في أواخر القرن الماضي ظهرت جبهة معارضة لطلبة القرآن الذين دأبوا على مجالسة الناس وإسماعهم كلام الله وبعض الأمداح النبوية في المناسبات، فيكرمهم الحاضرون بعد ختم الجلسة بالدعاء لهم ولأهل الدارولعموم المسلمين،"معسكر" يتزعمه شباب ملتحون ينتمي أغلبهم لجماعات"إسلامية" كالعدل والإحسان والدعوة والتبليغ والإصلاح والتجديد آنذاك، هؤلاء الشباب عارضوا أخذ طلبة القرآن للأجرة على القراءة كونه حراما وبدعة، وقدموا لعموم الناس بديلا وهو أن يتطوعوا لهذا العمل في كل المناسبات سواء كانت فرحا أو قرحا، يقرؤون القرآن الذي لايحفظون منه إلا سورة طه ويس حفظا ركيكا يستظهرونه في الأحزان وبعض الأثمان من سورة البقرة أو سورة الفتح في الأفراح - فلكل مقام مقال- تلاوة جماعية ويقرأ أحدهم تلاوة فردية، وينشدون بعض الأمداح بموالات متعددة، وبعد أكل ما تيسريختمون جلستهم بدعاء عام دون تخصيص أحد إلا أهل الدار، ثم ينصرفون إلى حال سبيلهم دون أن ينالوا درهما واحدا عن طيب خاطرلأنهم حسب زعمهم لايريدون بذلك إلا الله والدار الآخرة، لكن غايتهم الخفية أن كل فرقة منهم تدعو إلى منهاجها عن طريق الموعظة التي يلقيها واحد منهم فيمرر إيديولوجية الجماعة التي ينتمي إليها. ثم مالبث هؤلاء المعارضون بعدما خبت شعلة "الفقهاء" وقلت استدعاءات الناس لهم أن بدؤوا يأخذون الأجرة على ما يقدمونه من قراءة وأمداح، بل إنهم اختلفوا عن القراء التقليديين كونهم يشترطون ثمن خدمتهم قبل المجئ إلى المناسبة وهو مالم يكن يجرؤ عليه حملة القرءان الذين يكتفون بما يجود عليهم صاحب الدار والحاضرون قل أو كثر. وشيئا فشيئا أصبح هذا التطوع عملا مربحا يسترزقون به، ولزيادة الربح المادي من قراءة القرآن عمد هؤلاء القراء الشباب لصقل مواهبهم وتطوير مهاراتهم لجني المزيد من الأموال فبدؤوا يرفعون من وثيرة التنظيم داخل فرق كل فرقة لها " مايسترو"، ويتعلمون التلاوة بالمقامات الغنائية كالبيات والرست والنهاوند والسيكا، واستعملوا " الصونو" وكأنهم في جلسة غناء وطرب لا جلسة ذكر وموعظة، جلسة ينقصها الشيخات والمغنون الذين ينكرون عليهم هؤلاء الوصوليون الجدد الطرب والغناء ويحرمونه عليهم وهم فيه سواء. قراءة القرآن بالمقامات أمر ابتليت به الأمة، حتى أصبح المفتونون به لا يحبون إلا الظهور والسمعة ويراؤون بقراءتهم الناس، وبدل أن يهتموا بجوهر القرآن الكريم وما فيه من الحكم والأحكام والمواعظ يسهرون على الانضباط بها بما يفيدهم ومجتمعهم تراهم يهتمون بمزامير الأصوات، فأصبح النص القرآني قطعة غنائية يتفننون في أدائها بمقامات غنائية الأجدر تطبيقها على الغناء وليس على قراءة القرآن التي يجب أن تكون طبيعية وبما جاد الله على صاحبها من تحبير في الأداء وصدق في التطبيق، وإلا استحق القارئ أن يصدق فيه قول الرسول عليه السلام :(ونَشواً يتخذون القرآن مزامير يقدمون الرجل ليس بأفقههم ولاأعلمهم، مايقدمونه إلا ليغنيهم.) السلسلة الصحيحة
للألباني - 979-. وقوله عليه السلام:( سيخرج في آخر الزمان قوم يقرؤون القرآن لايجاوز حناجرهم.) رواه البخاري ومسلم.