ما كان ينقص المغرب، هو هذه الأزمة التي خلقها حزب الاستقلال، وكأن المغاربة مشتاقون لهذه المناورات المفضوحة الأهداف. مهما قيل في شعار الصالح العام. فالمعروف هو أن الهدف من وراء هذه الضجة – ضجة الانسحاب – هو "ابتزاز" حزب "العدالة والتنمية"، لأنه لا يستطيع البقاء في الحكم بدون تحالف حزب له عدد مهم من المقاعد البرلمانية مثل حزب شباط. كما أن أغلب الأحزاب "الوازنة" لا تكن للإسلاميين إلا الرغبة في الإجهاز في تجربتهم في الحكم، بل وتمني ردم أي وجود لهم بالكامل. فحزب المهدي بن بركة كما هو معروف، خصم مذهبي وتاريخي للإسلاميين، كل الإسلاميين، وحزب "الأصالة والمعاصرة" ومنذ أول تأسس أعلن أنه جاء لإنقاذ الديمقراطية المغربية من مخاطر "الأصولية"، بل وحاول بكل جهده عقب أحداث 2003 الإرهابية ربط المصيبة بالعدالة والتنمية وذهب بعيدا في عداءه ونادى إلى حل الحزب. هذان الحزبان لاحقا ولا يزالان الحكومة بالنقد الحاد في كل مناسبة، وواكبا محنتها مع شباط بصب الزيت على النار. إلى جانبهما حزب الحمامة، وهو إن كان يصنف نفسه حزبا وسطيا، ورغم أن قواعد الممارسة السياسية المتعارف عنها تفرض عليه الاستعداد للمساومات يمينا وشمالا، إلا أنه سارع عشية إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة إلى الإعلان عن رفضه القاطع لأي مشاركة مع العدالة والتنمية، فهو إذن صار خصما عنيدا لبنكيران وحزبه. واليوم أيضا سارع إلى الإعلان عن رفضه لأن يكون منقذا للحكومة التي يهدد الاستقلال بإغراقها، ونحن نعرف كيف ولد هذا الحزب وتاريخه، ولا يمكن التصديق بأي حال من الأحوال بأن موقفه لا الأول ولا الثاني موقف حزب "مستقل". وأما باقي الأحزاب منها ما هو متفرج كأيها الناس، ومنها من اكتفى بالدعوة إلى الحكمة والدعاء للمتخاصمين بالهداية، لأن الرصيد من المقاعد لا يسمح بأكثر من ذلك. حزب الإستقلال، لم "يتغول" على بنكيران إلا لأن الساحة الحزبية هي على هذا الحال، فالحصار مضروب على العدالة والتنمية والاختيارات أمامه شبه منعدمة، وهي الفرصة التي لا تضيع على سياسيين أمثال شباط، وهو المعروف بطموح لا حدود له وربما لن يحد إلا بالوصول إلى الوزارة الأولى، وهو أمر ممكن في مغرب العهد الجديد. هذه هي الحسابات التي غرق فيها قادة أحزاب ما بعد دستور 2011، وليست هي الحسابات التي في ذهن المغاربة، فالمغاربة كانوا ينتظرون من التجربة الحالية أن تتجاوب مع مطالب شعارات مظاهرات الربيع المغربي، أن يتحقق الإصلاح الكبير، أن يزول الإستبداد والفساد وتنزاح كوابيس الأزمة الشاملة التي يتخبط فيها المغرب وتهدد استقراره وأمنه. فالهوة سحيقة بين الشعب ونخبته الحزبية. وهي هوة كانت حتى قبل هذه التجربة. فحركة 20 فبراير بمظاهراتها وصحبها وشعاراتها انطلقت بعيدا عن الأحزاب السياسية، والأحزاب السياسية تفاجأت بها، بعضها عارض الحركة، والبعض سايرها مكرها والبعض احتال عليها، وجميع الأحزاب في الحقيقة استغلت ما أتت الموجة من مبادرات ملكية أعادت للمشهد الحزبي الحياة بعد طول ركود، وعادت الحيوية للهياكل التنظيمية وانبعثت الحياة فيها بعد طول جمود. فالأحزاب السياسية كانت هي المخاطب الأساسي في العملية السياسية التي أعقبت مبادرات الملك، احتكرت كعادتها تمثيلية الشعب، وتحدثت باسمه وقررت في مصيره، وبفضله حصدت الأصوات والمقاعد وغير ذلك. لكنها اليوم تفكر وتتصرف وفق حسابات سياسية وأغراض