المغرب يخلد يوم إفريقيا في نيويورك    النفط يرتفع مع التوقعات بإبقاء كبار المنتجين على تخفيضات الإنتاج    كيوسك الأربعاء | اكتشاف جديد للغاز بمنطقة اللوكوس    قتيل و3 جرحى في حادث تدافع خلال مباراة لكرة القدم بالجزائر    كوريا تدين عمليات الاستهداف بمناطيد بيضاء تحمل "نفايات"    قراءة في تطورات ما بعد حادث وفاة رئيسي و مرافقيه..    المكسيك تطلب الانضمام إلى قضية "الإبادة" ضد إسرائيل أمام محكمة "العدل الدولية"    أولمبياكوس يُعول على الكعبي للتتويج بالمؤتمر الأوروبي    نادي إندهوفن يجدد الثقة في الصيباري    طواف المغرب الدولي للدراجات يشهد مشاركة 18 منتخبا وفريقا    بصدد موقف وزير العدل من "عقود الزواج" في الفنادق    وزارة الداخلية تستنفر مصالحها الترابية لتيسير العطلة الصيفية بالمغرب    دبابات إسرائيلية تصل إلى وسط رفح مع استمرار القصف    ماذا نعرف عن الولاية الهندية التي تحمل مفتاح إعادة انتخاب ناريندرا مودي؟    بوريطة يتباحث مع "وانغ يي" في الصين    الإسراع في بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد بمناسبة انعقاد الدورة العاشرة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني العربي    اكتشافات جديدة لكميات هائلة من الغاز الطبيعي في منطقة اللوكوس    قراءة في ندوة الركراكي : أنا من يتحمل مسؤولية اختياراتي    صندوق النقد يرفع توقعات النمو في الصين إلى 5 بالمئة    استقالة مسؤولة كبيرة بوزارة الخارجية الأمريكية بسبب الحرب في غزة    توقعات أحوال الطقس ليوم الأربعاء    سلطات سبتة تُعلن قرب استخدام تقنية التعرف على الوجوه بمعبر "تراخال"    29 قتيلا و2760 جريحا حصيلة حوادث السير بالمدن خلال أسبوع    البِطنة تُذهب الفطنة    وزيرة الانتقال الطاقي تقول إن تصاميم مشروع خط الغاز المغربي- النيجيري "قد انتهت"    العربية للطيران تدشن قاعدة جوية جديدة بمطار الرباط-سلا    بايتاس يشيد بالسيادة المالية للمملكة    تزايد عدد حجاج الأمن الوطني وحمُّوشي يخصص دعما استثنائيا    ضجة "القبلة الحميمية"..مسؤول يبرئ بنعلي ويدافع عن "ريادة" الشركة الأسترالية    الجيش والرجاء يحققان الفوز ويبقيان الصراع على اللقب متواصلا    القضاء يدين مختلسي أموال مخالفات السير بالحبس النافذ والغرامة    اعتراف إسبانيا وإيرلندا والنروبج رسمياً بدولة فلسطين    حكم قضائي غير مسبوق لصالح مغربية أصيبت بمضاعفات بسبب لقاح أسترازينيكا    الرباط.. استقبال الأبطال الرياضيين المنعم عليهم من طرف صاحب الجلالة بأداء مناسك الحج    الأمثال العامية بتطوان... (610)    وسط أجواء روحانية.. حجاج الناظور يغادرون إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج    البطولة الوطنية الاحترافية القسم الأول (الدورة 28).. النتائج والترتيب    عمالة تاونات تودع حجاجها المتوجهين إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج هذا العام    هل تراجع الرئيس التونسي عن دعم مخطط الجزائر في بناء اتحاد مغاربي جديد؟    ظاهرة "الشركي" ترفع الحرارة بالمغرب بين 37 و42 درجة وسط الأسبوع    الركراكي: منتخب المغرب يمتلك "جيلا ذهبيا" من اللاعبين قادر على إحراز الألقاب    عبد الكريم برشيد: في معرض الكتاب الحكواتي الجديد يحكي الاحتفالية الجديدة    باريس.. حضور قوي للفن المعاصر المغربي ضمن المعرض الطلائعي    تصفيات كأس العالم 2026: الركراكي يكشف لائحة "أسود الأطلس" لمباراتي زامبيا والكونغو برازافيل    مجموعة «رياح كريستالية» تلهب الجمهور بمهرجان فاس للموسيقى العريقة    خط أنابيب الغاز بين المغرب ونيجيريا يبدأ بربط موريتانيا بالسنغال    وزيرة الخارجية المالاوية: المغرب نموذج يقتدى به لما حققه من تقدم في مختلف المجالات    ٱيت الطالب: المغرب يضطلع بدور محوري في تعزيز السيادة اللقاحية بإفريقيا    السيد صديقي يطلع على تقدم المخططات الفلاحية ويطلق مشاريع مهيكلة بالرحامنة وقلعة السراغنة    ملابس النجمات تتضامن مع غزة ضد الرقابة    ايت طالب يناشد من الأمم المتحدة إنقاذ المنظومة الصحية في فلسطين    ارتفاع أسعار النفط في ظل توقعات انتعاش الطلب في الولايات المتحدة    "مستر كريزي" يعلن اعتزال الراب    بعد فوضى سوء التنظيم.. سامي يوسف يوجه رسالة خاصة لجمهوره بمهرجان فاس    خبراء ينصحون بفترات راحة لممارسي رياضة الركض    كيف اكتشف المتحف البريطاني بعد عامين سرقة مجوهرات وبيعها على موقع التسوق "إيباي"؟    انطلاق أولى رحلات مبادرة "طريق مكة" من البيضاء    الغضب يؤذي القلب وقد يقتلك .. كيف؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاصالة والمعاصرة في الفكر العربي المعاصر
نشر في تطاوين يوم 18 - 01 - 2011


ذ. محمد عادل التريكي
عصر، معاصرة، عصري:
المعاصرة، قبل كل شيء، تفتح على حصيلة المعارف والفنون والتقنيات، وعلة الأفكار التي تسود الفترة المعيشة. ويستلزم هذا التعريف حرية الفكر، ومرونة الذهن للتكيف مع ما يستحدث، في مختلف الميادين. فالكسل والرتابة، ورفض التطور، خصال تعادي المعاصرة.
