إسبانيا.. توقيف عنصر موالي ل "داعش" بالتعاون مع المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني    الوكيل العام بالقنيطرة يعلن إيداع 7 أشخاص السجن على خلفية "فاجعة الماحيا"    طقس الجمعة..جو حار وقطرات مطرية بعدد من مناطق المغرب    إسبانيا.. توقيف عنصر موالي ل "داعش" بالتعاون مع المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني    الركراكي: مباراة زامبيا مهمة لنا وليس لدينا مشاكل مع الإصابات    اجتماع بالرباط لتقييم حصيلة الجهوية المتقدمة يدعو لتعزيز الالتقائية بين العمل الحكومي والجهات    الجزائر تتعرض لانتكاسة على أرضها أمام غينيا    الدار البيضاء تحتضن الملتقى الثامن للمدينة الذكية    المدرب عموتة يجدد التألق مع الأردن    الاقتصاد الروسي ينمو، ولكن هل يستطيع أن يستمر؟            أخنوش يمثل بمجلس النواب لمناقشة الاستثمار ودينامية التشغيل    إسرائيل ترفض مشروع قرار أميركي بمجلس الأمن بوقف الحرب على غزة    السعودية تعلن الجمعة غرة شهر دي الحجة والأحد أول أيام عيد الأضحى    حريق يسقط مصابين في مدينة صفرو    مجلس الحكومة يتتبع عرضا حول برنامج التحضير لعيد الأضحى    وفرة المهاجمين تحير وليد الركراكي    عواصف قوية تخلف ضحايا في أمريكا    فتاة تطوان تخاطبكم    في مدح المصادفات..    أيوب الكعبي يقدر انتظارات المغاربة    إطلاق منصة رقمية للإبلاغ عن المحتويات غير المشروعة على الأنترنيت    الأمثال العامية بتطوان... (618)    بسبب "الفسق والفجور".. القضاء يصدم حليمة بولند من جديد    مليون و200 ألف مجموع الحجاج الذين قدموا لأداء مناسك الحج في حصيلة أولية    وليد الركراكي يوضح موقفه من حج نصير مزراوي    الملك يهنئ عاهل مملكة السويد والملكة سيلفيا بمناسبة العيد الوطني لبلدهما    "غياب الشعور العقدي وآثاره على سلامة الإرادة الإنسانية"    إصدار جديد بعنوان: "أبحاث ودراسات في الرسم والتجويد والقراءات"    تداولات إغلاق البورصة تتشح بالأخضر    الأرض تهتز تحت أقدام ساكنة الحسيمة    الحكومة تحدد مسطرة جديدة لإخراج قطع أرضية من الملك العمومي المائي    طنحة تطلق العد التنازلي لموسم الصيف وتنهي تهيئة شواطئها لاستقبال المصطافين    أساتذة العلوم يحتجون في كلية تطوان    هذه أسباب نفوق 70 من أضاحي العيد    في وداع حقوقي مَغربي    ضبط سيارة بمخدرات في القصر الكبير    مبيعات الإسمنت تتجاوز 5,52 مليون طن    الإجهاد الفسيولوجي يضعف قدرة الدماغ على أداء الوظائف الطبيعية    أونسا يكشف أسباب نفوق أغنام نواحي برشيد    إسبانيا تنضم رسميًا لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام العدل الدولية    تكريم مدير المركز السينمائي عبد العزيز البوجدايني في مهرجان الداخلة    قرض ألماني بقيمة 100 مليون أورو لإعادة إعمار مناطق زلزال "الحوز"    مقتل قرابة 100 شخص بولاية الجزيرة في السودان إثر هجوم    أولمبياد باريس 2024 : ارتفاع أسعار السكن والإقامة    ارتفاع أسعار الذهب مع تراجع الدولار وعوائد سندات الخزانة    أمسية شعرية تسلط الضوء على "فلسطين" في شعر الراحل علال الفاسي    هشام جعيط وقضايا الهوية والحداثة والكونية...    الصناعة التحويلية .. أرباب المقاولات يتوقعون ارتفاع الإنتاج    أولمبياكوس يُغري الكعبي بعرض يتجاوز 5 ملايين يورو    الصحة العالمية: تسجيل أول وفاة بفيروس إنفلونزا الطيور من نوع A(H5N2) في المكسيك    مقتل 37 شخصا في قصف مدرسة بغزة    الممثلة حليمة البحراوي تستحضر تجربة قيادتها لأول سربة نسوية ل"التبوريدة" بالمغرب    نور الدين مفتاح يكتب: آش غادي نكملوا؟    "التسمين" وراء نفوق عشرات الخرفان المعدة لعيد الأضحى بإقليم برشيد    حكومة الاحتلال واعتبار (الأونروا) منظمة إرهابية    قوافل الحجاج المغاربة تغادر المدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قضايا في فكر عبد الهادي بوطالب
نشر في تازا سيتي يوم 18 - 12 - 2009

بوفاة الراحل عبد الهادي بوطالب يفقد المغرب أحد كبار شخصياته. فقد تجاوز الإشعاع الفكري للمفكر و السياسي و الديبلوماسي المغربي بوطالب الحدود الجغرافية المغربية ليسطع في مجموع العالم الإسلامي، بل اقتحم بكل هدوء و فراسة و شجاعة معاقل الفكر الغربي على شكل ترجمات لمؤلفاته. و لاهتمامي المكثف بفكره أسباب ذاتية و أخرى موضوعية.
