وهبي يقدم مشروع قانون المسطرة الجنائية المعدل أمام مجلس النواب    المغرب يدعم مبادرة حل الدولتين لأنهاء مأساة الفلسطينيين    أحد شدا رئيس جماعة بني ملال يمثل اليوم أمام الوكيل العام للملك    "أمان"، دورية شرطة ذكية تضع المغرب في مصاف البلدان الرائدة في المجال الأمني    البرلمان يقر قانون المفوضين القضائيين الجديد في قراءة ثانية    40.1% نسبة ملء السدود في المغرب    "حماة المال العام" يؤكدون غياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد ويحتجون بالرباط على منعهم من التبليغ    عطل في شبكة "تيلفونيكا" يشل الإنترنت وخدمة الطوارئ بإسبانيا    رئيس حزب عبري: إسرائيل تقتل الأطفال كهواية.. وفي طريقها لأن تصبح "دولة منبوذة" مثل نظام الفصل العنصري    دو فيلبان منتقدا أوروبا: لا تكفي بيانات الشجب.. أوقفوا التجارة والأسلحة مع إسرائيل وحاكموا قادتها    الوداد يستعد للمونديال بوديتين أمام إشبيلية وبورتو ويتجه إلى أمريكا في يونيو    الوداد الرياضي يُحدد موعد سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية    مسؤولون دوليون يشيدون بريادة المغرب في مجال تعزيز السلامة الطرقية    استئنافية الرباط تؤجل محاكمة الصحافي حميد المهدوي إلى 26 ماي الجاري    الاهتمام الثقافي في الصين يتجلى: أكثر من مليار و400 مليون زيارة للمتاحف خلال عام 2024    مشاركة أعرق تشكيلات المشاة في الجيش الإسرائيلي في مناورات "الأسد الإفريقي" بالمغرب    تيمور الشرقية: ملف الصحراء المغربية يطرح بقوة على طاولة المؤتمر الإقليمي اللجنة ال24 الأممية    المغرب والإمارات يعلنان شراكات ب14 مليار دولار في مشاريع طاقة ومياه    صلاح رابع لاعب أفريقي يصل إلى 300 مباراة في الدوري الإنجليزي    يوسف العربي يتوج بجائزة هداف الدوري القبرصي لموسم 2024-2025    لهذه الأسباب قلق كبير داخل الوداد … !    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    توقيع مذكرة تفاهم بين شركة موانئ دبي العالمية والهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    ماكرون وستارمر وكارني يهددون إسرائيل بإجراءات "عقابية" بسبب أفعالها "المشينة" في غزة    العدالة والتنمية يحذر من فساد الدعم وغياب العدالة في تدبير الفلاحة    مكالمة الساعتين: هل يمهّد حوار بوتين وترامب لتحول دراماتيكي في الحرب الأوكرانية؟    طقس حار نسبيا في توقعات اليوم الثلاثاء    الأبواب المفتوحة للأمن الوطني بالجديدة.. مناسبة لتحسيس الأطفال بموضوع اختفاء القاصرين    الاقتصاد الاجتماعي والتضامني رافعة أساسية لتنمية شاملة ومستدافة" شعار النسخة 6 للمعرض الجهوي للاقتصاد الاجتماعي والتضامني بوجدة    جماعة الجديدة تطلق صفقة لتهيئة شارع K في حي المطار بقيمة 185 مليون سنتيم    نداء إلى القائمين على الشأن الثقافي: لنخصص يوماً وطنياً للمتاحف في المغرب    "win by inwi" تُتَوَّج بلقب "انتخب منتج العام 2025" للسنة الثالثة على التوالي!    عامل إقليم العرائش في زيارة تفقدية إلى شاطئ رأس الرمل استعدادًا للموسم الصيفي 2025    شاطئ رأس الرمل... وجهة سياحية برؤية ضبابية ووسائل نقل "خردة"!    