من الأمور التي باتت مسلّما بها في السنوات الأخيرة، أن تحقيق الأمن القومي لأي بلد ينطلق من ضمان أمنه المائي، وأن الحفاظ على الماء لم يعد كافيا لوحده في ظل الاضطرابات المناخية الأخيرة، بل يتعين توصيله إلى من هو بحاجة إليه. فهل يؤمّن المغرب ثروته المائية بشكل جيد؟ وما هي معالم الوضعية المائية بالبلاد؟ وما هي الإجراءات الكفيلة بتدبير الندرة؟ الأمن المائي للمغرب: مؤشرات مقلقة يحل اليوم 22 مارس اليوم العالمي للماء، وهي مناسبة للوقوف عند مدى استعداد المغرب لمجابهة التحديات المرتبطة بالماء في ظل السياق المناخي والمائي لبلادنا، والذي اتسم في السنوات الأخيرة بموجات جفاف أخرجت ساكنة عدد من المناطق للاحتجاج، بعضها بلغ صداه إلى قبة البرلمان، من خلال الأسئلة التي طرحتها فرق برلمانية حول التدابير المستعجلة لحل مشكل الماء في بعض المناطق مثل زاكورة التي عاشت احتقانا اجتماعيا غير مسبوقا بسبب محدودية مواردها المائية. وتعد تأثيرات الجفاف وارتفاع الطلب من العوامل التي تفرض التخطيط المسبق لاستراتيجيات تنمية الموارد المائية، فيما بدأت الدولة في إنجاز الدراسات الأولى لتخطيط الموارد منذ 1970، ومازال هذا الملف إلى اليوم على طاولة الحكومة تحت مسمى «تدبير الندرة» من أجل تدبير ثروة الماء، سواء مياه الشرب أو مياه السقي، والحفاظ عليها لفائدة الأجيال المقبلة. وإلى اليوم، تتسلح الحكومة بالبرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027، والمخطط الوطني للماء 2020-2050. فالبرنامج الأولوي الوطني للتزويد بالماء الشروب يكلف تنزيله 115 مليار درهم، 61 مليار درهم لتنمية العرض المائي، و25.1 مليار درهم لتدبير الطلب وتثمين الماء، إلى جانب 26.9 مليار درهم لتقوية التزود بالماء الصالح للشرب بالوسط القروي، و2.3 مليار درهم لإعادة استعمال المياه العادمة، ثم 50 مليون درهم للتواصل والتحسيس. فيما يعتبر المخطط الوطني للماء خارطة طريق لمواجهة التحديات المستقبلية في هذا المجال، طبقا لمقتضيات القانون رقم 36.15 المتعلق بالماء الذي يلزم المغرب باعتماد مخطط وطني يمتد على 30 سنة، كما يعتبر امتدادا للبرنامج الأولوي الوطني للماء. وحسب متتبعين، فإن الإجراءات الحكومية لتدبير ندرة الماء تدخل عصر السرعة القصوى، على أمل أن يكون المخطط المائي الذي سيمتد لثلاثين سنة، بديلا عن برنامج المخطط الاستثماري الذي أطلقه المغرب سنة 2010، والذي انتهى العمل به سنة 2020، بقيمة 8 ملايير درهم، وكان يهم عقلنة استخدام الموارد المائية واقتصاد الماء في الفلاحة وإبرام اتفاقيات مع الجهات المتضررة من تناقص الماء، بهدف الحد من الاستغلال المفرط للطبقة المائية الجوفية. كما كانت الحكومة قد خصصت 3 ملايير درهم سنويا قصد تطبيق مقتضى الحكامة الجيدة في تدبير الماء بهدف توفير 5.2 مليار متر مكعب من الماء سنويا خلال الفترة المتراوحة بين 2010 و2030. مؤشرات «مقلقة» وترمي الإجراءات الحكومية المرتبطة بالماء، والمعلنة بمناسبة اليوم العالمي للمياه، الذي يصادف 22 مارس من كل سنة، منذ اعتماده من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة لأول مرة عام 1993، إلى تجاوز مشكل «ندرة المياه» كي لا يتحول إلى «أزمة»، خصوصا أن التقارير الوطنية والدولية تدق ناقوس الخطر منذ سنوات، ولعل آخرها، ما أعلنته الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان، الحاصلة على المركز الاستشاري الخاص لدى الأممالمتحدة، سابقا، من كون ما يقارب 50 في المائة من ساكنة المغرب لا تتوفر على الماء الشروب بالشكل المتعارف عليه دوليا، ونصف المدارس بالعالم القروي لا تتوفر على خدمات الماء والتطهير. كما سبق للبنك الدولي أن أكد في تقرير سابق بعنوان «من أجل عالم خال من الفقر»، أن المغرب يتوفر على احتياطي محدود من الموارد المائية، وأن حجم المياه التي يمكنه تقنيا واقتصاديا استغلالها لا تتجاوز 80 في المائة من الموارد المائية المتوفرة حاليا، وأن نصف الكميات المتوفرة من المياه نصف جيدة، و4 