وفد قضائي وطني رفيع يزور جماعة الطاح بطرفاية تخليداً للذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء واستحضاراً للموقع التاريخي للملك الراحل الحسن الثاني    مؤسسة طنجة الكبرى: معرض الطوابع البريدية يؤرخ لملحمة المسيرة الخضراء    هنا المغرب    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة إلى النهائي بعد تجاوز المنتخب السعودي في نصف النهاية    لقاء الجيش و"الماص" ينتهي بالبياض    تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    حماس تدعو الوسطاء لإيجاد حل لمقاتليها العالقين في رفح وتؤكد أنهم "لن يستسلموا لإسرائيل"    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا غاضب إذن أنا على حق
نشر في البوصلة يوم 30 - 06 - 2010

يرصد متابع الخطاب العربي المعاصر، من الصحافة إلى معظم النتاج الأكاديمي، ارتفاع حرارة الانفعال فيه ودرجةً من الغضب تراوح بين الحنق والهياج والتحريض، وصولاً، في أدنى حالاتها، إلى التفجع والعويل والسخط المكتوم. تكاد عبارات من نوع "الزمن العربي الرديء" و"المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا" تكون ملْكاً مشاعاً لكل أهل القلم. ويمضي بعضنا في كل الأوقات، وكلنا في بعض الأوقات، في استعراض لا يخلو من تشفٍّ بالذات لهوان العرب على أنفسهم وعلى غيرهم، لغيابهم وغيبوبتهم. أما النبرة فهي دائماً تهويلية أو أشد تهويلاً.
تشترك في هذا الموقف غالبية منابر الكتابة والنشر العربية في مختلف إيديولوجياتها السياسية وولاءاتها. ولا يكاد ينافس خطاب الغضب هذا إلا خطاب الرضا، بل التمجيد الذاتي، الذي تنشره الصحف العربية الرسمية عن حكّام دولها، علماً أن هذه الصحف نفسها لا تلبث أن تعود إلى السخط والتفجع، بل والتجريح، حين تتناول الشأن العربي العام.
يتعارض خطاب الغضب الراهن، وبزاوية 180 درجة، مع خطاب الثقة والحماسة الذي سيطر على الكتابة العربية بعد الاستقلال و"الثورات" حتى هزيمة حزيران. فكأن اجترار تجريح الذات يعكس دوام نزف "الجرح النرجسي"، في تعبير جورج طرابيشي المستعار من فرويد، الذي أحدثته تلك الهزيمة ولم يندمل بعدُ. وكأن استعراض الغضب من الذات يضمر رغبة لا ترتوي في الانتقام منها لسهولة انخداعها بالأوهام أو تعليل نفسها بالأحلام. لقد أمسى الغضب الشكل المعاصر للعروبة.
يولّد الإجماع على الغضب، إن جاز التعبير، حالاً من التعمية يصح أن نسمّيها تجهيل الفاعل، بحيث يبدو سوء الحال العربي فعلاً من غير فاعلين أو مسؤولين. الشكل الأساسي لتجهيل الفاعل هو توزيع المسؤولية على الجميع، كالقول مثلاً إن الأنظمة العربية هي المسؤولة، أو أحياناً المجتمع العربي أو الثقافة العربية، من دون أن يتعارض ذلك مع إلقاء اللوم أيضاً على الإمبريالية أو الصهيونية، وأخيرا على العولمة، وهي محض غول جديد بلا ملامح يتيح مدّ عمر هذا النوع من الممارسة الخطابية.