من هنا الفرق بين "معاصرة"(وهي مصنف من الحركات التطورية والتقدمية)، و"موضة" (مستحدثات سطحية ومؤقتة، تجلب بغرابتها وبريقها. إنها من قبيل: "خالف تعرف" واعتبار التغير لذات التغير) فلا اعتراض على استعمال "عصري" وصفا لمن أحسن اندماجه في القرن العشرين. لكن من التجني على اللغة وعلى الواقع، أن نصف بعصري، من يتقن فحسب رخصة "السوينغ"و"بوب ميوزيك" ويعرف آخر موضة في الأناقة، أو يكثر من استعمال "حرمان" و"استلاب" و"أيديولوجيا"و "ديالكتيك"و"كبح" وألفاظ أخرى لها سحر "الموضة".
إن لفظ "عصري" مشتق من عصر، فالعصري ما ينسب لعصر، وبما أن كل الناس عاشوا أو يعيشون في عصر ما، فكلهم عصريون، وقد وضع بعض المجددين، في مقابل "عصري" زيادة على "رجعي" لفظ "ماضوي" من "ماضوية" وهي عندهم: اتخاذ الماضي مرجعا، على حساب العصر والمعاصرة.
الواقع أن تلك المقابلة غير قائمة. فأبو نواس، مثلا، عصري بالنسبة لعصر بني العباس، وفي نفس الوقت ماضوي على اعتبار أن لكل شخص ماضيا عليه يتأسس شخصه، وشخصياته، وبه تحدد كينونته ويتم تشخصنها، إنه مرجعي فيما يتذكر وفيما يتخيل: الماضي حضارة وثقافة، أي تراث مشترك، وذاكرة جماعية: ومن هنا فهو "أصيل" في الشخصية.
وبما أن التواصل من أبعاد الذات العميقة، فكل عصري "معاصر" لأن "الإنسان حيوان مدني بالطبع" إنما معاصرة مع جميع من يحيون العصر نفسه، كلنا معاصرون لمن تجمعنا بهم ثقافة أو تراث: لأن لنا ذاكرة شخصية وذاكرة جماعية. عاصر أبو نواس هارون الرشيد وزبيدة، وكان يحفظ المعلقات، ويعرف الكثير عن أصحابها، أكثر أحيانا مما يعرفه عمن عاشوا معه في البلاط العباسي. وحفظ أبو نواس القرآن، واطلع على تاريخ الفترة التي تفصل زمانه عن بداية الإسلام. ذاك هو أفقه الذهني والثقافي ومنظاره على التاريخ الذي يمارسه، وعلى التاريخ الذي يملأ ذاكرته ومخيلته ويثري تفكيره.
فنحن جميعا، إذن عصريون ورجعيون/ماضويون، في الوقت نفسه، وبالتساوي وسيبقى هذا التخريج مقولة محتملة الصحة تلح على أن تحدد مفاهيم "معاصرة" و "ماضوية" و"رجعية" وأصالة...تحديات أخرى.
عرف كثير من الكتاب العرب "معاصرة" لكنهم وقعوا في تناقضات، فمنهم من يدعي: باسم التقدمية، ضرورة الاستغناء عن التراث العربي- الإسلامي لأنه عائق في سبيل التفتح والرقي.ولا بد من تنظيف ذهننا من بقايا ما علق به من آثار ماضي الأجداد، ومن بين ذلك اللسان العربي لكونه ميتا لا يقدر على مسايرة صيرورة التاريخ.فعلى مثل هؤلاء المصلحين ينطبق المثل: " أراد تطبيبه فأعماه".
أصالة، أصيل ، أصل:
غالبا ما تستعمل "معاصرة" معارضة ل "أصالة" حتى باتت طائفة من المصلحين المجتمعين العرب ضحية لتلك المعارضة.
والواقع أن من خاصيات "الأصالة" لكي تبقى حية، يعني لكي تكون قابلة للاستثمار. أن تبقى دائما محل تساؤل وتكيف، أي دائمة التفتح على صيرورة التاريخ. فبلا هذا التفتح المتحرك، تذبل الأصالة وتنعدم، عمليا وتبقى مجرد عبء ثقيل يعرقل المسيرة، إن الأصالة الحية مجموع من الإيحاءات والمحرضات على العمل، وأحيانا مجموع من الإمكانات. الأصالة اسم مجهول الاسم، لأنه مشترك بين أجيال مضت وأخرى تحيا، وبين ما كان وما قد يكون. ومن خلال الأصالة تنكشف الجذور التاريخية للفرد في علاقاته بمحيطه الطبيعي. إنها القاعدة التي عليها يشيد التجديد وتنعكس الهوية الخاصة والعامة في تطورها. فبلا أصالة من الصعب بل من المستحيل على "الأنا" أن ينسجم مع ال" نحن".