عامل إقليم العرائش يوافق مبدئيًا على استعمال الجيتسكي صيف 2025 بشروط صارمة    أن تكون فلسطينياً حين تُستدعى أمنيّا: في انحطاط الخطاب الحقوقي وتحوّلات النضال الرمزي!    مسرح رياض السلطان يواصل مسيرة الامتاع الفني يستضيف عوزري وكسيكس والزيراري وكينطانا والسويسي ورفيدة    مستشفى صيني ينجح في زرع قلب اصطناعي مغناطيسي لطفل في السابعة من عمره    إننا في حاجة ماسة لحلبة سباق سياسي نظيفة    حفل "الكرة الذهبية" يقام في شتنبر    تفشي إنفلونزا الطيور .. اليابان تعلق استيراد الدواجن من البرازيل    مهرجان "ماطا" للفروسية يحتفي بربع قرن من الازدهار في دورة استثنائية تحت الرعاية الملكية    المهرجان الدولي لفن القفطان يحتفي بعشر سنوات من الإبداع في دورته العاشرة بمدينة طنجة    إيهاب أمير يطلق جديده الفني "انساني"    ورشة مغربية-فرنسية لدعم أولى تجارب المخرجين الشباب    مدرب منتخب أقل من 20 سنة: اللاعبون قدموا كل ما لديهم والتركيز حاليا على كأس العالم المقبل    مرسيليا تحتفي بالثقافة الأمازيغية المغربية في معرض فني غير مسبوق    العيش البيئي واقتصاد الكارثة    تشخيص إصابة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بنوع "عدواني" من سرطان البروستاتا    النصيري يسكت صافرات استهجان    تقرير رسمي.. بايدن مصاب بسرطان البروستاتا "العنيف" مع انتشار للعظام    من المغرب.. مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة"    التوصيات الرئيسية في طب الأمراض المعدية بالمغرب كما أعدتهم الجمعية المغربية لمكافحة الأمراض المعدية    رحيل الرجولة في زمنٍ قد يكون لها معنى    بمناسبة سفر أول فوج منهم إلى الديار المقدسة ..أمير المؤمنين يدعو الحجاج المغاربة إلى التحلي بقيم الإسلام المثلى    فتوى تحرم استهلاك لحم الدجاج الصيني في موريتانيا    أمير المؤمنين يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة برسم موسم الحج لسنة 1446 ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبل الخيار الديمقراطي ومساهمة حزب العدالة والتنمية فيه
نشر في العمق المغربي يوم 04 - 10 - 2020

من ندوة حول: أي شروط سياسية وقانونية من أجل تكريس الخيار الديمقراطي بالمغرب: قراءة في مذكرة حزب العدالة والتنمية
مصطفى يحياوي،
أستاذ الجغرافيا السياسية والاجتماعية بجامعة الحسن الثاني- الدار البيضاء

تمهيد
في هذا المداخلة، سأحاول جهد الإمكان التقيد بصفتي الأكاديمية، باحثا غير سياسي، تفرض عليه منزلتُه حيطةً في التحليل والتجردَ من أي تقدير سياسي محسوب على حكم قيمة أو انتماء حزبي خاص. ما سأقوم به هو أن أجيب عن سؤال مستقبل الخيار الديمقراطي ومساهمة حزب العدالة والتنمية فيه بالاعتماد على منطلقين اثنين تؤكد معطياتهما الأبحاث الميدانية والخبرات الدراسية المنجزة خلال على الأقل الثلاث سنوات الأخيرة:
المنطلق الأول: المفارقة بين المنحى العام الذي تتجه إليه تحولات الطبائع الاجتماعية في ممارسة السياسة، أو على الأقل ما يحسب عليها من منطق الاهتمام بالشأن العام وصراع القوى المجتمعية، وبين الواقع السياسي الذي أفرزته دورة الاستحقاقات الانتخابية ما بعد دستور 2011.
