تورينو: من هنا مرّ هانيبال، الرجل الوحيد الذي هزَّ عرش روما. .12. تورينو: أول عاصمة لمملكة إيطاليا الموحدة عام1861، ولأربع سنوات فقط. بعدها ستُنقل العاصمة إلى فلورنسا، ثم إلى روما في الثامن من يوليو 1871. وكردِّ فعل على فقدانها دورها السياسي، وانتصارا لكرامتها، ستتجه المدينة نحو التصنيع، لتولد فياطFiat سنة1899، ولانشيا Lancia عام1906، ولتصبح تورينو مركزَ صناعة السيارات في إيطاليا، وثالث قوة اقتصادية في البلاد بعد ميلانووروما. هكذا إذن تُبنى المدن، ويُشيَّد تاريخها. وتورينو ليست مدينة طارئة، بل وُجدت على هذه الأرض خمسة آلاف عام قبل الميلاد. و مصنع "فياط" الكبير لا تتجاوز زيارته معرض السيارات؛ إذ من الصعب الدخول إليه كأنه واحد من أسرار الدولة، والاقتصاد صنو السياسة والله أعلم. .13. في سنة 1404 تأسست في تورينو أقدم جامعات إيطاليا وأفضلها: جامعة تورينو. .14. تعتمد أغلب المؤسسات التعليمية اللغة الإيطالية في تعليمها، باسثتناء معاهد قليلة بدأت في السنوات الأخيرة في تدريس اللغة الإنجليزية. لذلك فغالبية من التقيت بهم من الإيطاليين لا يتكلمون غير لغتهم، عدا من صادفتُهم في مصنع " فياط" الرئيس إذ الإنجليزية لغة رائجة، وما كان من حديثي بالفرنسية مع أحد الإيطاليين الأنيقين أمام "مول أنطونيليا" Mole Antonelliana أبرز معالم تورينو حيث المتحف الوطني للسينما، وصور الممثلات والممثلين التي تزيّن جدران المتحف الكبير. .15. .. وأظنني كنتُ في السادسة عشرة من عمري حين فكرت في تعلم اللغات. وجدت كتبا في البيت تركها أخي الأكبر رحمه الله في خزانته العامرة. بدأت بالألمانية الصعبة فاكتفيت بصفحة لا أكثر. ثم هجرتها نحو الإيطالية ودرسها سهل. ولم أغادر صفحاتها الأولى كذلك؛ فقد أعرتُ كتابي في درسه الأول لواحد من أصدقاء العائلة كان يحلم بالهجرة إلى إيطاليا نهاية الثمانينيات، وانتهى به الحال إلى الحصول على شهادة جامعية بمراكش، والزواج من صديقته، ثم العودة إلى قريته الصغيرة غرب أمزميز. مثلما انتهى بي الحال إلى حفظ الدرس الأول من لغة جميلة وكتابٍ أعرتُه إلى الأبد بتُّ أردد أكثر من عقدين من الزمان جمله الأولى: Un Uomo. Una donna. Due bambini. Il sole è caldo. Italiano è gentil كنتُ أعرف أن الرجال والنساء والأطفال وُجدوا في كل أماكن الدنيا، وفهمت متأخرا أن الشمس حارة في إيطاليا، بيد أنني لم أستوعب طيلة هذا العمر لماذا أشار معلم الإيطالية في درسه إلى أنّ الإيطاليين طيبون. .16. عكس الفرنسيين الذين يتوقفون مرغمين بوجوههم المحايدة وخطواتهم المفتوحة إلى الأمام حين يدلّونك على مرادك ويغادرون على عجل، يجد الإيطالي وقتا ومتعة في الوقوف والابتسام في وجهك. بمرح وحب يوجهك بالإشارات، وبالكتابة على أي شيء يصادفه، وبالسير معك شارعا كاملا كي لا تتيه، يستوي في ذلك الرجال والنساء. ولأنك لا تتكلم لغة البلاد إلا ما ذكرته آنفا من