فأصالة، بهذا المعنى، لا تتعارض مع معاصرة، بل تتكامل و إياها، إنها تعطي للتعصير معالم و تجارب و عبرا، فتثريه، و بالتالي تعين في توجيهه وجهة أكثر التصاقا بواقع هذا المجتمع أو ذاك، حسب أوضاعه التاريخية و الجغرافية. لذلك لا نجاري طائفة من المفكرين العرب تقدم لنا الغرب بكل ماله من مزايا ومساوئ، كنموذج أو حد يجب أن نندمج فيه كي ننجو، ولا نجاة عن غير ذلك الطريق.
هذا موقف فكري له حرمته، بيد أنه بلا مشروعية ولا جدوى فهل هناك تلاؤم بين خلفيات الفلسفة " الوضعية" والتعريفات التي يعطيها ل "معاصرة" مفكرنا الكبير، زكي نجيب محمود؟ بنى الغرب ثقافاته المعاصرة على أصالته فلماذا يريدنا بعض المصلحين العرب أن نقفز من لا شيء إلى حضارة القرن العشرين بعد أن نقبر أصالتنا ونبقى بلاغ زاد تاريخي؟ وعلى الأصح إنهم يدعوننا إلى الميادين الليبريالية من القرن العشرين، متجاهلين التجارب والتيارات الفكرية والتطبيقية الأخرى ، كما يطالبنا الماركسيون بأن لا نتبنى إلا المادية التاريخية والمادية الجدلية، باستثناء ما سوى ذلك.
أليس في ذلك تحجير؟
إن الوقفة العربية الإسلامية مطالبة، في الواقع، بأن تحتك بكل التيارات المعاصرة: "تعرب" وتصهر في ذاتيتها وفي أصالتها ما هو حري بأن يعينها على الكفاح ضد التخلف. ولا كفاح ناجع بلا أصالة.
الأصالة أنماط الانفعال والتفاعل، بها تسمو الشعوب، عندما تسمو، وعلى حسابها يكون سقوطها عندما تنحط. إنها إطار الوجدان والضمير في ترابطهما بفردية كل فرد، وبفرديته المجتمعية. فبلا أصالة، ينفك النسق العام الذي تنتظم فيه وبه حركية العلاقات الجماعية.
فالتقدمية الحق، والمعاصرة الحق، لا تقصدان تخلي الشعوب عن ذواتها بل إن فائدتهما هي أن تتحرر الشعوب مما يصيبها من انحرافات عن صواب ذاتيتها. فوجدان الشعوب وذهنيتها معارضان، على الدوام، لانحرافات تزحف من كل ميدان، فتتقوقع الثقافة وتتفسخ الأصالة، ثم تنغلق. وهل الغرب كله محاسن؟
يفترض بعض مثقفينا أن المعاصرة تقتضي من العرب أن يضحوا بتراثهم ليتم الاغتراب (أي الاندماج في الغرب) على أكمل حال. فما مقدار الربح في هذه المقايضة؟ إننا، على زعمهم سنحقق بذلك التقدم، فنعم المعاصرة، وينتشر الرقي بيننا تلك افتراضات.
أما الواقع، فهو إن محاكاة الغرب استلاب. وأن محاكاته وحده تضاعف هذا الاستلاب. على أن هناك مستوى ثالثا للاستلاب، وهو الأفظع: نقلد غربا متحركا أبدا، وبحركاته ينمي باطراد المسافة التي تفصلنا عنه، دون أن نحافظ على أرضية ومعالم! إنه التيه في متاهة. فنحن إذن لسنا مستلبين من لدن التراث العربي الإسلامي، كما يدعون، بل من قبل صورة وهمية عن الغرب تهمشنا أكثر فأكثر. فنزداد انفصالا عن مكوناتنا الأصيلة والأصلية.
فعلاوة على هذا الاستلاب الحلزوني شكلا وكيفا هناك وهمية عن غرب وهمي، ترعرعت نموذجيتها في عقلنا الواعي وفي عقلنا اللاواعي. إنها صورة هوس بصر على توقيف حركات الغرب لمزجه بعالم -"نا"-. وبقدر ما ينفصل الأنا العربي عن جذوره الأصيلة، يغدو قابلا لكل تشكيل وهمي، ولكل تكييف يمارس عليه، بوعي منه أو بدون وعي، مادام قد أمسى لا هو ذاته ولا غيرها. ينساق المستلب إلى أن يحيا في زمان ليس عمليا، زمانا واقعيا، أو على الأصح ليس زمانه، هكذا يندفع اندفاعا مع التعود على الفردية وهو يتهم أنه قد يفرض نمطه من الحياة على مجموع البشر.
إذن، يوجد العرب، والثالثيون عامة في عالمين: عالم التغير والتجدد (الذين يحاولون دون جدوى الاندماج فيه) وعالم التماثل (أ ت أ) عالمهم الواقعي الذي افتقد حركيته من جراء الانبهار الدائم أمام تصورات خيالية عن الغرب- المثل/ النموذج.
هذا وضع يثير القلق لأنه تنازل عن الشخصية الفردية وعن الشخصية الوطنية. في الوقت ذاته دون بديل، إنه تخل بلا ربح أو تعويض. قسمة ميزان. ورغم كل هذا، نجد من يحض العرب على الاسترسال في التقليد الأعمى للغرب. يطالب "لويس عوض" بأن يبتعد العرب عن "عقد الماضي" وغيرها من التحفظات "الميتافيزيقية" ويصف بحث الجابري بمتشائم. ويتأتى التشاؤم، في نظر لويس عوض، من كون الجابري يكثر من "التساؤلات" ولا يقدم "حلولا جاهزة أو غير جاهزة".