أ.الأسباب الذاتية: لا يمكن غض النظر في السيرة الذاتية لبوطالب على شيء من الأهمية بمكان في عرفي. من الثوابت الأساسية في شخصية الرجل هناك ثابت الوفاء للنفس. فلا المسؤوليات الوزارية و لا إغراءات الوظائف السامية نالت منه. و يتمظهر هذا الوفاء للذات في كونه غادر كل مهامه الرسمية نقيا و لم يكن موضوع لا فضائح سياسية و لا أخلاقية و لا مالية.
أما الوفاء الآخر فيكمن في تشبته بالإنتاج الفكري الرزين في تنوع فريد، سواء تعلق الأمر عنده بمضامين ما يفكر فيه أو بميادين فكره. فلم تلهيه انشغالات على إنتاج نصوص دسمة لغويا و فكريا و الإسهام بدلوه في الساحة الفكرية لوطنه و لأمته.
زيادة على هذا، و إلى جانب العديد من السمات الإيجابية الأخرى له، فإن ما أثمنه فيه أنا شخصيا هو تواضعه الفكري. و لا نجد هذه الصفة إلا عند كبار المفكرين و اللاهم مُن علينا بتواضع العلماء! فلا طهطهات (من طه) فكرية و لا مساجلات "ياسينية" لحصر الحقيقة في خانة ضيقة، بل فتح الفكر و الإجتهاد على مصراعيه بشروط علمية دقيقة، و استخلاص نتائج صالحة لهذا الزمان، و هذا الزمان وحده. و التواضع الذي أعنيه هنا هو ذاك الذي لا يدعي امتلاك الحقيقة، بل يحاول المساهمة في العثور على سبيل و طريق الحقيقة بالتوفيق بين أدوات بحث مختلفة و طرح السؤال عوض تقديم أجوبة جاهزة.
و التواضع الذي أتحدث عنه عنده يخفي بين ظهرانيه سمة أخرى، ألا و هي سمة الإعتدال و عدم التصلب و التحجر في المواقف و في الفكر. و تمثل هذه الخاصية في نظري أهم خاصية للمفكر الذي يستحق هذا الإسم. اقتراح طريق وسط و صهر الإختلافات في كل متماسك هو لب الثقافة و الحضارة المغربيتين، و هو مكسب حضاري و إنساني يتضح جليا في الإنتاجات الفكرية للدكتور بوطالب.
كل هذه الأسباب الذاتية، و غيرها كثير، هي التي قادتني/وجهتني للإهتمام بقراءة و دراسة و مسائلة هذه الشخصية الفكرية المتميزة.
ب. الأسباب الموضوعية: لا يسمح الوقت لذكر كل هذه الأسباب و سأكتفي ببعضها فقط، و على رأسها خصوصية المواضيع الفكرية التي يُنتج فيها بوطالب. هناك مجموعة كبيرة من المواضيع تهمني في فكره سأركز على أهمها.
