مرة أخرى ومن جديد تأبى المنظمة الأمريكية "المختصة" في حقوق الإنسان والمسماة "هيومن رايتس ووتش"، إلا أن تخص المغرب ب "اهتمامها" المعهود، والذي لا يخرج عن سلوكات التحامل والتأويلات المغرضة. فقد اختارت المنظمة الأمريكية هذه المرة موضوعا تظنه "ساخنا"، ومن طبيعة القضايا التي يمكن أن تستقطب اهتمام و"تعاطف" بعض الجهات والمجموعات السياسية، وأن تكون له بالتالي "المردودية" المرغوب فيها حتى وإن كانت لا علاقة لها بقيم ومبادئ حقوق الإنسان. وكما سبق أن كان محط ردود قوية من لدن السلطات المسؤولة، فإن الموضوع الذي خصصت المنظمة المذكورة بلاغها الأخير الصادر بتاريخ 5 شتنبر الجاري، هو ما عرف ب "حراك الحسيمة"، وأول ما يلفت الانتباه عند الاطلاع على فحوى هذا البلاغ هو أن "هيومن …" لم تكتف في هذا الشأن بالجوانب المتعلقة بالاصطدامات والمواجهات التي جرت بالحسيمة وبعض المناطق المجاورة لها، بل توجهت مباشرة إلى إصدار أحكام قيمة تزعم أن ما جاء في الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش من تنويه بأجهزة الأمن يعتبر تجاهلا لما أسمته ب "انتهاكات الشرطة في تعاملها مع الاحتجاجات في منطقة الريف" ومن ثم، فإن هناك انحيازا مزعوما للقوات العمومية. وبالإضافة إلى هذا التطاول الفج، و"الجرأة" الزائدة ، فإن مضمون بلاغ أو تقرير المنظمة الأمريكية هذا جاء مخالفا لكل أعراف ومعايير رصد الأوضاع الحقوقية، وما ينبغي أن يعتمد في هذا الشأن من دقة وتأكد من المعلومة، وحياد وموضوعية ومهنية، ولذلك كان الرد المغربي في الصميم شكلا ومضمونا، بكل ما احتوى عليه من ملاحظات ومؤاخذات وتفنيد للمغالطات الصادرة عن مسؤولي "هيومن … "، ومنها : * أنه من ديباجة هذا البلاغ يتضح بشكل واضح أن "مستنداته" مبنية على رأي مسبق وعلى قراءات متسرعة للأحداث، ومن دون التحري والمعاينة اللازمة للوقوف على الحقائق الموضوعية. * أن من مسؤولية المغرب، بكل مؤسساته الوطنية وبكل الأشكال والصيغ، أن يعبر عن رفضه التام لمضمون البلاغ المذكور ولكل ما جاء فيه من مواقف ومحاولة التطاول على الشأن الوطني المغربي في المجال الحقوقي وغيره. * أن البلاغ أو التقرير، في جل فقراته، تحكمه نغمة واحدة ترمي إلى التشكيك في التزام مؤسسات المغرب بقواعد حقوق الإنسان ومواثيقها الدولية. وإن كان هذا الرد لا يعبر فقط عن المواقف الرسمية للدولة المغربية ومؤسساتها المسؤولة، بل إنه يعبر أيضا عن رأي وموقف عدد كبير من فعاليات المجتمع المدني، ومن الفعاليات الإعلامية ، ونشطاء وفعاليات المجال الحقوقي … فمع ذلك نود هنا إضافة بعض الملاحظات والتوضيحات، حتى وإن كانت الواضحات في غنى عن التوضيحات. وأولى ملاحظاتنا هي أن التقرير اللاموضوعي، الذي نحن بصدده، ليس الأول من نوعه، إذ أن "هيومن .." الأمريكية لها سوابق في الافتراء على المغرب وعلى وضعه الحقوقي والمؤسساتي، ومحاولة التنقيص أو تبخيس منجزاته وعمله المتواصل من أجل تعزيز حقوق الإنسان والنهوض بها. ولذلك، فإن مناسبة صدور هذا التقرير، على نفس منوال سابقيه، هي أيضا مناسبة للقول بأن الإمكانيات والوسائل المتاحة لهذه المنظمة لا تعطيها الحق في التعاطي مع القضية الحقوقية كيفما يحلو لها، أو بما يمكنها من الخلط بين ما هو حقوقي وما هو سياسي. ففي كل جهات العالم تعمل الهيئات الحقوقية وفق القواعد والأدوار التي تحصن الحقل الحقوقي من أية ممارسة قد تفضي إلى تحجيم أدواره وتحريف عمله. ثانيا، من الواجب كذلك لفت انتباه المنظمة المذكورة، ومثيلاتها التي تميل إلى ممارسة "الشغب" ضد المغرب، إلى أن المغرب والمغاربة