في المائة فقط منها تصنف بالجيدة، معتبرا أن كل المشاكل المرتبطة بالماء في المغرب لها علاقة بتدبير الموارد المائية، ومبرزا أن نسبة إهدار الماء في المغرب تبلغ 35 في المائة من المياه المتوفرة. فضلا عن هذه المؤشرات المقلقة، لاحظ تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بعنوان «الحكامة عن طريق التدبير المندمج للموارد المائية في المغرب»، أن المغرب يشهد منذ سنوات خلت، تفاقما في وضعية الضغط على الموارد المائية بسبب تضافر عوامل عديدة، منها عادات غير اقتصادية في استهلاك المياه، بل وغير معقولة أحيانا، والأنماط المتبعة اليوم في استغلال الموارد المائية، والتي صارت أحيانا تكتسي طابعا عدوانيا وضارا بسبب الخطوات التكنولوجية المحققة، ثم ازدياد غير متحكم فيه في تعداد ساكنة المدن والهوامش، ما يزيد من تعقيد سلاسل تجميع وإفراغ النفايات المنزلية والشبيهة بها والتي غالبا ما يتم التخلص منها في مطارح عشوائية أو في مجاري المياه. وحسب تقرير المجلس الذي يعود إلى العام 2014، فإن استدامة الموارد المائية أصبحت معرضة لخطر حقيقي، بسبب الأنشطة البشرية والاقتصادية الإنتاجية، وعمليات الضخ والاستغلال المفرط لبعض الفرش المائية غير المتجددة، وتؤدي الأنشطة البشرية لوحدها إلى استخراج أزيد من 900 مليون متر مكعب من الماء سنويا من المخزونات غير القابلة للتجديد في الفرش المائية للبلاد. وساهمت المؤشرات السالفة الذكر في انهيار حصة الفرد المغربي من المياه بشكل «مهول» خلال 20 سنة الماضية، بعد أن تقلصت من 2500 متر مكعب في العام في عقد الثمانينيات، إلى 1010 أمتار مكعبة في عام 2000، ثم تدهورت أكثر لتصل في 2013 إلى 720 مترا مكعبا، ويتوقع أن تنخفض إلى 500 متر مكعب في السنة في أفق سنة 2030، وفق تقارير رسمية. وتجدر الإشارة إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تقر بحق الإنسان في الحصول على كفايته من المياه للاستخدام الشخصي والمنزلي (ما بين 50 و 100 لتر لكل فرد يوميا)، على أن تكون تلك المياه مأمونة وبأثمان معقولة (لا ينبغي أن تزيد كلفة المياه عن 3 في المائة من مجمل الدخل الأسري)، وأن تكون متاحة مكانا (ألا تبعد أكثر من 1000 متر من المنزل) وزمانا (ألا يستغرق الحصول عليها أكثر من 30 دقيقة). وصفة العلاج وإذا كانت تقارير عديدة قد قدمت وصفا دقيقا للثروة المائية للمملكة، فإن وصف الدواء المناسب للداء يبقى أكبر التحديات، وفي هذا الإطار، سبق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن قدم «وصفته» لعلاج مشكل الندرة، وتتمثل محاورها الكبرى في تحليل مواطن الضعف ومكامن القوة في قطاع الماء، وكذا الأخطار والفرص، من أجل تحسين التنظيم المؤسسي للقطاع والارتقاء به، وضمان تدبير مندمج ولا مركزي حقيقي للقطاع، ودعم دور الهيئات التشاورية على مختلف المستويات، وتأهيل الترسانة التشريعية والتنظيمية، فضلا عن تحديد أهم الإجراءات ومداخل التحسين في مجال التخطيط وتعبئة وتوزيع وتثمين وحماية الموارد المائية وتمويل هذا القطاع. وأوصى المجلس في رأيه الذي رفعه للجهات المعنية، بتحديد أهداف جدية مرتبطة بتعميم اقتصاد الماء في الاستعمالات الصناعية والسياحية والمنزلية، من خلال تحقيق تعبئة إضافية للمياه قدرها 6.4 مليار متر مكعب من الماء سنويا، وهو ما يمثل أزيد من 25 في المائة من مجموع الموارد المائية ببلادنا، وأكثر من ستة أضعاف المياه المستخرجة حاليا من الموارد غير المتجددة، موزعة كما يلي: 31 في المائة من خلال بلوغ الهدف المتمثل في معالجة 400 مليون متر مكعب من الماء سنويا، من تحلية مياه البحر وتخليص المياه ذات الملوحة العالية من الشوائب المعدنية. 27 في المائة من خلال مواصلة سياسة السدود. 25 في المائة من خلال إعادة التوجيه المكثفة نحو السقي المركز أو السقي بتقنية الرش. 11 في المائة من خلال إعادة استعمال المياه العادمة واقتصاد الماء في الاستعمالات الصناعية والسياحية والمنزلية. 6 في المائة من خلال تحسين شبكات الربط والتوزيع.