أيعد تشاؤما منهج التساؤل أمام مصير غامض، وتخلف بغيض، ولا مخرج في الأفق؟ إن كل الفلسفات تنطلق من الاندهاش، فالتساؤل، ثم الوصف والتحليل. ولولا ذلك لباتت البحوث مجرد مقولات اعتباطية تقدم "حلولا جاهزة " أي سابقة عن كل تفكير واستدلال، قد تكون من باب القبليات والمسلمات، أو " حلولا غير جاهزة" أي كما يتيسر، فوضوية . إن الغرب نفسه، يتساءل، ويكثر من التساؤلات عن أحواله وعن غده. فالتهديدات بالدمار تنمو بلا انقطاع، وسرعة التحولات بلغت حدا لم يعد الغربيون فيه قادرين على مسايرتها. إن توترها يتجاوز إيقاع الإمكانات الفيزيولوجية والسيكولوجية البشرية، لقد غدا الغربي يشعر أنه غير منسجم مع مجريات المعاصرة، منذ أن انفلتت من يده التكنولولجيا فأصبحت تتحكم في نظمه وتنظيماته عوضا عن أن تخدمه (اضطرابات صناعية، ومالية، ومجتمعية، تضخم العملات، وخلل اقتصادي، وبطالة غاشمة، ومزاحمات قاتلة...)
هكذا نشاهد أن المسافة بين تقدم العلم والتكنولوجيا وتطور الإنسان الغربي تنمو، فتزداد المجتمعات على اختلاف طبقاتها تفككا. وتحتد الصراعات على كل المستويات. أيجوز والحال هي ما هي عليه ، أن يماري لويس عوض في كون المسافة بين العرب والغرب تتسع؟
إذا كان الغرب القيم على حضارة التصنيع يعاني الأمرين حائراً أمام نمو المسافة التي تفصله عن صيرورة الأحداث المعيشة، أيجوز للويس عوض أن ينكر أن هوة التخلف التي تبعد الوطن العربي عن العالم الغربي تتسع ؟
إنه يطلب : "المزيد من الإثبات لهذه النظريات الخطيرة، لو كانت صادقة لأنها توصد باب الأمل أمام الأجيال الجديدة على أقل تقدير " هل التخلف الذي يستحق الثالثيين في حاجة إلى إثبات؟ فمتى حجب الغربال ضياء الشمس ؟ كما يقول العامة.
فلنطالب بدورنا الأستاذ عوض أن يضرب أمثلة من بلدان عربية، قضي فيها على الأمية، وسادت بين كل أفرادها العدالة المجتمعية، وتضمن فيها حقوق المواطنة لكل فرد، و ينعدم استغلال الإنسان لجهود الإنسان، وتحترم الكرامة بالتساوي لدى الجميع، ( هل لجميع المواطنين، من بدو وحضر الحظوظ نفسها أمام المرض والحرمان ) أين هو الشعب العربي الذي تحرر من التبعية اقتصاديا وتقنيا وثقافيا وسياسيا...؟
يقال عن الشعوب الثالثية، إنها في "طريق النمو"! لكن، إن ما ينمو، في الواقع هو التخلف! هذا وضع تؤيده الإحصاءات المختلفة وتحياه شعوبنا، يوميا.
الملاحظات السابقة لا تبعث على "الأمل " وإن الواقع، يساندها ويا للأسف! وإن كان لويس عوض لا يريد أن يوصد " باب الأمل أمام الأجيال الجديدة" فلنتعلق إذن ، بأهذاب الأمل- السراب! وعوضا عن أ ن نربي" الأجيال الجديدة " على مجابهة أوضاعها، بموضوعية، عساها تتغلب عليها، فلنقدم لها أسطورة "الأمل " فلنعمق عندها الثقة بين ممارسة حياة التخلف وحياة مختلفة من وحي الخيال! كفانا تكرار سياسة النعامة التي تخفي رأسها في الرمال كلما واجهها الخطر!
اليدان فارغتان والمخ أفرغ، إلا من المتمنيات، يا أجيالنا "الجديدة" ويا أجيال المستقبل، لا خوف عليكم، فلكم الأمل/الآمال، بلا عد و لا حصر ! الغرب يحتكر المعطيات العلمية والتقنية ، ونحن نأمل أن ... الغرب يكتشف ويخترع ويبسط سلطويته على وطننا العربي والعرب يأملون أن ...الغرب يكتشف ويخترع ويبسط سلطويته على وطننا العربي، والعرب يأملون أن...الغرب يحركنا كبيادق فوق رقصة صنعها هو لمصالحه، ويرعاها هو لتدوم سيادته، ويوفق اللعبة حسب مشيئته وإستراتيجياته، ونحن في سبات عميق إلى أن يتحقق الأمل، الأمل في ... الأمل أن...فلننتظر إلى أن تتم "المعجزة" التي سنحققها بالأمل!.
فعلى من يريد أن يمشي "على الأرض"بدلا من التحليق فوق "السحاب"على من يريد أن يفكر في أمر النهضة بمنطقة سليم، و"بمنهج العقل" أن يتسلح بعزيمة العمل على مصارعة التخلف والتصميم الموضوعي. فالأمل نتيجة الالتزام، فلا يأمل إلا العاملون عند ما يتضح المقصد، وتحسن النية، ويصبح الالتزام عمليا.
أصالة ومعاصرة في تكامل:
الغرب نفسه يتغير باطِّراد ( أ =∞ )في صيرورة متصاعدة، فلا غرابة أن يعتمد على تراثه الخاص، عساه يحافظ على معالم ثابتة في هويته، ويتفتح على ما يجري خارج مناطقه من دون تخوف من الذوبان.فمن العبث أن نقلد الغرب في كل شيء، علَّنا نلتحق بالمعاصرة، وفي الآن نفسه، ويرفض بعضنا الإقتداء به في المحافظة على أصالتنا،كما يحافظ هو على أصالته.