والمنطلق الثاني: رهان الديمقراطية الانتخابية في ضوء استحقاقات 2021 الموسومة بسياق أزمة اجتماعية واقتصادية حادة بسبب وباء كورنا-19، وصراع معقد للمصالح، وغياب لرؤية سياسية جامعةٍ للفاعلين الأساسيين، قادرةٍ على تعبئة المجتمع وتحفيزه على الثقة في جدوى المشاركة السياسية.
من خلال هذين المنطلقين، سأحاول تحليل حضور حزب العدالة والتنمية في المشهد الحزبي الراهن وتصوره لورش إصلاح النظام الانتخابي، وسيكون الأمر مناسبة لإجراء مقارنة مختزلة بين تصور الحزب وتصور الأحزاب الأخرى، خاصة أحزاب المعارضة (الاستقلال والأصالة والمعاصرة والتقدم والاشتراكية).
المنطلق الأول
1 على المستوى السياسي، لقد زكت الدورةُ الانتخابيةُ لما بعد دستور 2011 التوجهَ العامَ لمسار الإصلاح السياسي لما بعد انتخابات 1997، كما ثبتت خاصية انتظام العملية الانتخابية كإرادة سامية للدولة، وللملك على وجه الخصوص، باحترام اطراد المواعيد الانتخابية، فأصبحت بذلك السمة المميزة للسياسة المغربية، ومدخلا حقيقيا للاتجاه نحو انتخابات ذات مصداقية وذات جدوى من ناحية التداول على السلطة.
فبينما كانت الانتخابات "موضع نزاع" كأداة للسلطوية حتى نهاية التسعينيات من القرن العشرين، أكدت الاستحقاقات الثلاثة المنظمة بين 2011 و2016، أن المغرب قد أنشأ نظامًا انتخابيًا بإمكان استثماره أرضيةً أوليةً لتثمين المشاركة السياسية للأحزاب، والتقدم بشكل أو بآخر في مشروع ملكية برلمانية مستأنسة بالوضع الاعتباري للملك في سلم التراتبية المؤسساتية للدولة؛ بمعنى آخر نحن أمام نظام انتخابي يكرس واقعا إصلاحيا تراكميا قابلا لأن يُبَرِزُ إرادة الناخب مدخلا وحيدا لإفراز تمثيلية حقيقية للأمة. من هذه الناحية، يمكن القول، أيضا، أننا أمام إرهاصات تحول بنيوي في نظرية القيمة الجوهرية للسياسة الانتخابية بالمغرب، أساسها نمط اقتراع نسبي بإمكانه إتاحة الفرصة لتطوير منافسة انتخابية شفافة بين الأحزاب من جهة، وتوسيع قُطْرِ دائرة تسيس التصويت الانتخابي، خاصة في المدن المتوسطة والكبيرة، والتضييق على الاستثمار السلبي في تناقل الأصوات غير المسيسة، من جهة ثانية. بيد أن هذا التحول الإيجابي لم يستتبعه تقدمٌ ملحوظٌ على مستوى الآثار السياسية للثنائية القطبية التي أفرزتها تلك الاستحقاقات، كما لم يتمخض عنه اتفاقٌ سياسيٌ بين مكونات أغلبية منسجمةٍ -عضويا- ومبينةٍ على مشترك برنامجي مقيدٍ بتعاقد انتخابي يحترم إرادة الناخب.
نتيجة هذا التحول "السريع" وغير المتوافق عليه بشكل صريح بين الفاعلين الأساسيين المعنيين بتدبير المسار الإصلاح السياسي بالمغرب، أننا أمام مأزق تعارض في حصاد المرحلة: من جانب، نتقدم من حيث أن القيم غير المباشرة للانتخابات تدفع في اتجاه تطوير نقاش أكبر حول معنى الديمقراطية وممارسة السياسة من منطق مؤسساتي؛ ومن جانب آخر، نتراجع من حيث أهمية التنافس الانتخابي بين الأحزاب في ممارسة السلطة على أساس التعددية والتناوب باستعمال الوسائل الديمقراطية الشفافة والنزيهة، أي أننا أمام عملية انتخابية تؤدي في آخر المطاف إلى إعادة إنتاج العلاقات السائدة في النظام السياسي المحافظ والمحترز من التفاعل التلقائي مع إرادة الناخب، والتي تقوض أي قيم مجردة غير مباشرة يتم إنتاجها في نفس العملية. الأمر الذي يمكن اعتباره ضعفًا متأصلًا في أداء الأحزاب في مختلف محطات المسار الإصلاحي للنظام السياسي المغربي، وهو ما حال في المحصلة دون إنشاء قوة ديمقراطية للتغيير بإمكانها أن تؤدي إلى تثبيت نهائي للديمقراطية.
