واشنطن طلبات من إسرائيل تعطي إجابات بخصوص "المقابر الجماعية" ف غزة    هذه توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرية المعرفة في فكر الدكتور محمد شحرور
نشر في الأحداث المغربية يوم 08 - 07 - 2011

أزمة العقل العربي المعاصر – حسب الدكتور شحرور – تكمن في عدم وجود نظرية إسلامية في المعرفة الإنسانية مصاغة صياغة حديثة معاصرة، ومستنبطة حصرا من القرآن الكريم الذي يشكل النص المحوري في تكوين بنية الثقافة العربية الإسلامية، إذ “إن غياب هذه النظرية أدى بالمسلمين إلى التفكك الفكري، والتعصب المذهبي، واللجوء إلى مواقف فكرية أو سياسية تراثية مضى عليها مئات السنين، تقوم على كيل الاتهامات بالكفر والإلحاد والزندقة لهؤلاء وهؤلاء.منذ صدور كتابه الأول” الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة” سنة 1990، ظل الدكتور محمد شحرور الظاهرة التي استرعت أنظار الكثير من الدارسين والباحثين- كل في مجال اختصاصه وحقل اشتغاله- فقد استطاع أن يقدم للعالمين العربي والإسلامي مشروعا فكريا متميزا ومتكاملا شبيها بتلك الأنساق الفلسفية و الفكرية التي شيد صرحها ثلة من عظماء الفلاسفة أمثال ديكارت، سبينوزا، كانط، هيجل، ماركس....فهو على غرار هؤلاء لم يكتف بطرح بعض الأفكار المتناثرة وصياغة عدد من المفاهيم المجتزأة التي لا يكاد يربطها نسق في ذاته كما هو الشأن عند كثير من المفكرين الحداثيين الذين اتسمت أفكارهم بالتجزيئية والتناقض في كثير من الأحيان، بل على خلاف هؤلاء يتميز فكر الدكتور شحرور بشموليته واستيعابه مختلف الجوانب والفروع المعرفية من فلسفة، منطق، سياسة، اقتصاد، تاريخ، قيم وتشريع. ولم يكن بوسع الدكتور شحرور أن يتوصل إلى هذه النتائج التي شكلت منعطفا حقيقيا في تاريخ الفكر الإسلامي والتي أصابت القارئ بالصدمة والاندهاش المعرفيين لولا المنهج العلمي الصارم الذي اتخذه أسلوبا وطريقة في التفكير والتحليل والذي يمكن تلخيص هيكله العام في النقاط الأساسية التالية:
إن اللسان العربي لا يحتوي خاصية الترادف، بل بالعكس اللفظة الواحدة يمكن أن يكون لها أكثر من معنى،
الألفاظ خدم للمعاني، وان المعاني هي المالكة سياستها المتحكمة فيها.
اللغة حاملة للفكر وتتطور معه وهناك تلازم لا ينفصم بين اللغة ووظيفة التفكير عند الإنسان
لا يفهم أي نص لغوي إلا على نحو يقتضيه العقل
حين يخاطب متكلم سامعا فهو لا يقصد إفهامه معاني الكلمات المفردة، ولكن النظم، لذا فالثقافة المعجمية غير كافية لفهم أي نص لغوي فما بالك إذا كان النص هو التنزيل الحكيم.
التنزيل الحكيم خال من الحشو واللغو والزيادة، فما اعتبره النحاة زائدا في النحو ليس زائدا في الدلالة.
التنزيل الحكيم دقيق في تراكيبه ومعانيه، فالدقة فيه لا تقل عن مثيلتها في الرياضيات والفيزياء والكيمياء.