فلن يوصلنا، انطلاقا إلى المعاصرة تجديد يرفض الأصالة. لابد من التوفيق بين أصالة ومعاصرة، لأن خصوم الأصالة يجعلون بين قوسين التاريخ العربي الإسلامي، في حين يدعوننا إلى الانفتاح على معاصرة مبنية على أصالة من نوع آخر، وترتكز على تاريخ الغرب أو الشرق يقينا، أن الاتجاه هنا يجر إلى استلاب مضاعف: حرمان من التواصل مع التراث القومي العربي الإسلامي، وتقليد كبشي لتاريخ أجنبي.
إذا كانت المعاصرة انتفاضة ضد التقليد والجمود، يستحيل ألا يباركها كل مثقف واعٍ، أما إذا اعتبرت انتفاضة على ركام الأصالة (الهوية الثقافية والأخلاقية، أي ما يكون ويُكيِّف الشخصية) فلن يرغب أحد في الانسلاخ عن ذاتيته ليرتمي في أحضان الغير افتقارا إلى التكنولوجيا المعاصرة وتزكية للزعامية الغربية.علينا أن نقاوم المفاهيم الخرافية والمباحث الضبابية التهريجية التي سُجنَّا فيها، على يد الاستعمار، ولا نزال سجناءها. فالمقاومة في الواجهتين، تجعلنا "تقدميين"بالفعل، لأنها مقاومة ترفض مثلا أعلى نعمل على تحقيقه.
إن التطور والعقلنة والموضوعية تؤلف البديل العملي للخرافية. فمقابلة "معاصرة"ب"أصالة" مرفوضة.لم يرو التاريخ أن أمة بلا أصالة استطاعت أن تتعصرن. فالمنظرون العرب لا ينازعون في هذا، لكن بعضهم يطلق معنى خاصا على معاصرة، فالعصري كل ما هو غربي التكيُّف مع التغيرات، فأمسى غريباً في العصر.
فلنفرض اليوم أن الهدف من النهضة والتقدم هو أن نجعل من أنفسنا نسخة طبق الأصل للغرب، سيلزمنا إذن أن ننسلخ انسلاخا كليا عن شخصيتنا ونخلع عن ذواتنا "لباس الموت المحنط". أنكون بذلك توقفنا في الحصول على بديل الأوضاع التخلُّف؟ هذا النوع من الإصلاح والتقدمية لن يلقي بالشعوب العربية إلا في مغامرة الغربة والتخلف، لأن التطور والتقدم لا يحصلان بطلاء براق لامع تبرنق به عظام وهي رميم.
حسب التنميط الذي اعتمده صاحب ثقافتنا في مواجهة العصر ، إن الذهنية العربية مختلفة عن الذهنية التي تجعل القرار الإنساني غير مسبوق بمعيار. فوجهة النظر العربية :‌‍»تفترض أسبقية المعيار الذي يقاس به القرار في صوابه أو خطئه«. بعد إقرار هذه الخاصية العجيبة،يتساءل المؤلف: » هل يمكن التوفيق بين أن يكون الإنسان عربيا يحمل وجهة النظر هذه، وأن يكون في الوقت نفسه معاصرا يتطور مع الزمان وتغيراته السريعة؟«.
بصدد هذا السؤال، يمكن إبداء ثلاث ملاحظات :
الأولى: إن استعمار "عربي" بكيفية مطلقة، دون تحديد زمان هذا العربي ومكانه وأوضاعه (الطبقة، مستواه الثقافي، سنة، تجاربه...) مرفوض منطقيا أولا، وتاريخيا ثانيا. ولا يسمح المنطق بالتعميم إلا بعد إستقراء تام. إذا كان "العربي"الذي يفكر ويستنتج، صوفيا، إعتبر "المعيار" الذي يقاس به القرار من وجهة نظر التجربة الوجودية التي يمارسها مباشرة، حدسا وذوقا. ف "تفكير"في هذه الحال، غير وارد، وحصيلة المعرفة من نوع خاص لها معاييرها وقرارتها الخاصة.
أما إذا كان العربي باحثا علميا، اعتبر المعيار هو التجربة الموضوعية (التحليل والتركيب، الاستقراء والاستنتاج...). والتجربة تختلف من صنف إلى آخر من أصناف العلوم. وبما أنه لا يمكن إنكار إسهامات علمية عربية قامت على المناهج العلمية، نؤكد أنه لم تكن للمعيار أسبقية على القرار. وليتفحص من شاء منهج الرياضي المراكشي، ابن البنا، وابن النفيس العالِم الدمشقي، مثلا. وحتى عند الصوفية فإن "المعيار" عند أصحاب وحدة الشهود، ليس هو معيار أصحاب وحدة الوجود. طبعا، إذا قارنا غربيا مثقفا، مع عربي أمي..
إضافة إلى ذلك، يوجد عرب باحثون مخبرين ( على قلتهم) في كثير من جامعات ومعاهد العالم. فهل يفترضون أسبقية المعيار...؟ هل تعوقهم الأصالة العربية الإسلامية العربية عن أن يكونوا باحثين؟.
الثانية: الذين يزعمون أن من الممكن أن تدخل أمة المعاصرة، ولو بلا أصالة، يضربون المثل بالولايات المتحدة. بيد أنهم يتغافلون عن أن الأمريكيين الشماليين ورثوا أصالة أوربية حملوها معهم، في موجات استيطانية متوالية، فاختلط هذا الإرث الضخم الكثيف بما كان عليه السكان الأصليين. إن الأمة الأمريكية الشمالية مزيج ثقافات اندمجت وزواج بين أجناس مختلفة أتت من القارات الخمس. حقا قتل القادمون الكثير من الأهالي الأصليين، لكن الحرب هي نفسها احتكاكات حضرية، رغم كل سلبياتها.