2 على مستوى التحولات المجتمعية، نحن أمام واقع يتصور فيه الفاعلون الأساسيون حلولا بمراعاة "طقوس" و"عادات" و"مواضعات" اشتغال العقل السياسي "التقليدي" للدولة المركز على السلطة والحكم وعلاقة الأحزاب بهما، بينما فئة عريضة من المجتمع، خاصة الشباب، غير آبهة بجدوى تبئير الحلول على الصراع على السلطة. في اعتقادي، لقد وقع تحول مهم في مضمون الاحتجاجات الاجتماعية ما بعد الربيع الديمقراطي وما تلاه -تدريجيا- ابتداء من نهاية 2016 في الريف وجرادة وزاكورة، زقد انتقل من مطالب شعبية محلية قد تؤول عند الممارسين للسياسة على أنها مرتبطة -عضويا- بالتحليل الذي قامت عليه مطالب الانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي لدى القوى الديمقراطية، خاصة الأحزاب الوطنية والحركة الحقوقية، إلى مضمون يدور حول نوع من "العدالة الاجتماعية" مقرون بمطالب فئوية وحقوقية اجتماعية واقتصادية ذات علاقة عضوية ب"العدالة المجالية" وب"إعادة التوزيع الجغرافي للثروة" وبالتنمية الترابية المبينة على التحفيز على تثمين الثقة بمركزية الاشتغال السياسي للدولة. ومنه، فلم يعد هناك ترادف آلي بين مطالب "الشارع" وبين الأجندة السياسية للانتقال الديمقراطي لتلك القوى.
إذن، نحن أمام واقع مجتمعي لا يكترث بالسياسة بالمعنى وبالتصور الذي أطرته -تاريخيا- وثائق الإصلاح السياسي بالمغرب. بمعنى أوضح قد نكون أمام تعارض آخر في قراءة الواقع السياسي من منظور مجتمعي، مؤداه أن ما يؤطر النقاش العمومي حول السياسة بمعناها المؤسساتي لا يمس جوهر الأزمة التي تعانيها السياسة داخل مجتمع تبدي فيه فئة الشباب (أكثر من %60 من الفئة العمرية التي يحق لها التسجيل في اللوائح الانتخابية) – سوسيولوجيا- ممانعة نفسية وثقافية تلقائية لما يستطيع أن يقترحه "أهل السياسة" من اجتهادات تستقيم وما استندت عليه فكرة الإصلاح والسلطة والانتقال الديمقراطي بعيد حالة الاستثناء وانطلاق المسلسل الديمقراطي في 1976-1977. من هنا يبدو أن واقع التحولات المجتمعية مشجع على بروز طبائع رادكالية في التعبير عن الموقف من السلطة ومن ممارسيها يميل إلى الاستنكار المزاجي وإلى اللجوء إلى تركيب شبكات اجتماعية افتراضية بديلة على الشبكات المعيارية قادرة على المباغتة وسرعة الانسياب في أوساط اجتماعية متباعدة في القيم وفي الجوار الاجتماعي؛ مما يصعب من نجاح محاولات احتواء السلطة لرجات المجتمع.