الكلمات، ستلجأ حتما إلى الإشارات وأنت تسأل عن الأماكن ومحطات الباصات والترامواي. وككل مرة لا يخذلك من تسألهم. .17. ساحة سان كارلو Piazza San Carlo: كانت تُعرف بالساحة الملكية، أُضيفت للمدينة في القرن السادس عشر بعد أن صارت تورينو عاصمة لدوقية سافوي عام 1536. .18. وقد سألت صباحا في Piazza San Carlo رجلين وقورين عن الطريق المؤدية إلى نهر المدينة الذي زرته قبل ذلك في أجمل أوقاته: ليلا. فهم أحدهم بعد عشر دقائق من إشارتي بإبهامي إلى الماء أنّي أبحث عن علب الليل حيث النهر والشراب والرقص. لذلك خاطبني: دانسا. دانسا Dansa. Dansa وهو يلوّح بيديه في الهواء، ويحرك خاصرته يمينا وشمالا. قلتُ مبتهجا على أنغام رقصته: نعم. دانسا. دانسا. صديقه لم يضحك، وأنا أيضا. لكنني وأنا أقطع Guiseppe Verdi Via نحو نهر"El Morazi البهيج ضحكت كثيرا. ألم يقل معلم الإيطالية أن الإيطاليين طيبون؟ .19. في تورينو ينساب الماء زلالا في الحدائق والساحات، ينساب ليل نهار دون توقف. يبدو الأمر جنونا لمن يجيء من بلاد الحزن والعطش. لاحقا سأعرف: تورينو مدينة ينابيع؛ لذلك ابتدع الإيطاليون نافورات حديدية أعلاها رأس عجل رمزِ المدينة، يخرج من فمه الماء، ويروي العابرين وأبناء السبيل. وكم ارتويت! ليس بالماء وحده، وإنما بكل شيء. .20. وكل شيء شهيٌّ في تورينو كماء الينابيع: ليلها. صباحاتها. الحديث مع الناس. الأماكن كلّها. الثماثيل في الساحات والحدائق. الحديقة الأقرب إلى قلبي وأنا أنزل من دار الأوبرا وسط المدينة. المتحف المصري. متحف السينما. قصر رياله Palazzo Reale. قصر ماداماPalazzo Madama بوابة المدينة في العصر الروماني. ملعب جوفنتوس. جامعة البوليتيكنيك بطرازها المعماري المدهش. الأزقة والشوارع. المكتبات. المسارح. الكنائس. دور الأوبرا. كدت أدخل كنيسة، لكني تراجعت في آخر لحظة. ما الذي أفعله بموعظة إيطالية صباح الأحد؟). وصباح الأحد مررت أمام الأوبرا وسط المدينة: مبنى ضخم شدّني إليه الفضول وأنا أنزل نحو حديقة محادية. وأمام البوابة الرئيسية اطلعت على البرنامج السنوي. كل شهر عرض مُغرٍٍ ابتداء من سبتمبر حتى يونيو؛ "دون جيوفاني2 Don Giovanni "، والأوبرا الأشهر" كارمنCarmen". لحظتها تذكرت بلدي ومحمود درويش: (لا مسرح في البلد/ ولا سينما في البلد/ ولا مرقص في البلد/ ولا بلد في البلد) ** .21. لم أزر في حياتي ملاعب كرة القدم إلا لماما. كنت طفلا عندما دخلتُ أول مرة ملعبا في مراكش. لا أدري لماذا ذهبت. كان عليّ أن أنتظر كمعظم الأطفال نهاية الشوط الأول ليُسمح لنا بالدخول مجانا. وعندما كبرت قليلا، وكنتُ طالبا، بدأت في ارتياد ملعب العاصمة نهاية الأسبوع مع أصدقاء من آسفي والشماعية كانوا مجانين كرة القدم، وظللتُ ألج الملعب مجانا إلا قليلا. نتسلق السور الخارجي، ونراوغ قوات مكافحة الشغب، وحين نعجز عن العبور تُسعفنا عشرة دراهم لا أكثر للمسؤولين جدا حرّاسِ بوابات المدرجات. تُرى لماذا تتأخر لعبة كرة القدم في بلدي إلى هذا الحد؟ في تورينو زرتُ وزوجتي وابنتي ملعب جوفنتوس العريق. هذه المرة لم أتسلق سورا، ولن تُسعفني الدراهم، بل أزيد من18 أورو للفرد من أجل زيارة مرافق الملعب ومتحف الفريق. حين تلعب "اليوفي" خارج تورينو نهاية الأسبوع، وفي الأيام الأخرى، ينظّم الساهرون على "اليوفي" زيارات سياحية للملعب كي لا تبقى الديار بلا عمل. وكل شيء شهيّ هنا: تصميم الملعب، مدرّجاته، غرف استحمام اللاعبين وتبديل الملابس حيث يُمنع التصوير، مقاعد المدرب واللاعبين. قاعة اللقاءات الصحفية. الصالة الشرفية بمطعمها الفاخر والتلفزات الصغيرة المعلقة خلف الكراسي، والعشرة ملايين سنتيم مغربي ثمن ساعة ونصف من مشاهدة مباراة واحدة. لكن من يجلس هناك غير رجال المال والأعمال، ومالك جوفنتوس، وهو مدير" فياط "أيضا؟ أليست الرياضة صنو الاقتصاد والله أعلم؟ كل شيء شهيّ حتى أرضية الملعب، تلك التي تمتص ماء الأمطار والثلج. لا أحد من الزوار يطأها. وحدي فعلت. لخطوة واحدة فعلت. غافلتنا ابنتي، ومرّت تحت الحاجز القصير. جرت نحو العشب الأخضر. صُدمت. فاجأني الدليل بابتسامة إيطالية أعرفها. أزاح مساعده الحاجز ودخلت. مشيت فوق العشب. وحين غادرت معتذرا رفقة صغيرتي كانت أرضية الملعب قد امتصت قدماي. .22. في مطعم تركي تناولنا عشاءنا. مطعم يديره أتراك في إيطاليا لايقدم سوى أكلة إيطالية واحدة: البيتزا. التهمنا منها بأنواعها المختلفة ما يكفي مدينة. البيتزا في إيطاليا أصل وما عداها فروع. البيتزا في إيطاليا متن وسواها هامش. وما كنتَ تتذوقه من قبل كان نسخة مزورة مثل أي سلعة صينية رخيصة. .23. كل شيء شهيّ هنا حتى القهوة التي لا تحبها. قال صاحبي: إذا شربت قهوة إيطالية فسيبقى مذاقها في حلقك إلى الأبد. تذوقتها صباحا قربCastello Piazza. دخلت مقهى. أشارت صاحبته إلى المصباح. فهمت: لا كهرباء. وأنا أغادر أطلّت المرأة من نافذة وهي توميء إلى أعلى. رجعتُ. عاد تيار الكهرباء. بعد لحظات شربت كأس القهوة وكدتُ أبصقها. لكنني خجلت. شربتُ المرارة هذا الصباح. لكن ما الكأس، وما القهوة في إيطاليا؟ تدفع أوروEuro كاملا من أجل كأس صغيرة كلعب الأطفال، وقهوة مرّة ترشفها واقفا رشفة واحدة، وتغادر. ابتسمتِ المرأة الإيطالية، وظلّ مذاقها في حلقي إلى الآن؛ مذاق الابتسامة والقهوة التي لا تُضاهى. .24. كل شيء شهيّ في تورينو إلا الوداع.. هل أقول: الوداعَ الوداع؟ أم أقول: نلتقي بعد حين؟ لست أدري يا تورينو، وأنا لا أملك حاضري، فكيف أملك غدي؟ لست أدري حبيبتي.. لست أدري.. .25. قال صاحبي: أكلُّ هذا الحب من أجل مدينة على الحدود، وأنت لم تزر بعد روما، وهي مدينة خالدة، وعاصمة؟ - لا عليك يا صاحبي، فقبل باريز وتورينو لم أزر في حياتي ولا مدينة واحدة. .26. عشقتُ تورينو ولم أسألها، هل أحبّت خطاي. ** من خطب الدكتاتور الموزونة. خطاب الجلوس. محمود درويش.