لا يوجد تناقض بين الوحي والعقل
لا يوجد تناقض بين الوحي والحقيقة
بهذه الأدوات المنهجية المتميزة تمكن الدكتور شحرور من الغوص في أعماق آيات الذكر الحكيم موظفا آلية الترتيل التي تحمل مفهوما خاصا في منظومته الفكرية، ليكتشف أن أزمة العقل العربي المعاصر تكمن في عدم وجود نظرية إسلامية في المعرفة الإنسانية مصاغة صياغة حديثة معاصرة، ومستنبطة حصرا من القرآن الكريم الذي يشكل النص المحوري في تكوين بنية الثقافة العربية الإسلامية، إذ “إن غياب هذه النظرية أدى بالمسلمين إلى التفكك الفكري، والتعصب المذهبي، واللجوء إلى مواقف فكرية أو سياسية تراثية مضى عليها مئات السنين، تقوم على كيل الاتهامات بالكفر والإلحاد والزندقة لهؤلاء وهؤلاء، كل هذا بهدف الخروج من مأزق فكري يقع فيه المسلم في مواجهة الفكر المعاصر...فغياب المنهج المعرفي الذي يمكن أن يواجه كل غث ويحتوي على كل ثمين، هو الذي يؤدي بالضرورة إلى مواقف التشنج والسذاجة وضيق الأفق”.)الكتاب والقرآن:قراءة معاصرة ص:31(
انطلق الدكتور محمد شحرور في مشروعه الفكري من نقطة بالغة الأهمية أعتبرها فيصل التفرقةDémarcation بين فلسفته والمنظومات الفكرية الأخرى وهي التمييز بين ثلاثة أنواع من الآيات في كتاب الله تعالى:
الآيات المتشابهات: وهي التي تمثل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أطلق عليها الكتاب مصطلح “القرآن والسبع المثاني” وهي تحتوي على القوانين المادية الموضوعية الناظمة للوجود بفرعيه الكوني والإنساني، وقد جاءت لتفرق بين الحق والباطل في الوجود الموضوعي. هذه الآيات كانت مخزنة في اللوح المحفوظ قبل نزولها وفيها تلازم الإنزال والجعل، وهي قابلة للتأويل وتخضع للمعرفة النسبية وتغطي الجانب الموضوعي في كتاب الله تعالى.
الآيات المحكمات: وهي التي تمثل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أطلق الكتاب عليها مصطلح “أم الكتاب” وتتضمن مجموع الأحكام من أوامر ونواهي “التشريع”، وهي قابلة للاجتهاد حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية ما عدا العبادات و الأخلاق والحدود. وقد نزلت من عند الله مباشرة للتفريق بين الحلال والحرام في السلوك الإنساني وفيها تلازم الإنزال والتنزيل بدون جعل، وهي تمثل الجانب الذاتي في كتاب الله عز وجل.
آيات لامحكمات ولا متشابهات: وقد أطلق عليها الكتاب مصطلح “تفصيل الكتاب”، وهي الآيات الشارحة لمحتوى الكتاب.
وقد انتهى الدكتور شحرور إلى هذا التصنيف من خلال تدبره للآية 7 من سورة آل عمران ” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب” والآية 37 من سورة يونس “وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه “أي أم الكتاب” وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين”.
إن الخلط بين هذه المصطلحات والزعم بأنها من المترادفات هو الذي أدى بكثير من الفقهاء والمفسرين إلى عدم التمييز بين الذاتي والموضوعي في آيات التنزيل الحكيم ومن ثم الخوض في كتاب الله تعالى دون منهج معرفي واضح قائم على الفصل الدائم بين الحقيقة والوهم، الشيء الذي أدى إلى خلافات مذهبية وصراعات عقائدية أخطرها قضية خلق القرآن بين المعتزلة والمحدثين.
لعل أكبر معضلة فلسفية شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين منذ عهد الإغريق هي إشكالية تحديد العلاقة بين الوجود في الأعيان وصور الموجودات في الأذهان، وعلى هذا الأساس نشأت نظرية المعرفة Gnoséologie للبحث عن مدى قيام معرفة ما عن الوجود بمختلف مظاهره ، وإذا كانت المعرفة ممكنة فما أدواتها، وما حدودها، وما قيمتها؟
في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات، تفرعت المذاهب الفلسفية المعروفة ، وبغض النظر عن مذهب الشك الذي لا يمكن الدفاع عنه رغم حجج الشكاك القدامى والمحدثين، فان المذاهب الرئيسية في إشكالية المعرفة هي التالية: المذهب العقلي الذي يرى أن العقل بما ركب فيه من استعدادات أولية ومبادئ قبلية هو وسيلتنا الوحيدة للمعرفة اليقينية. المذهب الحسي أو التجريبي الذي يرجع المعرفة كلها إلى ما تمدنا به الحواس، باعتبار أن العقل صفحة بيضاء ليس فيه إلا ما تنقله إليه حواسنا. والمذهب الحدسي الذي يذهب إلى أن الطريق الصحيح للمعرفة الجديرة بهذا الاسم هو الحدس “مع الاختلاف حول مفهوم الحدس ذاته”.