بالجملة، نحن أمام صراع للقوى المجتمعية قابل لأن يتغذ -سلبيا- وبسرعة من صراع المصالح بين فرقاء الحقل السياسي، فيَسهُلُ حينئذ تبخيس السياسة والسياسيين وإفقاد الثقة في جدوى المشاركة السياسية، فتشيع ثقافة سياسية معاكسة للوثيقة الدستورية ولمحتواها الضبطي للعلاقات الترابية المبنية على الديمقراطية التمثيلية أساسا لممارسة السلطة بمعناها المؤسساتي المعقلن لإرادة الأشخاص في الحظوة المصلحية وفي الشرعية السياسية.
المنطلق الثاني
هب بنا الآن، لبسط الحديث عن المنطلق الثاني، أي الرهانات الجارية حول الديمقراطية الانتخابية في ضوء التحضير لاستحقاقات 2021 وموقع حزب العدالة والتنمية في هذه الدينامية، وسأحاول فيه أن أختزل التحليل في خمس ملاحظات بارزة.
الملاحظة الأولى، لقد مثلت الانتخابات الجماعات الترابية ل2015 وتشريعيات 2016 ممارسة سياسية أكدت إمكانية إعمال حق المشاركة المبنية على المواطنة المحلية في فرز تمثيلية للأمة مبينة على القرب الاجتماعي، بالرغم من أن صلاحيات المجالس المنتخبة على المستوى الترابي تبقى ذات أدوار مقيدة من ناحية ممارسة السلطة (مبدأ التدبير الحر).
وقد يسرت تلك المحطتين للمناضلين والفاعلين المحليين مسالك التنخيب والوجاهة الاجتماعية التي تسمح بالاضطلاع على أدوار الوساطة السياسية بين الساكنة ومجموعات المصالح وبين السلطات العمومية.
الملاحظة الثانية، لقد تبين من الممارسة اليومية للسلطة، أن هناك تجاذبات تعتري علاقة الدولة بحزب العدالة والتنمية، فتارة تظهر الدولة أما حاضنة للحزب باعتبار جزء لا يتجزأ من واقع حزبي مغربي لا فرق لديها فيه بين من يحمل مرجعية إسلامية من غيره ممن يحسب بطريقة أو بأخرى علمانيا أو تقدميا أو ليبراليا حداثيا، وتارة أخرى مضيقة عليه غير منصفة ومائلة لطرف محسوب على الثقافة التي تأسست عليها السياسة الحزبية المغربية في بداية ستينيات القرن العشرين، أي "أحزاب الحظوة الإدارية".
الملاحظة الثالثة، هناك عودة قوية لمحاولة نزع التسييس عن العملية الانتخابية، أي إحياء الاختلاف التقليدي في المغرب بشأن تمثلات السلطة والحكم، لكن مع فارق أن في الفترة الراهنة يسجل وجود تقلب وتراجع في مواقف مبدئية تأسست عليها الفلسفة السياسية لأحزاب بعينها، إذ إلى حدود 2009 لم يكن مصوغا عند تلك الأطراف القبول بوجود إمكانية الامتياز في الحظوة لحزب أو لأحزاب على حساب أحزاب أخرى من دون أن تكون هذه الحظوة مبنية على شرعية انتخابية مفرزة بشكل حر ونزيه.