الثالثة: في القرن التاسع عشر، مع بداية تأسيس الإمبرياليات الأوروبية المعاصرة، ظهرت نظرية تدعي أن تفكير الإنسان العربي شبيه بالبدائي، لأن ذهنيته خاصة (ترفض الحرية والمسؤولية والسببية) أما التفكير الغربي فمنطقي وعلمي، وقابل للتجدد، أي أنه عقل قابل لأن يكون: "معاصرا يتطور مع الزمان وتغيراته السريعة" . هذا ما ادعوه المستعمرون، عندما استولوا على أراضينا. ألم يؤكدوا، في الأثنولوجيات الخاصة بالعالم الثالث، أن الذهنية ذهنيتان: الأولى تتحرك في مرحلة ما-قبل- المنطق وفي طور السير نحو اكتساب التمنطق (بفضل الاحتكاك بالاستعمار وذهنية المنطق والإدراك العلمي الخالي من الخرافة والسحر؟
حسب تلك النظرية، يحيا العربي ذهنية لا عقلانية تؤمن ب "قانون المشاركة" ، وتعوم في ثقافة درويشية تقوم على الأدعية والكلمات السحرية، فيقضي أصحابها في فك ما فيها من غرابة وغموض ورموز. فالمفكرون الذين يلحون أن للذهنية العربية بنيات خاصة تميزها عن بقية الأقوام البشرية، إنما يبررون عن غير قصد، الأثنولوجيا المصنوعة بعون الاستعمار ولمصلحته، ضد الشعوب الضعيفة.
الباب المغلق:
نعود إلى تساؤل زكي نجيب محفوظ: " هل يمكن التوفيق بين أن يكون عربيا/له أصالة/ وأن يكون في الوقت نفسه معاصرا يتطور" / يعمل على تحقيق النموذج الغربي/؟ الجواب، بالطبع هو: "لا يمكن" إذا تصورنا أن المفكر العربي الإسلامي على الشكل الخاص الذي يتصوره عليه صاحب ثقافتنا في مواجهة العصر. أي إذا افترضنا أن بين الأصالة العربية الإسلامية وبين المعاصرة حساسية مفرطة وتناقضا عميقا أبديين. فما الذي يبيح هذا الإفتراض؟ هل"العربي" نوع يتميز عن بقية أنواع البشر؟ وماذا يبرر تقابل "أصالة" و"معاصرة"؟
الأصالة العربية الإسلامية تراث امتزجت فيه ذهنيات، وتخاصب فيه سلوك أجيال بتجارب إنسية. إنه سند ذاكراتنا الجماعية، وفي الآن نفسه، القاعدة التي يقوم عليها شعورنا بالانتساب إلى ما نحن عليه، وعليه نركز الوثبات نحو ما نريد أن نصير.
فمن الشعوب من فقد الأصالة لضحالتها أو لتفريط في الحفاظ عليها، فبات مشلولا لا يقدر على المشي، ومنها من أعمته أصالته حتى لم يعد له إلا نصف الحقل البصري، أي لا يبصر كل ما نحن عليه، وعليه نركز الوثبات نحو ما نريد أن نصير.
فمن الشعوب من فقد الأصالة لضحالتها أو لتفريط في الحفاظ عليها، فبات مشلولا لا يقدر على المشي، ومنها من أعمته أصالته حتى لم يعد له إلا نصف الحقل البصري، أي لا يبصر كل ما يتجدد حوله، فيعجز عن الإسهام في التطور، ولا يعرف معنى للمعاصرة. لكن جميع تلك الشعوب مضطرة، بدافع غريزة البقاء (البقاء في التاريخ لا في هامشه) إلى أن تحاول السير ولو بتعثر، إلى الإمام، وأن تفتح البصر على مسيرة التاريخ الحالية، رغم المنظار الناقص. فالشعوب التي لا تقوم بتلك المحاولات تعرض نفسها للانعدام. تمنح الأصالة الشعوب طاقات وسمدا. وأما المعاصرة فتوجهها لتتحقق تحققا سويا، في وجهة تاريخية غدوية تختفي معها العاهات. فما بالنا بمن فقد البصر كله والرجلين معا ولا يحاول التغلب على العاهات؟
تلك هي الحال المتوقعة لكل شعب متخلف (أي لا يتطور/ يجهل المعاصرة كجهل الثالثيين) وفي الوقت نفسه، يحبب إليه بعض منظريه أن يتجاوز أصالته/تراثه بالعدول عنه والانغمار في الغرب، وفي أصالة الغرب...إن المكان الملائم لهذا الحيوان النادر العجيب هو جنينة الحيوانات بين الأصناف التي انقرضت، أو التي يخشى انقراضها.