بما أن القرآن الكريم وهو الجزء المتشابه في كتاب الله تعالى ، قد جاء ليفرق بين الحق والباطل في الوجود المادي الموضوعي، أي بين الحقيقة والوهم بتعبير الفلاسفة فقد كان لزاما على الدكتور شحرور عند تأصيله لنظرية المعرفة الإنسانية أن يقتصر على دراسة هذا الجانب من المصحف، مفترضا استحالة وجود معالم لهذه النظرية في الجزء المحكم “أم الكتاب” الذي يغطي المساحة الذاتية في آيات التنزيل الحكيم. وانطلاقا من هذا الأساس توصل إلى أن نظرية المعرفة الإنسانية في القرآن تقوم على المبدأ التالي: إن الحق والباطل “الحقيقة والوهم” في الفكر الإنساني ملتبسان في علاقة جدلية لا تتوقف بحيث يفرز الحق عن الباطل لفترة معينة، ثم يعود هذا الالتباس من جديد بأشكال جديدة، فيحتاج إلى فك جديد، وهكذا دواليك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لقد مثل الله التباس الحق والباطل بالماء الذي يشوبه التلوث فهو بحاجة إلى فرز وتنقية ليعود صافيا، وبالحديد الذي يوجد في الطبيعة على شكل فلزات فتقوم الأفران العالية الحرارة بفرز الحديد عن الخبث ” أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال” ” الرعد:17′′
فنظرية المعرفة الإنسانية في القرآن الكريم هي فك الالتباس بين الحقيقة الموضوعية والوهم المرتبطين ببعضهما بعلاقة تناقضية جدلية، وذلك بادراك العالم الموضوعي الرحماني “الحقيقة” على ما هو عليه، حيث أن وجود الأشياء خارج الوعي الإنساني هو عين حقيقتها بخلاف ما يزعمه الفلاسفة المثاليون من أن المعرفة الإنسانية ما هي إلا استعادة أفكار موجودة مسبقا. وقد أكد القرآن هذه الحقيقة بقوله:” والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون” ” النحل:78′′. فالمعرفة الإنسانية بدأت بالتفكير المشخص الجزئي المحدد بحاستي السمع والبصر- وهي التي يطلق عليها الدكتور المعرفة الفؤادية- وارتقت ببلوغها التفكير المجرد العام. لذا كان عالم الشهادة يعني في البداية العالم المادي الذي تعرف عليه الإنسان بحواسه، ثم توسع ليشمل ما أدركه بعقله لا بحواسه. وعليه فان عالم الشهادة وعالم الغيب ماديان، وتاريخ تقدم المعارف الإنسانية هو توسع مستمر في عالم الشهادة، وتقلص مستمر في عالم الغيب، باعتبار هذا الأخير عالما ماديا ولكنه غاب عن إدراكنا لأن درجة تقدم العلوم لم تبلغ مرحلة تمكن من معرفته واستيعابه. )الكتاب والقرآن ص:251-252(
اعتبر الدكتور شحرور أن أساس المعرفة الإنسانية هو التقليم Identification وذلك في قوله تعالى : ” الذي علم بالقلم” وهو تمييز الأشياء بعضها عن بعض، وقد خلق الله تعالى للتقليم أنواعا كثيرة وإمكانيات مختلفة حسب الظروف التي يعيشها كل كائن حي، فإذا أخذنا الحواس مثلا نرى أن العين تقلم الألوان والأبعاد والأشكال التي تدخل ضمن إمكانياتها البصرية، والأذن تقلم الأصوات التي تدخل في إمكانياتها السمعية، واللسان يقلم الأذواق حسب إمكانياته، والأنف يقلم الروائح. وعندما تنتقل صور الأشياء إلى الدهن بواسطة الحواس يعمل الفكر أيضا على التقليم حيث يحلل “يقلم” ظاهرة ما إلى عناصرها الأساسية ثم بعد ذلك يركب “يعقل” ويصدر حكما. وبزيادة التقليم ظهر التصنيف للأشياء وهدا ما يسمى بالتسطير لذا قال تعالى:”ن، والقلم وما يسطرون” ٬ ” وكل صغير وكبير مستطر” أي أن كل الأشياء صغيرها وكبيرها تدخل ضمن التصنيف Classification.