الحقيقة أن التوزيع التجهيلي للمسؤولية، والتعمية المرتبطة به، نتيجة جانبية لخطاب الغضب أكثر مما هو وظيفته. فالوظيفة الفعلية لهذا الخطاب هي إنتاج انفعال مناسب يغطي على العجز والحيرة. أي أنه يجب أن نبحث عن وحدة هذا الخطاب على مستوى وظيفته الانفعالية لا على مستوى تحديده للفاعلين أو للأسباب. فسواء كان الفاعلون أو الأسباب داخليين أو خارجيين، من ماضينا أو من حاضر غيرنا، فإن القصد دائما هو الشعور بهم كعقبة تصلح لإثارة الانفعال الغاضب ذاته. والرهان في كل الحالات هو ملءُ خانة واحدة، هي الحاجة النفسية التي لا تشبع للغضب، والحفاظ على هذا المزاج الساخط الذي أصبح أشبه بقالب نفسي ثابت في المعنى الكانطي للكلمة، أي صبِّ الوقائع في قالب مُسْتَبْطَن بحيث ينتج منها الغضب والسخط. مع فارق كبير: إن الزمان والمكان وبقية مقولات الحساسية المُتعالية لدى كانط هي (وفقا لتصور مبسّط جدا) القالب الذي تنسكب فيه الظواهر ليُنتج منها معرفة وأحكاماً تحليلية، بينما يسكب القالب النفسي الساخط الوقائعَ منتجاً منها الانفعال: الغضب، الشعور بالنقص، الشعور بالذنب. وفي حين كان كوجيتو ديكارت يقول: "أنا أفكر، اذاً أنا موجود"، وكانت الحساسية المتعالية لدى كانط بناءً للذات في مواجهة العالم الذي صار موضوعاً، فإن كوجيتو النفس العربية الساخطة كما سنرى توّاً يقول : "أنا غاضب إذاً أنا على حق". وبهذا الحق تبقى الذات أسيرة الدائرة الانفعالية وأحكام القيمة، أي أننا نبقى ضمن دائرة الشعور- لا الوعي - وتالياً في مجال ما تحت الذات.
من المرجح أن ثبات هذا القالب النفسي الغاضب يتجذر في حاجة عميقة إلى التبرّؤ وإلقاء مسؤولية العجز بعيدا عن الذات، سواء في اتجاه الماضي أو في اتجاه الخارج، بل حتى في اتجاه الذات ذاتها. إذ في هذه الحال الأخيرة نكسب الصدق على الأقل، ونرتاح. فمن يدين نفسه يخلع ذاتاً مشروخة وينقذ ذاته العميقة الصادقة. لكن هذا الصدق هو الصدق الصغير، صدق المطابقة لا صدق التجاوز والخلق والحرية. في كل الأحوال، يلبي الغضب حاجة نفسية تتيح للذات القلقة أن تتخفف من قلقها وتُسقط عن نفسها القصور والعجز وتتطهر. إنه مسعى للنقاء، لحيازة الشعور بأننا ذاتنا العميقة على حق. لكن هذا مسعىً مرضيٌ في المعنى الحقيقي للكلمة؛ لا لأن العافية النفسية والروحية هي نقيض بتر الذات ونقيض رد الواقع إلى مناسبة للانفعال والشعور بدل كونه موضوعاً للفعل والوعي، بل لأننا محتاجون للغضب، وتالياً لسوء الواقع أو "تسويئه". والقاعدة النفسية المرضية تقول إنه يستحيل شفاء مريض يحتاج إلى مرضه.
لعل مرض الوعي العربي، أو شقاءَه وتمزقه، متأصلٌ في التناقص العميق للنفس العربية، أي تمزقها بين ما تعاينه من ضآلة الشأن وبؤس الواقع، والشعور المكنون بالعظمة، حسبما يقول هشام جعيط، مطابقاً حال المثقفين العرب المعاصرين مع حال المثقفين الألمان في بداية القرن التاسع عشر(تعبير الوعي الشقي للفيلسوف الألماني هيغل).
استثمرت هذا الثابت الثقافي العربي الطويل الأمد إيديولوجيتان، وأفرز تفاعل العرب مع العالم الحديث وانفتاحهم عليه إيديولوجيتين أيضاً. وتطرح كل من هذه الإيديولوجيات مثلاً أعلى خاصاً بها. سنتناول الآن بسرعة دور منابع المثل العليا هذه في إنتاج نظام الغضب وتثبيته.