أولا: المساهمة في تجديد الفكر الديني
الميزة الأساسية للأستاذ بوطالب هو أنه خبير في هذا المجال. يتحدث من داخل الدين كعالم العلامة، و بهذا فإن لاجتهاداته في تجديد الفكر و الممارسة الدينيين ثقل موضوعي سواء عند المتخصصين في علوم أصول الدين أو عند العلماء الإنسانيين على مختلف توجهاتهم و مدارسهم. فالرجل متمكن من موضوعه و من لغة الضاد، و له كفاءات تفسيرية و تحليلية و تركيبية متميزة. همه الأساس هو محاولة إعطاء فهم صحيح عن الإسلام كدين و كممارسة اجتماعية ثقافية، و قد نقول سياسية كذلك. و المقصود بالتجديد الديني هنا ما عبر عنه بوطالب نفسه في كتابه: "هذه قصتي"، حيث يقول: "إن المقصود بالتجديد الديني هو تجديد ما جاء به الفقه على لسنا المجتهدين، و هم بشر غير معصومين من الخطأ، قاموا بقرائتهم في بعض النصوص الدينية الواردة في الكتاب و السنة و وضعوا على ضوء قراءتهم أحكاما إنشائية أو مضافة أغنوا بها الشرع و أطلقوا عليها اسم الأحكام الشرعية. و لا أحد يحق له أن ينكر عليهم ذلك لأن الدين الإسلامي جاء يحث على الإبداع و الإبتكار و إعمال الفكر في جميع مشارب المعرفة، و يحض من تتوفر لهم الشروط اللازمة على إعمال الإجتهاد في النصوص الدينية لفهمها فهما جديدا و متجددا لسد الفراغ التشريعي ..." (ص 133). و يدخل هذا الإجتهاد في إطار اجتهادات مدرسة "الصحوة الإسلامية"، التي أطلق عليها في كتابه "حقيقة الإسلام": "مدرسة التجديد الذاتي". و كمثال على مساهماته في هذا الميدان، أود تقديم عينة، و لتكن قضية المرأة.
ليس هناك قضية أعقد و أصعب و أهم من قضية المرأة في العالم الإسلامي. و هي القضية التي سببت في إسالة حبر الكثير من الأقلام سواء في العالم الإسلامي نفسه أو في فضاءات حضارية و ثقافية أخرى. و قد لا أجازف الحقيقة إذا قلت إنها أم قضايانا و هي المحك الذي يمكن أن نقيس عليه تطورنا أو تأخرنا. و بدون الحسم في هذه القضية لن يكون باستطاعتنا خلف مستقبل منير للأجيال القادمة.
ما يمكنني استنتاجه شخصيا من اجتهادات بوطالب في هذا الميدان هو أنه انتبه أكثر من غيره من المفكرين المسلمين إلى شيئين رئيسيين: أولهما و أهمها هي التفسيرات غير الصائبة، و في بعض المرات غير الصحيحة، إما لآيات قرآنية بعينها أو لأحاديث نبوية شريفة. و نجد مواقفه في هذا الشأن في الكثير من كتاباته. و ما موقفه الشجاع اتجاه مدونة الأسرة و دفاعه عن حقوق المرأة إلا عربونا ساطعا على ما نقوله. يقول: " كما ناصرت في السنوات الأربع الماضية مشكلة إصلاح أوضاع المرأة و ساندت إدخال تغيير جذري على مدونة الأحوال الشخصية التي تعكس تراثا فقهيا تجمد منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) عند أغلِق باب الإجتهاد و ساد الجمود المجتمعات الإسلامية، و منها المجتمع المغربي [ ... ] و عندما كان الجدال صاخبا في مجال حقوق المرأة بين أنصار التطور الحداثيين، و دعاة الجمود التقليديين أعلنت عن موقفي من هذا النزاع بالإعلان عن إمكانية التوفيق بين هذين الإتجاهين، من منطلق أن أغلبية ما تطالب به المرأة لا يتعارض في نظري مع مقاصد الشرع المتمثلة في قيم العدل و الإنصاف و مساوات الجنسين (أو الزوجيين) الذكر و الأنثى، و قاعدة رفه الضرر و الضِرار، و إعطاء كل ذي حق حقه. و دعوت إلى العودة إلى الإجتهاد في فهم النصوص الدينية بتأويلها على ما يتلاءم مع المقاصد الشرعية، و بما يكفل أن يُدخل على المدونة إصلاحات في العمق تجعل أحكامها أكثر عدلا و إنصافا و إنسانية" (هذه قصتي، ص 115 و ص 116).