لقد وقفت نظرية المعرفة الانعكاسية ” التي تقول إن المعرفة الإنسانية تنطلق من الواقع المادي القائم على الصراع الداخلي للمتناقضات” عاجزة عن تفسير عنصري التناقض في الدماغ الإنساني وكيف تمت إزالة هذا التناقض، لدا طرحت المقولة التالية: إن الدماغ الإنساني تطور معقد جدا للمادة، ولكنها لم تستطع تفسير كيف انتقل الإنسان إلى مرحلة التجريد والتخيل والابتكار. أما النظرية القرآنية التي تلتقي من حيث المبدأ فقط مع النظرية الانعكاسية المادية-أي أن المعرفة الإنسانية بدأت عن طريق الإدراك الفؤادي أي الإدراك المشخص بالحواس وعلى رأسها حاستا السمع والبصر- فإنها تقدم التفسير العلمي القادر على الإجابة عن تلك الأسئلة عن طريق طرح مقولة نفخة الروح من الله تعالى “ونفخت فيه من روحي” من خارج الكون المادي الثنائي، حيث تبين أن النقيضين غير الماديين اللذين يعملان في الدماغ “الرحمان والشيطان” “الحقيقة والوهم” مربوطان بقانون عدم التناقض. وعندما يفك هذا الربط يتحول الإنسان إلى شخصيتين متناقضتين تماما. فدائما هناك موقف رحماني “صادق حقيقي” في 
أمر ما، وموقف آخر شيطاني”كاذب وهمي” في الأمر نفسه. هذه العلاقة الجدلية بين المتناقضات “الرحمان والشيطان” جاءت في قوله تعالى “يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا” “مريم:44′′
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق ” هل الوهم من نتاج المادة التي لها وجود حقيقي”؟ يعتقد الدكتور شحرور بأنه لا يوجد خارج الفكر الإنساني شيء اسمه وهم، فالأوهام فقط في الفكر، وهكذا فهم قوله تعالى ” فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم”"النحل:98′′. فالقراءة في هذه الآية ليست مرادف التلاوة- إذ لا يوجد ترادف في اللسان العربي وهو ما أشرنا إليه عند تقديم المنهج المعرفي الذي اتبعه الدكتور شحرور- إنما تعني الفهم والمقارنة والاستقراء. فالشيطان يحول فهم وتدبر آيات القرآن من فهم مادي رحماني إلى فهم مثالي شيطاني، وفي هذا المجال نجح الشيطان نجاحا باهرا مع المسلمين وغيرهم. وهكذا لا يوجد إنسان إلا وله شيطانه الخاص”القرين” لأن أي موقف مثالي أو خطأ كيفما كان نوعه فهو موقف شيطاني.
إن هذا الفهم المادي لنظرية المعرفة القرآنية يرد على أوهام ذوي الفهم الطوباوي للقرآن الذين يرفضون نظرية النشوء والارتقاء جملة وتفصيلا بدعوى أنها غير علمية، وحجتهم في ذلك قائمة على التساؤل التالي: لماذا تطور الإنسان من القرد، وبقي القرد قردا؟ والجواب هو أن الله تعالى نفخ الروح في البشر وهو فصيلة من المملكة الحيوانية، فأدى ذلك إلى أنسنته وارتقائه. ولو أنه نفخ الروح في فصائل أخرى لارتقت أيضا. وبذلك تكون الروح هي سر الأنسنة وليست سر الحياة وهي الحلقة المفقودة في نظرية داروين.)الكتاب والقرآن ص:253(
وبهذا توصل الدكتور شحرور من خلال ترتيله لجميع الآيات التي تتعلق بخلق الكون ونشأة وتطور الانسان إلى أن أساس المعرفة الإنسانية في القرآن الكريم هو الفصل الدائم بين الحق والباطل “الحقيقة والوهم” المرتبطين ببعضهما بعلاقة تناقضات جدلية، ومهمة المعرفة هي تفريق الحقيقي عن الوهمي، لدا قال لبني إسرائيل: ” ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون” “البقرة:42′′ أي بعد تفريق الحق عن الباطل ينبغي أن لا نلبسهما معا مرة أخرى، لذا قال في نهاية الآية “وأنتم تعلمون”
على مستوى الممارسة يعتقد الدكتور شحرور أن مهمة جميع الأنبياء والمصلحين على امتداد التاريخ الانساني الواعي كانت هي التجسيد الفعلي لمستلزمات هده النظرية، التي استنبط أسسها حصرا من القرآن الكريم، كل حسب النظام المعرفي والأدوات المعرفية السائدين في عصره ومستوى الإدراك الفكري والثقافي عند قومه، وكذلك كان الدور المنوط بالنبي صلى الله عليه وسلم في القرن السابع في شبه جزيرة العرب هو فك الالتباس بين أوهام الجاهلية الوثنية والحقيقة الموضوعية كما هي في الواقع، غير أن هذا الالتباس يعاود الظهور في كل زمان ومكان بأشكال جديدة وتجليات مختلفة، لذا ينبغي على المسلمين العمل على فك هذا الالتباس المعرفي من جديد في القرن 21 وذلك بنشر الفكر العقلاني الحر في مواجهة الأسطورة والخرافة والأوهام التي قد تجد لها سبيلا الى عقول الناس في غياب المنهج المعرفي القائم على الدقة والعلمية.
بقلم: عبدالحق بوزيان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.