كان فرحي غامرا هذا الصباح، وأنا أشاهد بطولة العالم في سباق السيارات، دورة شنغهايبالصين. لم يكن الأمر نابعا من ولعي بهذه الرياضة أو عشقي لها، ولكنه كان بسبب مشاركة مواطن مغربي فيها، هو البطل مهدي بناني. وكم كان ابتهاجي عارما، وأنا أرى تمكن هذا الشاب المغربي، وسط عمالقة هذه الرياضة، وجبابرة هذا السباق، من الفوز بهذه الدورة، محتلا المرتبة الأولى. وهو إنجاز كبير، لم يسبقه إليه أي مواطن عربي أو إفريقي.. غير أن أجمل ما كان في هذه اللوحة، هو عزف النشيد الوطني المغربي، بعد نهاية السباق، في هذه البلاد القصية الصين، وارتفاع الراية المغربية خفاقة عاليا، في حلبة السباق بمدينة شنغهاي، حيث وقف لها الجميع، تحية واحتراما وإجلالا وتقديرا. في مشهد رائع ومؤثر، جعلني أجهش بكاء، بدموع سخية ساخنة دافقة. خاصة بعد رؤيتي لتأثر الشاب بناني بهذه اللحظة، وأطلاقه العنان لدموعه الحارة المنسكبة، وبكائه الصادق الجميل. ليس حزنا أو صدمة، ولكن فرحا وانتشاءاً، بإهدائه هذا الإنتصار الكبير لوطنه ومواطنيه. ولعل أكثر ما أضفى على هذه الصورة أيضا رونقا وبهاء وروعة، لهو ارتفاع هتافات مغربية من حلبة السباق، منتشية بطعم الإنتصار، بلغة دارجة قحة وأصيلة في بلاد ماو : "داها وداها، والله ما خلاها"، تنبعث من حناجر مواطنين مغاربة، أصروا على حضور هذا العرس/السباق، الذي كان مغربيا بامتياز. وصمموا على تقديم الدعم المعنوي الكبير لمواطنهم مهدي بناني، الذي لم يخذلهم ولم يفوت الموعد، بل أهداهم فوزا تاريخيا يقاس ذهبا. حينها تأملت في سر هذا الحب العارم، الجارف، العذري، الذي يربطنا بالوطن، برغم قسوة مسؤوليه وظلمهم، بل وتجبرهم وطغيانهم أحيانا. تأملت كيف يمكن لمعزوفة بسيطة، وقطعة قماش حمراء قانية بلون الدم، تتوسطها نجمة خضراء بلون عريس الفصول، أن تحرك فينا كل هذه المشاعر الجياشة المتدفقة الصادقة، وتنتزع منا كل هذا التفاعل الإنساني الإيجابي الرائع. بل وقد تنتزع منا حتى أرواحنا وأنفسنا، إذا تطلب الأمر ذلك، فداء لهذا الوطن، ودفاعا وذودا عن حماه، إذا ما مُست ذرة من أرضه أو سمائه أو بحره أو إنسانه. تأملت وأدركت أن هذا الوطن كبير كبير كبير فينا ورائع. أدركت أنه الوطن الشامخ المعطاء السمح، الذي يحضننا جميعا، بدفئه، وحنانه، وحبه، ونعيمه، وخيراته. الوطن الذي نتنفس هواءه، ونتغذى من أرضه وبحاره، ونلتحف سماءه وأجواءه، الوطن الذي يتغلغل حبه لاإراديا في أحشائنا، وسويداء قلوبنا تغلغلا. الوطن الذي نحمله بين ضلوعنا وفي أعماق أفئدتنا، حيثما حللنا وارتحلنا. الوطن الذي ينهشنا الحنين الحارق إليه، وتقتلنا الغربة القاتلة بعيدا عنه، كلما شاءت لنا أقدارنا، أن نبتعد عنه أو نرحل أو نغترب، مكرهين مرغمين، أو حتى راغبين مخيرين. الوطن الذي مهما قست تقلبات السياسة ومكرها، وخبث رجالها وأنانيتهم، نظل نعشقه ونرغبه حد العبادة، الوطن الذي مهما حاولتِ السياسة والساسة أن يوقعوا بيننا وبينه، ويُفسدوا مودتنا وعشقنا وتعلقنا الكبير به، يزداد هيامنا وتمسكنا به، ووفائنا وتفانينا في خدمته. الوطن المعطاء، الذي برغم النهب والفساد والتسلط الذي قد يطال كنوزه وخيراته، يظل يُعطي بسخاء، ويُجزل في العطاء، ولا يُبدي غلظة أو قسوة أو جفاء. يظل يمنح ويمنح، ويغدق بلا كلل أو ملل أو رياء. قد لا نغفر للساسة زلاتهم وأعطابهم، قد نغضب ونثور في وجوههم، وقد نتمرد ونشق عصا الطاعة عنهم، ولكننا نظل متشبثين بالوطن، مولعين بحبه وعشقه. لا لشيء سوى لأننا نعلم أنه أكبر من هؤلاء التافهين، وأشمخ من هؤلاء العابرين، الذي يصرون عبثا على قتل هذا الحب الكبير فينا. لأننا نعلم أنه باق، وأنهم زائلون راحلون. أحبك بجنون وطني، أعشقك حد العبادة وطني، أنا العاشق وأنت المعشوق، أنا المحب وأنت المحبوب، أنا المتيم، وأنت الحبيب. فما أكبرك وأشمخك يا وطني، وما أصغر وأتفه ساستك ومسؤوليك. ! قسوة المسؤولين و سماحة الوطن .. !