الملاحظة الرابعة، لقد تأكد عبر نتائج الانتخابات التي أجريت بين 2011 و2016 أن وجود البيجيدي في الحقل السياسي يعد مكسبا سمح باستمرار الوجود الرمزي والاعتباري للحزب بمعناه العام و"باعتباره هيئة دستورية للوساطة السياسية" في جغرافية القرب الاجتماعي، في وقت تراجع فيه التأطير الجماهري للأحزاب الأخرى. إلا أنه وبالرغم من ذلك، فإن الاستئناس بممارسة السلطة لم يؤثر في مرجعية هذا الحزب وفي فلسفته السياسية، إذ التماس المعاين في النشأة بين السياسي والدعوي لم يتغير، بالرغم من أن ممارسة السلطة أكسبت الحزب مساحة من التجربة السياسية "الدنيوية" ومن الاحتكاك بواقع التدبير العمومي القائم على تراتبية "علمانية" وصراع براغماتي للمصالح وعلى تضاربها بين فاعلين ليسوا بالضرورة خصوما أزليين والتعايش مع وجودهم أمرا محتوما في ظل منافسة انتخابية مبينة على الهشاشة النافعة. كلها في اعتقادي عوامل كانت بإمكانها أن تحفز الحزب على القيام بمراجعة مفيدة، خاصة على مستوى الأسئلة المجتمعية التي تستدعي توجها محليا ومغربيا خالصا في الاجتهاد، وهو أمر مفيد، في رأيي، على مستوى تبديد حاجز الثقة مع فرقاء بإمكانهم أن يكونوا حلفاء موضوعيين ضد تيار التوجس والاستئصال الذي ظهر مع أحداث 16 ماي 2003 وما يزال مستمرا كثقافة سياسية تنتعش في سياق صراع على المصالح غير مؤطر بتوافق واضح بين فرقاء المشهد السياسي الراهن.
الملاحظة الخامسة، بقراءة تقاطعية لمجمل المذكرات أو ما يروج من مقترحات للأحزاب الممثلة في البرلمان حول الإصلاحات السياسية والتنظيمية المتعلقة بانتخابات 2021، فإن أهم مشترك مضمر فيها أن المشاركة السياسية للعدالة والتنمية خلال العشرين سنة الأخيرة يجب أن يكون لها ثمن، ولا يمكن أن نتصور أن ذلك يحتمل فقط أن يتحمل فاتورة هذه المشاركة الطرف الآخر في الصراع أو المنافسة، بل أيضا على الحزب أن يتحمل جزءا من هذه الفاتورة، وهو ما يحتم عليه القبول بمبدإ التدرج في قلب المعادلة على مستوى ميزان القوة داخل المشهد الحزبي، خصوصا وأن هذا الميزان تتجاذبه مصالح، ليست بالضرورة شخصية، بل مصالح مؤسساتية مختلفة، وتلزمه باعتماد توازن يسلم بوجود تنافر في تمثلات السلطة والحكم وفي وظيفة الانتخابات والمنافسة الحزبية، وتنافر أيضا في الثقافة السياسية المؤسسة للديمقراطية.
هذا الوضع لا يسوغه دستور 2011، لكنه أمر واقع تحتمله الممارسة السياسية. وعليه، فعلينا التعامل معه ببراغماتية على أنه صراع وجود يتأسس على منطق سياسوي يؤثر لا محالة -سلبا- على منسوب الثقة في جدوى المشاركة الانتخابية، لكنه بالمقابل يعد حتمية سياسية لا يمكن تغييرها، لا على المستوى القريب، ولا على المستوى المتوسط. وبالتالي، علينا النظر إليها أنها إرادة جامحة في الوصول إلى مركز القرار، بناء على تصور يسلم -قبليا- بوجوب حدوث التداول على السلطة، ولو بالتراجع على مكسب النظام الانتخابي النسبي.
من هذا المنظور، في نظري، لن تحسم المنافسة الانتخابية المقبلة بنصوص إجرائية فحسب، بل أيضا بتوافقات سياسية على الحد الأدنى من التنازلات التي بإمكانها أن تحمي مشروع الانتقال الديمقراطي من مخاطر الانحباس، وأن تجنب مسار الإصلاح السياسي من تضارب القراءات في مآلات اختيارات الناخب واحترام إرادته في ممارسة السلطة.
هذا التحليل يقودنا إلى القول بأن الممارسة السياسية للأحزاب هي التي ستطور المسار الديمقراطي، وإذا لم يكن هناك تصور متوافق عليه على مستوى الخيار الانتخابي وجدواه السياسي في ممارسة السلطة، لا يمكن أن يتطور الوضع، ولن يستقر مسار الانتقال الديمقراطي نحو أفق ثابت ونهائي يواكب دينامية الصراعات المجتمعية التي تؤطرها الحاجات اليومية في جغرافية الهامش المحيط بمركز القرار السياسي.
