي للبلاد ويسخرونه لصالحهم. هذا التبرير كان ربما مقبولا في السابق حين كان يتعلق الأمر بخطر وصول واستحواذ الإسلاميين على هذا الجهاز، وهو ما لم يعد يمثل خطرا حاليا بعد أن تراجع بريق هؤلاء، أما أمثال ولد العروسية، فإنه لا يجب أن ننسى أن نسبة الأصوات التي حصل عليها هذا الأخير مثلا لا تصل إلى أكثر من 8 أو 10 في المائة في أحسن الأحوال من عدد الناخبين ضمن كتلة إجمالية من المصوتين لا تتعدى كلها 20 في المائة. فماذا سيمثل ذلك إذا ما نحن استطعنا إقناع الكتلة الضخمة من العازفين بالعودة إلى صناديق الاقتراع؟ بل أن الخطر الأكبر هو الذي سيحدث ببقاءنا في الحكومة، لأن نسبة المشاركة ستزداد سوءا، ولن ينجح في المستقبل وفي كل أنواع الانتخابات، سوى أصحاب "الشكارة"، وبالتأكيد أن ذلك سيتعمم حتى في حزب الاتحاد الاشتراكي، حيث أنه بدعوى مواجهة هؤلاء لن نرشح نحن أيضا سوى أصحاب "الشكارة" من بيننا أو من الأعيان الذين سنمنحهم التزكية. الحجة الثانية لدعاة الاستمرار في المشاركة، هو أن القول بأن العودة إلى المعارضة ستقوي الحزب هو بلادة سياسية، هي أيضا مردود عليها لأن هذه العودة على الأقل إن لم تقوي الحزب في الأمد القريب، فهي لن تزيد من إضعافه أكثر مما هو ضعيف حاليا، بينما الاستمرار في نظري ليس لن يفيد الحزب أو البلاد في شيء، بل سيجهض على آخر ما تبقى له من سمعة واحترام في أعين المواطنين، ولن يستفيد منه غير من له مصالح ما في وجود الحزب حاليا داخل الحكومة. الحجة الثالثة أن التحالف مع أطراف اليسار الأخرى لن يفيد في شيء بالنظر إلى ضعفها الانتخابي، أعتقد من جهتي أن قوة التحالف لا يجب قياسها بعملية حسابية كما أشار إلى ذلك الصديق محمد عياد في مداخلة له مؤخرا بفضاء البيضاء للحوار اليساري، ولكن بقوة رمزيتها التي قد تقنع أعداد أخرى كثيرة من متاعطفي اليسار العازفين للعودة إلى ساحة الفعل السياسي. وبالتأكيد كما أشرت في مقال سابق، فلسنا واهمين أن العودة الفورية للمعارضة هي التي ستقوينا، بل أن ذلك سيفتح لنا فقط المجال لإعادة بناء الحزب ومعه اليسار ككل، حجرة حجرة، لعله يعيد اكتساب ثقة المواطنين وإشعاعه على المدى المتوسط والبعيد، أما على المدى القريب وبالخصوص في الانتخابات المقبلة، فالأمر في نظري ميئوس منه مسبقا سواء بقينا في الحكومة أو خرجنا منها .