ليسوا بمبتدئين في المجال الحقوقي وفي إعمال حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا. إن في المغرب حركة حقوقية مناضلة ورائدة وواعية تمام الوعي بدورها ورسالتها، حركة ساهمت بمجهود هام في التحولات التي عرفها المغرب الحديث، منذ هيئة الإنصاف والمصالحة إلى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وإلى المجلس الوطني الذي يسهر حاليا على مواصلة العمل المطلوب لحماية حقوق الإنسان والنهوض أكثر فأكثر بأوضاعها في المغرب. إن المغرب اليوم يتموقع ضمن الصفوف الأولى للبلدان التي توجد بها العديد من المنظمات الحقوقية النشيطة التي تؤطرها فعاليات وأطر عالية الكفاءة والخبرة في كل ما يهم منظومة حقوق الإنسان، وهي حاضرة بعملها واقتراحاتها في ظل التطورات والأوراش الإصلاحية التي فتحتها البلاد، ومنها بالخصوص إصلاح القضاء، وما يتعلق بحقوق المرأة والأسرة، وتنزيل القوانين والتشريعات… ، كما أن هذه الفعاليات الحقوقية تتمتع بحرية التعبير والمشاركة وتتابع مختلف الأحداث التي تعرفها البلاد، كما هو الأمر تماما بالنسبة لأحداث الحسيمة التي تتبعتها الفعاليات المجتمعية ومن ضمنها المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي تتبع الأحداث بجميع أطوارها، والذي هو الآن بصدد إعداد تقريره الشامل حول الموضوع. ولعل هذا المعطى الخاص بوزن ودور النسيج الحقوقي له من الدلالات ما يستحق أن يؤخذ بعين الاعتبار من لدن أية جهة أجنبية مدفوعة للحديث عن حقوق الإنسان في بلادنا. أما عن وضع حقوق الإنسان، وحق التجمع والتظاهر والاحتجاج، فمن العبث تجاهل الحقيقة الماثلة في كون المغرب ليس كذلك بمبتدئ في مجال ممارسة الحريات الفردية والجماعية، فمنذ أزيد من 20 سنة دخل المغرب في مسلسل تصاعدي لإرساء وتطوير قواعد وآليات هذه الممارسة التي تضمنها دساتيره الحديثة وخياره الديمقراطي الذي أصبح واحدا من ثوابته الأساسية. والعمل بالدستور الذي يقره الشعب، يعني أن شؤون المغرب تدبر وفق منطق دولة المؤسسات، ودولة الحق والقانون، وعلى هذا الأساس لا أحد يمكن أن يستسيغ المقاربة السطحية التي ذهبت بمسؤولة "هيومن .. " إلى حد الزعم بأن إشادة الخطاب الملكي بالقوات العمومية من شأنه تشجيع قوات الأمن على استعمال العنف ضد المتظاهرين والحال أن مضمون الخطاب الملكي وسياقه أكبر بكثير من مثل هذه "القراءات" النشاز. فكما جاء في الخطاب نفسه " فمن حق المغاربة أن يفتخروا بأمنهم"، وذلك لأن "الحقيقة أن هناك توجها واحدا، والتزاما ثابتا، هو تطبيق القانون، واحترام المؤسسات، وضمان أمن المواطنين وحماية ممتلكاتهم". بالإضافة إلى ذلك، ربما يطرح السؤال عن مدى معرفة مسؤولي المنظمة الأمريكية برصيد المغرب وموقعه العملي والفعلي على مختلف الواجهات الحقوقية، وطرح السؤال آت من كون مثل هذه المنظمات ربما تجهل أو تتجاهل مكانة المغرب وسمعته حتى على المستوى الدولي والقاري، في حين أن المغرب هو الذي حظي، بداية السنة الجارية بجنيف، بإشادة وتنويه دوليين لجهوده من أجل حماية حقوق الإنسان وانفتاحه على آليات الأممالمتحدة. والمغرب أيضا هو الدولة التي انتدبت كممثل للقارة الإفريقية في التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان. ومن دون تقديم المزيد من الأمثلة، يكفي التذكير بأن المغرب سلك خياره الديمقراطي بقناعة ووضوح، وأن لا جهة ولا أحد يمكنه المزايدة عليه في المجال الحقوقي، وأن أية علاقة أو حوار أو تعاون يجب أن يكون مدخلها الأساسي، قبل كل شيء، هو احترام سيادة المغرب ومؤسساته الوطنية ووحدته الترابية.