هكذا لا يخلو مفهوما " أصالة" و"معاصرة" من ارتباك . فلا مندوحة من أن يطالبانا بالتحديد اللازم كي لا يبقيا في مهب الريح .فعندما نقول " أصالة " يجب أن نحدد بالنسبة لأي زمان ، ولأي فترة من الزمان: هل الأصالة هي ما أقرته السلطة ، أو ما أقره المؤرخون (على علاتهم في الرحلات والجولات والحكايات الخرافية)، أو الفقهاء المقلدون (الذين يدعون أن باب الاجتهاد قد أغلق)؟ أم أن الأصالة هي ما جرت به الأعراف والعادات.. ؟ أم هي الفلكلور؟ و"المعاصرة" أهي ما عليه أمريكا الشمالية أم اليابان أو أوروبا؟ وأية أوروبا، الشمالية أو الغربية) وفي غرب أوروبا أيكون النموذج هو بريطانيا العظمى أم البرتغال؟
تأصيل المعاصرة:
يجب أن توضع الأصالة والمعاصرة، بالنسبة لما يرجى منهما داخل مجموع الفعاليات الحياتية. إن الأصالة ليست كل التراث، بل ما تأصل في ذهنية الشعوب وسلوكها، أو ما هو قابل لأن يستثمر في حياتها، حاليا. فالشعوب التي لا تستأنس بتراثها عند بناء مستقبل ترتضيه، طبقا لنماذج المعاصرة التي اختارتها، شعوب مبتورة من حاسة التاريخ ومن الثقة بالنفس. فكثير من المثقفين العرب مستلبون عموديا (قطيعة مع التراث العربي الإسلامي)، وأفقيا (لأن تلك القطيعة تفصلهم عن الجماهير الشعبية) فهم ضحية الانبهار بالغرب، الغرب كحاضر وكتراث فمن المنظرين العرب للتجديد من يفكرون، غالب الأحيان، بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية وهم يتكلمون عن الأصالة العربية الإسلامية أو عن تعصير مجتمعاتهم. إن التآني الذي نريد أن يربط الأصالة بالمعاصرة مجرد جانب من جوانب المثاقفة، في معنى تلاقح ثقافتين أو أكثر، قديمة أو أكثر، قديمة (تراث)، مع حديثة (معاصرة). مثلا إذا تلاقحت الثقافة العربية الإسلامية مع ثقافات غربية حصل تلاحم ثقافي ينتج عنه نمط حي جديد ينسجم مع أوضاعنا التي هي غير أوضاع الغرب. فإذا كانت الأصالة حقا "تلتفت إلى الماضي"، فلماذا يعاب عليها تمركزها في التاريخ؟ أيتصور وجود أمة أو فرد بلا تاريخ؟
سؤال آخر: هل "الخصوصيات" تنفصل عن التاريخ؟ كيف يجوز وصفها بأنها "متطورة" وهي منفصلة عن التاريخ؟ أليس التاريخ بنية التطور؟
تؤكد الأنتربولوجيا الحديثة أن" التراكم" عملية ضرورية لنشوء الحضارات ونموها. وكل حضارة تمثل، في فترة ما مجموع العناصر المادية والمعنوية التي تجمعت لدى الأجيال الحاضرة، بعد أن ورثتها عن الأجيال السابقة، في تتابع الأزمان، وأضافت إليها خبرات وعطاءات جديدة. والعطاء الجديد إنما هو إضافات عناصر "عصرية" حية (حيوية) للتطور، منها يتكون تراث الأمة، أي تركات العصور السالفة ( الماضي ، الأصالة، الخاصيات القومية، التاريخ...).
أما بخصوص ما يدعي عبد الله العروي من"تحجر الأصالة" يجب أن نفرق بين تاريخ انقرض بانعدام الأمة أو الفرد: ويعي المتحدث أنه كذلك قد انتهى، وبين "تاريخ أصيل" أي ما زال يجري في عروق الأمة ويحدد رؤاها وسلوكها(جزئيا أو كليا، فتتطور به وتطوره). إن الأصالة التي يتعرض إليها عبد الله العروي، هي الأصالة العربية الإسلامية وكلنا نعرف أن العروبة والإسلام في صيرورة تحتد في قطاعات وتقل أو تجمد في أخرى، حسب مستويات المثاقفة، هنا أو هناك، وحسب توتر حياتها الداخلية وقدرتها على التواصل مع التيارات الخارجية.
فليست الأصالة تجمدا محضا، كما أن المعاصرة ليست تجددا محضا، فالجمود يصيب حتى التجديد، في بعض الحالات ولو لفترة عوائد وأعراف غابت ثم طفت على ساحة التاريخ. ويصيب"الموضات" فتضمحل إلى الأبد، بعد أن يتحمس لها الناس ويجعلون منها شعارا ورمزا للمعاصرة...
إن النظرة الأحادية تجر إلى الوثوقية،على أن النظرة الإزدواجية هي أيضا لا تخلو من خطر. فعندما يعطي زكي نجيب محفوظ نظرية عن الأصالة العربية الإسلامية، مرة بيضاء ناصعة ومرة سوداء حالكة، لا يجد لدعم ذلك إلا أمثلة أختيرت اعتباطا تجره إلى بعض التناقضات. فهو يدعي أن الخلفاء لم يكونوا يتمتعون بحرية في أعماهم، بينما نراهم في كتابه نفسه، يستبدون بالحكم، أي يتمتعون بحرية مطلقة، مع حرمان الرعية منها. ولماذا لا يرى زكي نجيب محمود في العصر العباسي إلا الطوائف الكلامية؟ أين الغناء والآداب ومجالس الطرف والفكاهة، والأندية العلمية، والمعارك الفلسفية والفقهية، ومراكز الترجمة؟ أين المخترعات والمكتشفات؟
إن كل ثقافة تعرف تناقضات، صفحات مشرقة وأخرى مخزية. فمثلا في القرن العشرين، وجدت إنسية ماركسية محررة ومتفتحة على التقدم، مع ماركسية كاسحة طوطمية تعطل الفكر المعاصر،وستالينية سفاكة للدماء ومعادية للحريات،كما وجدت في أمريكا الشمالية سادية ماركتية مقيتة، رغم التقدم الرائد،في كل الميادين، أما ألمانيا النازية، فقد سار فيها فكر جبار مبدع في خضم من العنصرية و الوحشية.