بعيدة كل البعد عما كان منتظرا منها، بعيدة عن الشعب ومصالحه وانتظاراته. حزب الاستقلال ومن يقاسمه الرغبة في قطع الطريق عن العدالة والتنمية، لا يفكرون إلا في الانتقام للهزيمة التاريخية أمام قوة إسلامية حديثة العهد بالمؤسسات، لا يفكرون إلا في حرمان حكومة بنكيران من الانفراد بتحقيق "مكاسب" قد تدون في سجل إنجازاته ويستخدمها مستقبلا في خطابه مع الغير. هذا ليس دفاعا عن بنكيران وحزبه ولكنه دفاع عن أخلاقيات السياسة. فقبل تأسيس الحكومة كانت هناك انتخابات قال عنها الجميع أنها كانت شفافة، بعدها كانت هناك مفاوضات ومساومات واتفاقات وعهود مكتوبة وبرنامج حكومي موحد، وحماس شعبي، ودعم ملكي مطلق وإجماع على ضرورة العمل على إنجاح التجربة، كل من موقعه، فكيف غاصت الساحة في هذه الحسابات الضيقة التي نرى؟ كيف غابت دعاوي التعاون من أجل البلد وحضر الابتزاز؟ كيف انقلب واجب دعم التجربة وخدمة المصالح العليا للبلد إلى سلوك مسالك الانتقام؟ لا يمكننا أن نثق في الخطاب الذي يغلف هذه الممارسات السلبية ب"المصالحة العامة"، فالمصلحة العامة تكمن في دعم الحكومة وتفهم الإكراهات التي تعيشها، بل إن حتى الهامش المتوفر لها دستوريا وعمليا لا يسمح بالقول إن رئيسها يفعل ما يشاء، رئيس الحكومة الحالي وأي رئيس يأتي مكانه لا يعدو أن يكون دوره هو التوفيق لا غير.لأن كل الخيوط في المغرب ليست لا بيد الحكومة ولا البرلمان ولا أي من المؤسسات الدستورية الأخرى. وبكل صراحة الحاكم الفعلى هي "حكومة الظل" وحكومة بنكيران حكومة الواجهة فقط.للمخزن وجود، وله رجال في مواقع رفيعة. إننا نعيش في بلد يشكل فيه المخزن القوة السياسية الأولى والحقيقية في البلد، قوة تكونت على مدى قرون، ومع مرور الزمن راكم هذا المخزن تمكنه من تطوير نفسه وتقوية نفوذه، وله آليات متطورة للتذخل والتغلغل في النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع، ووجود الدستور والمؤسسات السياسية الرسمية، لا يعني كونه قوة موازية، بل إنه يعمل من داخل تلك المؤسسات، يهدف من خلال نشاطه المخترق لها تحقيق أهدافه، وأهمها عدم السماح بأي تغيير حقيقي يؤدي إلى انفلات الخيوط من يديه، وتحويلها إلى جهة مستقلة كالشعب مثلا. وعليه فإن الصالح العام الذي يتحدثون به، يفترض من حزب الاستقلال وأحزاب المعارضة، إن أرادت حقا خدمة الشعب، أن لا يمسحوا فشل الحكومة في "طريقة تدبير بنكيران للعمل الحكومي" كما يدعون، ولكن أن يواجهوا الماسكين الحقيقيين بدواليب الدولة ومواطن القوة، أولئك الذين لا يظهرون، يفعلون ولا ينطقون، نفوذهم حقيقي لكنهم لا يحاسبون. وهيهات لهذه الأحزاب وكل الأحزاب أن تقرر أو تفعل مثل هذا. فالأحزاب السياسية في أغلبها مسقية بمياه مخزنية، ولا يمكن والحالة هذه أن نطلب منها التوجه بالنقد إلى المسؤول الأول عن فشل التجربة الحكومية، فذلك مستحيل في حقها، ففاقد الشيء لا يعطيه. وعليه فهي جزء من الأزمة وليست من عناصر الحل. وها نحن نتابع المناورات الفارغة والحسابات الضيقة، والتواطؤات السرية والمكشوفة، والأدوار المقسومة لكل فصيل منها، كل حسب قوتة، وكل حسب موقعه، إن بقي تمت تمييز بين المواقع. السيناريو الأقرب للتحقق من وراء هذه الضجة، هو حصول الاستقلال على "مغانم" جديدة مقابل قبوله البقاء بجانب الحكومة، فتاريخ هذا الحزب معروف، والنخبة المتحكمة فيه معروفة، والمصالح التي يدافع عنها معروفة.