ثانيهما هو الإنتباه إلى تحرير المرأة من شبه العبودبة التي فرضها عليها الرجل في مجتمع ذكوري متأخر باسم الدين أو باسم تفسيرات ليس لها من هذه الأخيرة إلا الإسم. و هي تفسيرات لا تخدم بحال من الأحوال مصالح المرأة، بل فقط الميولات الأنانية للرجل و طغيان مبدأ الإمتلاك على مبدأ الكينونة (الوجود) عنده و اعتبار المرأة من عداد ممتلكاته ليس إلا. فمفهوم "بيت الطاعة" التي كانت عامة فقهائنا تفهمه كبيت الزوجية حيث تسلب المرأة كل إرادة و وجوب طاعة زوجها طاعة عمياء، يجب الإجتهاد فيها. و كما يقول علامتنا الكبير: " و رتبوا على هذا المفهوم الخاطئ إرساء علاقة الزوجين على قاعدة علاقة الأمَة بسيدها، أو خادمة البيت بمؤجِرها، ناسين أن الإسلام جاء بتكريم الإنسان ذكرا و أنثى، و أنه جعل النساء شقاق الرجال في الأحكام. و قد ترتبت على هذا المفهوم الخاطئ اجتهادات فقهية كرست النظرة الدنيوية للمرأة بالنسبة للرجل، بل وُضعت في ظلامية هذا المفهوم (و لا أقول على ضوئه) أحاديث نُسبت إلى الرسول، و قرأت قراءات خاطئة لبعض الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية.
و القراءة التي أعلنتُ عنها لمفهوم بيت الطاعة تنطلق من أن بيت الزوجية هو البيت الذي يطيع فيه الزوجان الله و رسوله" (نفس المرجع السابق ص. 150). و بهذا فقد أسس أ. بوطالب في الفقه الإسلامي المتعلق بالمرأة اتجاها ثالثا، و يتماشى و الظروف الراهنة لتطورات المجتمعات المسلمة دون الخروج عن أحكام الشرع (انظر ص. 155 من المرجع السابق).
يمكن على ضوء ما سبق استنتاج أهمية عالمنا الكبير في تجديد الفقه الإسلامي و الدفع به إلى الأمام دون مغالات، لأن العيب في الكثير من الأحيان فيما ورثناه عن فقهائنا من تفسيرات و ليس في الإسلام، لأن هذا الأخير هو دين يسر و ليس دين عسر، دين يحب الحياة ما دامت هذه الأخيرة هبة من الله و يجب الإستمتاع بخيرات الله في حدود ما سمح به، دون مغالات و لا تبذير!
ثانيا: نقد العولمة
لا أخفي بأن المجهودات الجبارة التي أظهرها عبد الهادي بوطالب في نقده للعولمة كانت من الأسباب الرئيسية التي ربطتني من جديد بإنتاجاته الفكرية. أتعاطف مع التي انتبهت إلى سلبيات العولمة و تعمل جاهدة على المساهمة في بناء عولمة بديلة ترجع إلى مبدأ المبادئ في كل تحديث، أي عدم المس بكرامة الإنسانية تحت أي ذريعة كانت و إعادة توزيع خيرات العالم بعدل.
اهتممت بكتاب النمساوي هانس بيتر مارتين Hans Peter Martin: "فخ العولمة" عند صدوره عام 1997 في نسخته الأصلية بالألمانية. و على الرغم من أهمية الوصف العام للعولمة الذي قام به، و كذا المقترحات التي جاء بها لإصلاح مجرى العولمة، فإن هناك ثغرات في هذا الكتاب نبهت لها في قراءتي له. ما ينقص هو وجهة نظر مفكر خارج البلدان التي نظرت للعولمة بهذا الشكل، و أثار انتباهي كتابي. بوطالب "العالم ليس سلعة" و "نحو عولمة أخرى أكثر عدلا و إنسانية".