إشكالية وجهود رائدة:
طرح أستاذنا زكي نجيب محمود، في تجديد الفكر العربي، إشكالية كيف نعيش ثقافة تجمع بين التراث العربي وثقافة العصر الحاضر؟ جاء جوابه، بعد اجتهاد محمود: إن هناك صعوبات، وقد أشارت الصفحات السابقة إلى بعضها. أما في كتابه المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري . فقد قام المؤلف برحلة في تاريخ الأسلاف، لكنه استمع إليهم كيف يصفون مشاكلهم و كيف التمسوا لها الحلول. إنه جهد مهم ومفيد. ومع ذلك، وددنا لو حاول زكي نجيب محمود أن يقرأ ذلك التاريخ قراءة جديدة، أن يتعامل معه، مستثمرا الإرث في بناء المعاصرة عوضا عن ذلك، رفض أن يعاصر الأسلاف، مع أن القضايا الإنسانية الكبرى، المحورية تتبدل شكلا لا عمقا. لقد جلس زكي نجيب محمود"صامتا" كأنه زائر في أرض غريبة، حط رحاله في هذا البلد حينا وفي ذلك البلد حينا/.../ ومثلي في رحلتي هذه مثل السائح، قد تفلت من نظره أهم المعالم لأنه غريب لا يعرف بادئ ذي بدء أين تكون المعالم البارزة، إلا إذا اهتدى بدليل من أبناء البلد..." إنه موقف محايد، كموقف المؤرخ والعالم وهما يتحريان الموضوعية لا كموقف المفكر الذي يلتزم الإصلاح والتغيير. فما يرجى من زكي نجيب محمود أكثر وأكبر مما يطلب من مستشرق، أو من أي باحث عربي آخر.
أما كتابه، تجديد الفكر العربي، فهو كتاب الصحوة، وتغدو الإشكالية هي: " كيف توائم بين ذلك الفكر الوافد بغيره، يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟ " ذاك هو المشكل الحق. اعتكف المفكر الكبير ثمان سنوات" يزدرد" التراث القومي، وهمه هو السؤال الآتي ( الذي هو سؤال إلتزام وإصلاح): "كيف السيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرة واحدة؟" غرض الكتاب محاولات للإجابة.
إن أعمال زكي نجيب محمود مثرية لموضوع " الأصالة والمعاصرة" بل وللفكر العربي-الإسلامي، لما تمده به من معلومات دقيقة، وتحليلات نيرة، وما تعلمنا من جرأة وقدرة على الحوار .
لا ريب في أن في الفكر، حتى الأكثر عقلانية، قابلية لمزج أدلة عقلية بأدلة "وجدانية" فغالبا ما ينطلق المكافحون، انتصارا للمعاصرة من افتراض أن الغرب وثقافة الغرب قد استقر تقديرهما في الوجدان العلمي، وإنهما المصدران لكل رقي ولكل إنقاذ من التخلف. وبما أن هذا الموقف قبلي لا استنتاجي أو استقرائي، جاء بلا دعامة علمية، إنه مجرد انبهار، هذا أولا.
وثانيا: على أي أساس يريد خصوم الأصالة أن نبني تفكيرنا وآمالنا؟ أعلى مركزية الغرب، في الوقت الذي ينادي كثير من مفكريه بالبحث عن ركائز جديدة ، وبإعادة النظر في مكونات حضارة التصنيع النظرية والأخلاقية والتكنولوجية؟ أ نأخذ عن الغرب ما يماري فيه هو نفسه، ويحاول تغييره بحيرة وتشاؤم؟
ففي النصف الأول من القرن الماضي، أحس أبو الوجودية(سرن كير كفورد) بعبثية الحياة المعاصرة وما تجر من قلق وملل، في عالم بلا طعم، باهت وخال من أي معنى، حتى باتت الحياة مرة، ومع ذلك يجب تجرعها : يؤكد (سرن كير كفورد) ذلك في كتابه التكرار، ويضربمثلا يلخص الوضع:" حدث أن اندلعت النيران في أحد المسارح، فتقدم المهرج ليحذر المشاهدين، لكنهم ظنوا أنها مجرد دعابة فصفقوا له. فأعاد التحذير بإلحاح فكرروا التصفيق" ويتنبأ (كير كفورد) مؤكدا: « إني أعتقد أن العالم سيصل إلى نهايته محاطا بتصفيق عام من جميع المفكرين».
حقا، الجميع يتوقع نهاية ومآسي، إلا أن كثيرا من المفكرين يصيحون ويحذرون، عوضا عن أن يصفقوا، فهل من مستمع؟
متى سيأخذ العسكريون والسياسيون مسؤوليتهم بجد وإخلاص بحق مصير البشرية؟ متى سيصحو مثقفو الثالثيين الواعون( ومن بينهم العرب) إلى عيوب اتجاه المسيرة، وانحراف النماذج، وبلبلة المقاصد، دون أن يتهما ب" التشاؤم" و "الرجعية" و"الماضوية"؟
1 انظر: زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي. ط5 (بيروت: دار الشروق 1978)،
2 انظر: لويس عوض،" نحن والغرب في انتظار معجزة" تعليق على بحث محمد عابد الجابري "العرب والغرب على عتبة العصر التكنلوجي" المقدم إلى مؤتمر الأندلس. أيار /مايو 1984. المصور (تموز/يوليو 1984).
3 زكي نجيب محمود،ثقافتنا في مواجهة العصر. القاهرة دار الشروق 1976) ص 57.
4 المصدر السابق.
5 أي ما يسميه ليفي برول ب" Participation" وهي –في نظره- من أصغر الخاصيات في الذهنية البدائية. 6 زكي نجيب محمود.المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري (بيروت: دار الشروق 1975).
7 نتناول بتفصيل، مبحث أصالة ومبحث معاصرة في: زكي نجيب محمود، مفاهيم مبهمة في التفكير العربي المعاصر (القاهرة: دار المعارف (د.ت).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.