ثمة أولاً الإيديولوجيا القومية، ومثلها الأعلى هو الأمة العربية الواحدة السيّدة المزدهرة. هنا يُدرك الواقع المعيش بوصفه ابتعاداً عن هذا المثل الأعلى. فالعرب ليسوا أمة في المعنى السياسي للكلمة (كان هيغل يقول إن إلمانيا ليست دولة في أيامه)، وليسوا حتى دولاً متضامنة، بل هم دول منقوصة السيادة، "متعددة الثقوب" أو "مسامية" بحسب تعبير جميل مطر. الغضب من حال الأمة هنا وسيلة للانتماء إليها، وإدانة الواقع يتيح لنا الوفاء للمثل الأعلى الذي يُعرِّف الحق بالذات.
المثل الأعلى الثاني تقدمّه الإيديولوجيا الإسلامية المعاصرة: وحدة الأمة الإسلامية واعتصام شعوبها بحبل الله أو شريعته. يقول أوليفيه كاريه: قد نجد مسلمين سعداء، لكننا لن نجد إلا مناضلين إسلاميين غاضبين. والمناضل الإسلامي، في تعريف كاريه، هو الذي يرفض التفكير في السياسة ومعرفة الواقع، ويُبقي أنظاره معلقة على كمال المثل الأعلى الإسلامي الذي هو الحق بالتعريف.
المثل الأعلى الثالث، وإن يكن الآن في حال انحسار، هو المثال الاشتراكي الماركسي عن دولة عادلة ومتقدمة وتقدمية (قبل أن تتكشف أنها كانت "تقدمية" لأنها ليست عادلة ولا متقدمة). هنا أيضاً نرصد أن المناضل الشيوعي شخصية غاضبة، يتناسب غضبها طرداً مع شدة عقائديتها، أي مع ولائها الحصري لمثلها الأعلى.
وقد نضيف مثلاً أعلى رابعاً يزداد حضوره اليوم في الوعي الاجتماعي، هو المثال الديموقراطي الليبيرالي: دولة الحقوق والتقدم معاً. وهنا أخيراً يحتد الشعور بتلوث الواقع وقبحه بقدر ما نتمسك بنقاء المثال.
في الحالات الأربع قُبح الواقع أثرٌ خطابي لجمال المعيار، وفي الحالات الأربع لا يقتصر الغضب على كونه مقتضى نفسياً لتماسك الذات القلقة العاجزة، بل هو مقتضى خطابي لتماسك الإيديولوجيات ومنابع المُثُل (ليست الذات سوى حقل تقاطع استراتيجيات خطابية، إذا أخذنا برأي ميشال فوكو). لذلك ربما ارتدت هذه الإيديولوجيات إلى مصادر للتقويمات والأحكام التي تمكِّننا من إدانة الواقع، أكثر مما هي مصادر للمفاهيم التي تتيح فهمه واستيعابه، أو الخطط والبرامج التي تتيح توجيه العمل فيه.
هل نعني اذاً أن مصدر الغضب هو علوّ المثل الأعلى لا "سفالة" الواقع؟ وردية الآمال لا قتامة المعيش؟ وتاليا، هل لا سبيل إلى التحرر من الغضب والتفجع إلا بالتحرر من التفاؤل المفرط للآمال؟ ألا سبيل للمصالحة مع الذات إلا بخفض سقف المطامح أو حتى التخلص منها؟
المشكلة أنه مهما أبدى المرء من استعداد للتفهم، ومن "واقعية" واعتدال، فإنه لا يستطيع احترام نخب الحكم العربية وتقبُّل سياساتها، كيلا نقول إنه سيشعر بالخزي منها. قلة هم المثقفون الذين لا يخنقهم الاحتقار حيال حكّام بلدانهم. تبدو الحال لعيون الكثيرين كأن أقصى مطمح للسياسات والنخب السائسة بلوغ "المثل الأسفل"، من دون أن يمنعها ذلك من استغلال كل المثل العليا والتلاعب بها تعزيزاً لصمود الدولة المثقوبة. إن التعسف والاعتباط والذل وتفاهة المقامات الرفيعة السائدة، المستعدة لامتطاء كل موجة والمتاجرة بكل قيمة، إن ذلك كله من الملامح التي لا جدال فيها لحياة العرب المعاصرين. هذا يعني، جزئياً على الأقل، أن غضبنا هو غضبة الحق، هو الانفعال الإنساني الطبيعي حيال الظلم والقبح واللاإنسانية. هل نحن اذاً غاضبون، ببساطة، لأن هناك ما يُغضب، وأنه لا معنى لأن نغضب من غضبنا بدلاً من توفير الغضب لهذا الواقع المحنق؟ نعم بكل تأكيد. لكن هذا الاستدراك لا يفسر ما نسمّيه نظام الغضب. إن نظام الغضب هو بالضبط تحوّل الغضب من انفعال مزعج، لكن سوي وعابر، إلى قيمة مقبولة وفضيلة مستقرة، بحيث يغدو صنواً للالتزام والإيجابية، بينما يصير الرضا والسكينة معادلين للامبالاة والسلبية. وبدلاً من أن نغضب لأن هناك مشكلة أو عائقا تعسفيا في وجه الإرادة، فإننا نحتاج إلى المشكلة أو العائق لكي نغضب. المقصد اذاً انقلاب الأدوار: من "أنا غاضب لأني على حق في هذا الشأن أو ذاك"، إلى "أنا على حق لأني غاضب، وأنت على باطل لأنك راضٍ". الغضب الأول انفعال محدد، والثاني شعور مرسل وتكوين مستقر. وهكذا يتحول الغضب إلى ثقافة وسياسة وأخلاق وتكوينٍ نفسي. هذا هو نظام الغضب.
ولعلّ أصل الانقلاب المذكور ونظام الغضب المتولد منه، هو العجز المتكرر عن إنتاج الحق وتحويله إلى تقليد أو علاقة اجتماعية. إن النفس المتوترة، المشدودة بين حق تحس به ومستنقع الوضاعة يجذبها نحو الأسفل، والعاجزة عن الخروج من هذا الشرط قدر عجزها عن تغييره، هي نفس لا تتماسك إلا عبر حماية غضبها والحرص عليه. والحق الذي لا يتحول إلى واقع يتفجر في غيظ مستمر لا تمتصه وتسيطر عليه إلا العقائد المثالية. وإحباط فاعلية الناس الإيجابية في تحويل شروط حياتهم واكتساب التوازن من هذا التحويل، أي إحباط الفاعلية المنتجة للحق، سيؤدي إلى أن المصدر الوحيد الباقي للتوازن هو الولاء لمثل أعلى، وحماية هذا المثل بسورٍ من الغضب والهياج. وبالعكس، تنقلب وظيفة المثل الأعلى من توضيح الأهداف والغايات العامة إلى حصن لتثبيت هذا المزاج، بما يكفل تحويل الإخفاق الواقعي إلى شعور بالنصر الأخلاقي.
أما المآل النهائي والمفارقة القصوى أيضا لتحوّل الغضب من انفعال سوي إلى نظام وبنية، فهو العجز عن الغضب بالذات. فإذا كان كل شيء يثير الغضب، حسب ما يقتضيه نظام الغضب، فلن يبقى شيء يثير الغضب فعلاً. أو بالأحرى إذا كنا نغضب حيال كل شيء، فلن نستطيع أن نغضب حيال الشيء المختلف عن الكل. لذلك فالقواعد الآمنة التي نسكن إليها بعد غضبات تزداد ندرة هي "التحرر من الأوهام"، فاللامبالاة والاستسلام، فالاستهتار والكلبية، وهي أطوار متقدمة متدرجة من دورة حياة نظام الغضب. أطوار تلف الأعصاب أو حتى انقطاعها بعد طول توتر. ليس من المفاجىء اذاً أن يكون الواقعيون الأشد تطرفا اليوم ثوريين سابقين متشددين، فقد أتلف هؤلاء الغاضبون المحترفون والمتعصبون أعصابهم في انتظار معركة "سحق الشائن" (فولتير) الفاصلة التي لن تأتي أبداً (فهي تمر كل يوم مرتدية أقنعة تنكرية). وهكذا فإن استواء الغضب نظاماً (أو مأسسة الغضب) هو أيضاً نهاية الغضب، كما أن تحوّل الهوان إلى عادة ونظام يجعل الهوان سهلاً حسب المتنبي، وكما أن تعوّد اليأس يحرر الذات من التقلب على سرير الآمال الشائك. لعل في ذلك بعض أسباب الشلل أو الغيبوبة العربية. فلن نستعيد قدرتنا على الغضب والشعور بالكرامة من دون التحرر من نظام الغضب، أي من تحالف تسافل الواقع مع تعالي المثل العليا، وإنتاجهما معاً للشلل الروحي والعقلي والعملي.