نشر الكتاب الأول سنة 2001، و هو عبارة عن جمع لمجموعة من المقالات نشرت للمؤلف في منابر عديدة. و هذا يعني بالكاد بأن تفكير بوطالب في العولمة واكب ظهور هذه الأخيرة منذ الوهلة الأولى. و لهذه المواكبة مدخلين: اهتم أول ما اهتم به بالتفريق الدقيق بين مصطلح "العالمية" و "العولمة"، يقول: "تعني العالمية النزعة إلى إفساح الفضاء العالمي للإنسان و إخراج ممارسته و أفكاره و توجهاته من محيطها الضيق (الموطن أو المولد) إلى فضاء أرحب، ينتقل عبره الإنسان، كل إنسان، بلا قيود و لا حدود، ليصبح عاملا مؤثرا و متأثرا بالمحيط العالمي كله. و يمضي التوجه في العالمية إلى حد الحلم بأنه ينبغي أن تكون بديلا للمواطنة و عالم الحدود و الجنسيات و فكرة الوطن الواحد و الدولة الواحدة ليصبح العالم كله للإنسان وطنا شاسع الأرجاء" (ص 23).
أما العولمة فهي: "نظام متكامل لا يترك الفاعل فيه للمفعول به المراد صياغته على نمط الفاعل أي اختيار" (ص 29).
و هذا التمييز الدقيق بين العالمية و العولمة ضروري جدا لمن أراد فهم ميكانيزمات ظهور و تطور المصطلحين. فالأولى قد تظل مثالا و مبتغى للبشرية على اعتبار أن تحقيقها صعب المنال في الظروف الراهنة، أما الثانية فإن التطبيقات الأولية لها توحي بأنها لا تعبر بالضرورة عن تطور إيجابي للعنصر البشري، بقدر ما تضمر نوايا الهيمنة لمهندسي هذا النمط في حكم العالم.
بعد هذا التدقيق المصطلحي حاول شرح الظروف الإقتصادية و السياسية العالمية للعولمة، دون غض النظر عن تأطيرها في إطارها التاريخي العام، بالتأكيد على أن العولمة ليست جديدة كما قد يوهم المرء، لكنها موجودة في تاريخ البشرية و بالخصوص عند نهاية كل حرب و بالأخص الحربين العالميتين الأولى و الثانية. ما يميز العولمة الحالية، كما يؤكد على ذلك بوطالب، هو أمركنتها و فرضها بالقوة تقريبا و عدم إحالتها على موافقة، بل أتت من الأعلى، مملات من طرف الإدارة الأمريكية لكي تعيد تنظيم العالم طبقا لمصالحها.
سوف لن أستفيض في هذه النقطة، و أحيل القارئ الكريم تصفح صفحات هذا الكتاب القيم، لأمر إلى بعض نقط نقد العولمة التي قام بها مركزا بالخصوص على تأكيده بأن أكبر الأخطار التي تمثلها العولمة في حلتها الراهنة هي أنها تتناقض و مبدأ الديمقراطية، كما نعهدها في الإرث الغربي و بالخصوص ابتداء من عصر الأنوار و محاولات بناء دولة الحق و القانون، حيث يحكم الشعب نفسه بنفسه. و يشترك بوطالب في هذه النقطة -دون أن يعلم ذلك- مع الفيلسوف النمساوي هانس كوكلر، رئيس قسم الفلسفة بجامعة إنزبروك، الذي طور أطروحات جريئة في فلسفة القانون مناهضة برمتها للنظام العالمي الجديد الذي يحاول المرء تأسيسه. و لا يمكن اعتبار أمريكا، الراعية لهذا النظام، نموذج الدولة الديمقراطية، لأن هذه الأخيرة تعرف تعثرات لا حصر لها و في أشكال مختلفة.
زيادة على هذا، ينبه بوطالب، كما نبه إلى ذلك الكثير من المفكرين الآخرين، إلى خطر تركيز خيرات العالم على حفنة من المقاولات العالمية -أغلبها أمريكية- و توجيه السوق العالمية طبقا لمصالحها و أيديولوجياتها. و ينتج عن هذا المنطق الإمتلاكي رمي ملايير من البشر في سلة مهملات الإقتصاد العالمي ليعيش أكثر من ثلثي سكان العالم بأقل من دولارين في اليوم و استفحال كل ما يمكن تصوره من المشاكل الإجتماعية. هذا التوجه الإمتلاكي غير صحي و غير إنساني في نظر بوطالب، لابد و الحالة هذه من رفضه و عدم القبول به. و قد لا أبتعد عن الحقيقة عندما أأكد على أن هذا الرفض هو شرط أخلاقي عند أستاذنا، ما دام لا يتطابق و روح بداهة العقل الإنساني في التضامن و الرأفة بالضعيف و عدم سلبه لا سبل العيش و لا كرامته. و نلمس هذا بالخصوص في ثلاثة مقالات رئيسية في هذا الكتاب: "العولمة و وعدها بمحاربة الفقر و الرشوة؟!"، "مناهضة العولمة"، "انتفاضة المواطنة العالمية على ديكتاتورية العولمة"، "لا العالم ليس سلعة".