خلاصات عامة
ماذا نستنتج من التحليل أعلاه؟ أعتقد أن التركيب النسقي بين المعطيات السالفة الذكر، يمكننا من خلاصة أربعة أمور أساسية:
أولا، نحن أمام واقع سياسي أصبح بالإمكان فيه الاستناد إلى المنافسة الانتخابية في خلق قيم اجتماعية تجعل من المشاركة المواطنة مدخلا حقيقيا للتداول على السلطة، وأساسا حاسما في شرعية اختيار النخب السياسية، وتجديد الانتداب، والصراع المؤسسي الذي لا ينتهي على السلطة.
لكن في نفس الآن، نحن أمام صعوبة جدية في تثبيت مبدأ التنافس وتعزيز إمكانية وقيم الشرعية الانتخابية، بسبب تنافر قيمة الممارسة السياسية للأحزاب، وتعقد مصالحها المعلنة والمبهمة. وهذا ما يحتمل علينا أن ننظر بشيء من التشاؤم حول مآل الفكرة المجردة للمساءلة في العملية الانتخابية والقيم المرتبطة بالمنافسة الهادفة لتزكية البعد الجماهري في الاشتغال السياسي للأحزاب.
ثانيا، نحن أمام واقع وسياق اجتماعي واقتصادي يفرض قراءة مختلفة تماما عن تلك المعتمدة في 2015-2016، حيث التحدي الوحيد الذي راهنت عليه آنذاك مجموعة من الفرقاء الأساسيين في المشهد الحزبي، هو قطع الطريق على البيجيدي لكي لا يفوز بولاية تشريعية ثانية. ففي اعتقادي، الأمر لم يعد ممكنا في السياق الحالي الذي قدمت بعض ملامحه أعلاه، لأن البيجيدي، بغض النظر عن الموقف الإيديولوجي من أرضيته السياسية المحافظة، ومن التماس الواضح في اشتغاله الجماهري بين ما هو دعوي وبين ما هو سياسي، أصبحت الحاجة إليه ضرورية لتخفيف مخاطر النهاية الكارثية للسياسة الحزبية في المغرب. فهو ما يزال يعتبر الحزب الأكثر تنظيما الذي يحافظ على تأطير دوري في جغرافية القرب الاجتماعي.
ثالثا، وجود احتمال انفراج سياسي يجعل من السنة المقبلة لحظة معاودة مسار الإصلاح السياسي الذي تأسست عليه بداية العهد الجديد. ففي اعتقادي إن واقعية خطاب ثورة الملك والشعب لهذا العام وربطه نسقيا بخطاب العرش لسنة 2007، يتجه نحو أفق استراتيجي لن يستغني فيه الملك على إرادته السياسية في الحسم بشأن مصداقية المسلسل الانتخابي. الأمر الذي يجعل البيجيدي أكثر اطمئنانا لورش التحضير للانتخابات المقبلة. والحاصل، إن الملك يهيئ لإقلاع جيل جديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تربط عضويا المسار الديمقراطي بالمسار التنموي، وينتظر من الأحزاب تفاعلا إيجابيا وسريعا مع هذا التصور؛ علما بأن أشغال اللجنة الملكية المكلفة بتحيين النموذج التنموي تشرف على الانتهاء، ومن المتوقع جدا أن تمثل مخرجاتها أرضية لتصور مجتمعي يرهن مستقبل التصورات الاستراتيجية الكبرى للمغرب إلى ما بعد 2030.