حلّلنا وجهاً من إيديولوجياتنا ومثلنا العليا لنشير إلى دورها في خلق نظام الغضب. فإزاء الفجوة بين الواقع السيىء والمثل العليا تركن الإيديولوجيات التي انسحب الواقع من تحت أيديها إلى الانسحاب من الواقع والاستسلام للتنويه الذاتي بقيمها ومُثلها وأهدافها. في عبارة أخرى، تعوّض تلك الإيديولوجيات من تعطيل فاعليتها في الواقع بتعطيل فاعلية الواقع عليها، وبانقطاع تأثيرها على الحياة بالارتفاع عن هذه الحياة وإدانتها. ترتفع دعوتها إلى المطلق بقدر ما ينحط الواقع إلى/ وينحل في نسبية مطلقة لا قوام لها. لكن رهان الوعي على المطلق يقترن دائماً باستسلام الإرادة للواقع، بل إن إطلاقية الوعي وسيلة للارتضاء السلبي بالواقع كما هو، وفي الوقت نفسه تقنيع لهذا الارتضاء السلبي.
ليس المطلوب التخلي عن المثل العليا، فما من ثقافة أو مجتمع يمكن أن يرتقيا من دون رصيد من القيم والمثل، لكن المطلوب عدم التغطية بالولاء لمثل عليا على الحاجة إلى معرفة الواقع وإلى خطط للعمل والتغيير. صحيح أنه لا خطط عمل من دون مثل عليا، لكن الأصح أن المثل العليا ليست في ذاتها خططا وبرامج عمل. وصحيح أن لا سياسة بلا أخلاق، لكن الصحيح أيضاً أن الأخلاق ليست في ذاتها سياسة.
إن نجاح الإيديولوجيات في التعويض من إقصائها، أي إقصاء المعتصمين بها، بإدانة الواقع وتغذية مشاعر الغضب، هو نفسه الذي يسدّ عليها آفاق الانفتاح على التجديد الفكري والفاعلية العملية، أي هو منبع إخفاقها من وجهة نظر الخلق والتأثير. قد نرصد هنا حلقة معيبة: فالإقصاء يثير الغضب الذي يبرر نفسه بالحق والتعالي عن الواقع الباطل، الذي يقود بدوره إلى زيادة حدة الشعور بالإقصاء. وهكذا يستمر تخارج الواقعي والمثالي، لكن يضاف إليه تخارج جديد بين الحق والحقيقة. فما يمنحه الغضب من شعور بالحق يضعف الحاجة إلى البحث عن الحقيقة، أي أن الحق يلعب دور "عقبة معرفية" (باشلار) في وجه اكتشاف الحقيقة.
والخلاصة أن نظام الغضب إنشاء إيديولوجي وإحباط واقعي في آن واحد. وتالياً فإن التحرر من الغضب يقتضي تفكيك نظامه، أي نقداً مزدوجاً لتعالي المثال ولانحطاط الواقع. فستبقى الذات العربية ساكنة إلى غضبها وفيه ما دامت لا تعثر على توازن بين المثالي والواقعي. وللتخلص من هذا التجاذب المرهق ستقع دائما تحت إغراء التطرف، التطرف في الواقعية والتطرف في المثالية. أما "المثل الأعلى" الذي نصبو إليه فهو سداد الوعي والعمل: تحويل المثل إلى قيمة موجهة بدلاً من حصنٍ للنفس اللوامة، وتحويل الواقع إلى موضوع للفكر والعمل بدلاً من مناسبة للندب والسخط. إن النفس المطمئنة، الراضية المرْضِيّة، هي النفس التي عثرت على ذاتها في فاعليتها الخلاقة.
====================
ياسين الحاج صالح
كاتب سوري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.