و يضيف بوطالب في كتابه الآنف الذكر: "نحو عولمة أخرى أكثر عدلا و إنسانية"، و هو كتاب كتب بنفس التقنية التي اعتمدت في الكتاب الثاني، أي على شكل مقالات، و نشر سنة 2004، انتقادات جوهرية أخرى نختار اثنان منها اليوم، يكمن الأول منها في تناقض مبدأ التعددية الذي تنادي له العولمة و غياب التنافسية و ما ينتج عن ذلك من مساوئ.
يقول بوطالب بالحرف: "و هو ليس تعدديا (أي نظام العولمة) لأنه يعتمد خيارا وحيدا هو خيار نظام السوق، و حرية التبادل و تحرك رأس المال بلا قيود. و حين لا يترك هذا النظام للعالم إلا هذا الخيار، فإنه يفرض عليه نظاما أحاديا غير قابل للنقاش، ناسفا بذلك مبدأ التعددية إن لم يكن قانونيا ففعليا" (ص 91). بمعنى أن جوهر المجتمع البشري في خطر، لأن التعددية لا تنحصر فقط على مبدأ السوق بل تتعداه لتشمل ميادين أخرى، و هنا يلتقي بوطالب مع أحد أعمدة الفكر الألماني الحاليين د. فونك، الذي انتقد بشدة في كتابه الأخير "الأنا و الغير" أخطبوطية أيديولوجية العولمة التي تحاول تقليص التنوع الثقافي و الحضاري الإنساني في نموذج وحيد، لا يمكن اعتباره بالضرورة قدوة و لا مثال!
و التنافسية التي تعتبر في العمق ركيزة التجارة و التبادل الإقتصادي هي في العمق أداة استغلال و هيمنة للدول الكبرى من أجل المضي قدما في امتصاص ما يمكن امتصاصه في أسواق الدول الفقيرة و التطاول على ثرواتها الباطنة و الظاهرة. إذا كان التنافس يعني أو يوحي أو يوهم بتوازن ميزان القوى بين المتنافسين، فإن حاله ليس هكذا في نظام العولمة، و كما يقول بوطالب: "لأن الرأسمال الكبير يملك في هذا النظام السيادة و النفوذ على حساب الرأسمال المتوسط أو الصغير. و التنافس بين هذه المستويات يصبح شبيها بمصارعة السمك الصغير للحيتان الكبرى..." (نفس المرجع السابق، ص. 91 إلى 92).
سوف نتوقف عند هذا الحد نظرا لضغط المقام لنشير في نهاية هذه النقطة بأن عبد الهادي بوطالب لم يكتف بعرض العولمة و شرحها و نقدها بل حاول الذهاب إلى أكثر من هذا لكي لا يكون نقده نقدا من أجل النقد. فقد حاول تقديم بديل للعولمة الحالية ليلتقي بالكثير من منتقديها، منبها بأن سخط هؤلاء الذي بدأ في ستايل بمظاهرات صاخبة فرضت على الرئيس الأمريكي السابق كلينتون و هو يلقي كلمته التنبيه إلى ضرورة الإستماع إلى صوت المتظاهرين، لم ينحصر في التظاهرات الشعبية، بل أن الكثير من المفكرين حملوا على عاتقهم التنظير و التفكير في البديل الحقيقي للعولمة الحالية. و هنا بالضبط يكمن بيت القصيد، ذلك أن المرء يشعر و هو يتأمل نصوص د. بوطالب في هذا الميدان باستيقاظة ضمير أخلاقي إنساني وهاج، يطمح لإصلاح المجتمع الإنساني على أسس و مبادئ تأخذ بعين الإعتبار الجنس البشري برمته و ليس فقط فريقا منه. و بهذا أسمح لنفسي أن أقول بأن أستاذنا يدخل عالم العالمية من بابه الواسع و يصبح بهذا من بين المواطنين العالميين الأبرار، الذين يحاولون بناء إنسانية أكثر إنسانية و أقل عدوانية في محاولة لإبدال مقولة: "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" بمقولة: "الإنسان أخ لأخيه الإنسان" بغض النظر عن الموطن و الأصل و اللغة و اللون و العقيدة إلخ.و تقودنا هذه النقطة بالضبط إلى التطرق إلى آخر نقطة لعرضنا هذا، و يتعلق الأمر بالبعد التحاوري في فكر د. بوطالب.