رابعا، إذن، لدى الفرقاء السياسيين في هذه اللحظة الفارقة خياران لعقلنة مخرجات الخريطة الانتخابية المقبلة:
الخيار الأول: تقني خطي يستغني على قاعدة "مراعاة الكفاية| القدرة التعبوية للناخب باعتباره المؤشر الأمثل لقياس الامتداد الجماهري للأحزاب والحفاظ عليه شرطا حاسما في احتساب الأصوات". ويلجأ هذا الخيار إلى إعمال إجراء يحمي التمثيل السياسي للمواطن المبني على مبدإ "حماية حق الأقليات العددية"، بإمكانه أن يستبق اختلال التوازن الواضح على مستوى القدرة التنافسية للأحزاب والذي بإمكانه أن يؤدي إلى فشل مجموعة من الأحزاب المتوسطة والصغيرة في تعبئة أحجام الأصوات الكفيلة بتمكينها من البقاء في المنافسة على عدد المقاعد في لحظة الفرز. وذلك بالتركيز على مرجع احتساب الأصوات أثناء الفرز (أي القاسم الانتخابي) باعتماد عدد المسجلين قاعدة لقلب المعادلة التي يبنى عليها الترادف في الأحجام بين نسبة الأصوات وبين نسبة المقاعد. وهو ما يؤدي -آليا- إلى تقليص إمكانية استفادة البيجيدي من مقاعد أكبر البقية في الدوائر ذات الكثافة السكانية العالية والمتوسطة والمعروفة -انتخابيا- بانخفاض نسبة المشاركة، وارتفاع نسبة تسييس الأصوات المعبر عنها.
الخيار الثاني: سياسي براغماتي يتأسس على تصور توافقي محكوم ببناء الثقة بين الأحزاب وقوى مجتمعية أخرى (بما فيها المدنية غير المنتمية لأحزاب مخصوصة)، واتاحتها الفرصة والقدرة على نسج تحالفات انتخابية قبلية عبر اللوائح المشتركة، تمكن الفائز منها من تفادي اللجوء الاضطراري إلى نسج تحالفات سياسوية غير متجانسة، تطاوع مبدأ "التكملة العددية لاستفاء شرط الأغلبية الحكومية".
كما يبدو، فإن الخيارين مختلفان في المنهجية، متفقان في الغاية، أي عقلنة مخرجات استحقاقات 2021.
لكن هناك وجود لفارقين بينهما:
الأول، أن عدة أحزاب لا تريد أن تتفاوض ولا يهمها ذلك؛ لأن في اعتقادها الاستحقاق الأهم هزم البيجيدي في الانتخابات المقبلة أو على الأقل التحكم في قدرته على الفوز.
في رأيي، دفع البيجيدي إلى الإيمان بضرورة تحكمه "ذاتيا" في صبيب تنخيبه الانتخابي، فرصة لخلق توازن "مشروع" للخريطة الانتخابية تفرضه حساسية المرحلة؛ وهو أيضا فرصة للحزب لإجراء تقييم جدي لمسار إنتاجه لنخب سياسية مناضلة ذات قدرات قيادية ملاءمة لما تفرضه المسؤولية العمومية من تجرد على التراتبية المقدرة على تصور مغلق للتنظيم.
والأهم، أن في هذا التوافق، فرصة لمختلف الفرقاء السياسيين لتثمين مصداقية العملية الانتخابية التي ألح عليها الملك في مختلف استحقاقات ما بعد الربيع الديمقراطي.
بالمحصلة، المخرج الأكثر عقلانية أن تؤمن الأحزاب وجزء من الدولة أن لا ديمقراطية انتخابية بالمغرب بدون توافق على السياسة وليس على المقاعد.
والفارق الثاني، أن الخيار التقني ينحو طريقا يبدو قصيرا ويسيرا في الصياغة والحساب؛ لكنه شاق في الوقع السياسي على مصداقية المشروع الإصلاحي برمته.
أما الخيار السياسي، فيبدو على العكس صعبا في بدايته بسبب الاضطرار إلى التفاوض والتنازل والاعتراف بالحاجة إلى الآخر، لكنه الأيسر والأنجع في النهاية، لأنه الأفضل في النتائج من حيث شفافية العملية الانتخابية، ومن حيث تدبير فرص توازن القوى المعنية بالصراع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.