ثالثا: حوار الثقافات
هناك خط مستقيم في فكر بوطالب في ميدان الحوار. و لابد هنا من فهم مصطلح حوار الثقافات في معناه الشامل. كما سبقت الإشارة إلى ذلك، من بين خصوصيات هذه الشخصية المغربية الكبيرة هناك خاصية المشي في الوسط، و اختيار هذا الطريق يعبر بدقة عن فلسفة حياة مبدئها: "عش و اترك الآخرين يعيشون vis et laisse les autres vivre" كما نجد ذلك في فلسفة حياة المحلل النفسي الألماني إريك فروم. سياسيا لم يعرف بوطالب بمواقف جامدة أو متطرفة لا يمينا و لا شمالا، بل اختار أصعب سكة: المشي في الوسط و مد اليد لكل من كان هدفه خدمة القضايا الوطنية و القومية. دينيا لم يكف عن فهم الإسلام كدين وسط، كدين يسر و رحمة و شفقة على العالمين، و مد الجسور بين التأويلات الفقهية المتنافسة و محاولة ربط بعضها بالبعض من أجل ضمان استمرارية إشعاع الإسلام و عدم وضعه في ثابوتات محنطة تسيء له أكثر مما تخدمه. استطاع أن يجمع من حواليه أصدقاء و معجبين و تلامذة من مشارب مختلفة سواء في الداخل أو في الخارج.
و على الرغم من أهمية كل هذا فإن ما يلفت النظر إيجابيا هو ما أسميه شخصيا المواطن الكوني le citoyen cosmopolite الذي يقبع داخل بوطالب. و مرد هذا هو ليس فقط إتاحة المهام الرسمية له الإحتكاك و التعرف على ثقافات و حضارات مختلفة، بل استعداد نفسي و فكري قد يكون فطري. فقد اختار بمحض إرادته في بداية شبابه التفتح على الحضارة الغربية عن طريق تعلم اللغة الفرنسية. مد اليد لثقافات أخرى أخذا و عطاء ينم عن تكوين روحي و فكري رصين و ثقة في النفس و في الآخر مبنية على أسس إنسانية متينة قوامها التبادل و التكامل و التلاقح و المساهمة معا في غد أفضل للإنسانية جمعاء. و ما نقده للعولمة كما رأينا إلا مثال على ما نقوله.
من بين المتطلبات الأخرى لحوار الآخر هو التحلي بالشجاعة الفكرية و الأدبية على تقبل إعادة النظر في النفس و مصارحة المتحاور معه بما لا يكون متطابقا ليس فقط مع فكري و توجهي، بل أيضا مع المنطق الفطري في الإنسان و العقل الباطني له، الذي يعتبر، كما قال ديكارت، أعدل قسمة بين الناس. و نجد هذا بما فيه الكفاية في فكر بوطالب.
ما يجب التأكيد عليه هنا هو أن فلسفة الحوار كما نجدها عند بوطالب لا تعني البتة التخلي في ديناميكية هذا الحوار عن مبادئ ما، بل بالعكس، فالحوار كما يمكن للمرء أن يستشفه عنده مرتبط بالإقناع بالقضايا التي يدافع عنها، ما دام هذا الإقناع نابع عن حسن نية و عن إيمان أخلاقي عميق في خيرة الإنسان و إمكانية استثمار هذه الخيرة فيما هو صالح للإنسانية. و الإقناع في الحوار يشترط أن يكون المخاطب يملك حدا أدنى من احترام المقنع و حد أدنى بمشاركته في الإيمان بما يحاول أن يشرحه له. و لعمري أن هذا الشرط متوفر في شخصية أستاذنا سلوكا و فكرا.
د. حميد لشهب، المطماطي النمساوي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.