في (ما بعد الياء .. أعمال شعرية وشقائق نثرية) يقدم لنا الشاعر العراقي المقيم في باريس عبد القادر الجنابي شعرا يتسم إجمالا بالكثير من الصور الموحية لكن بسمة ربما أرهقت القارىء. فالشاعر يستغرق في «الألعاب العقلية» بما ينقلنا إلى بعض الذين أغرقوا قراءهم في الماضي في عالم البديع بجمالياته وبما يؤذي الجماليات أحيانا. قصائد الجنابي تحتشد بالرمزي والمجازي وصولا إلى السريالي أحيانا. وليس في وجود كل ذلك ما يسيء إلى النص الشعري لولا الإكثار فيه. هذا الإكثار الذي يعطي للعمل ما يوحي باصطناع وافتعال فيتحول ما كان منتجا للجمال إلى منتج للضيق والشعور بالإرهاق. ويصح في بعض نصوص الجنابي ما قيل في فن البديع وما أعطاه من طباق وجناس ومحسنات معنوية ولفظية أخرى مما بلغ ذروته وبجمالية عند الشاعر أبي تمام قبل أن يتحول إلى افتعال وأحيانا إلى نوع من لزوم ما لا يلزم. وقضى هذا الإغراق على الجمالية التي أعطاها هذا الفن للشعر العربي. ويومها قيل في البديع ما يمكن أن يقال في بعض نتاج عصرنا إذ قيل إن المحسنات البديعية المعنوية واللفظية هي أشبه بالملح في الطعام.. قليله يجعله طيبا مستساغا وكثيره يفسده. جاءت مجموعة عبد القادر الجنابي الشعرية في 397 صفحة متوسطة القطع بلوحة غلاف للفنان الهولندي جيروم بوش وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان. في ختام الكتاب قال الشاعر عن نتاجه المتنوع الممتد عبر زمن طويل «يضم هذا الكتاب الجزء الأكبر مما نشر لي من قصائد وشقائق خلال أربعين عاما من التحليق الشعري» في مجلات وصحف عربية عديدة. أما ما اسماه شقائق فهو كناية عن كتابات نثرية فنية تطول إلى حد نصف صفحة أو تقصر إلى حد السطر أو السطرين. وقد شملت هذه المجموعة القسم الأكبر مما نشره من نتاجه من سنة 1973 إلى سنة 2014. وعبد القادر ناجي علوان الجنابي شاعر عراقي ولد في بغداد سنة 1944 وقصد لندن سنة 1970 ومكث فيها أكثر من سنتين ثم قصد باريس حيث يقيم. حملت الدفة الأخيرة للكتاب كلاما كتبه الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج في الجنابي. قال «كلما قرأت له ألقى أحجارا في بركة وعيك ... تظل كتابته تثيرك لأنها تقفز أبعد من الكتابة ولأنه مهما أمعن في تقصي الألفاظ واللعب بكيميائها يظل خارج الجثمان الأدبي وفي مهب ذاته الملتهبة بألف حريق: من نار الغربة الأهلية والوجودية إلى جحيم الحياة والموت.» تبدأ المجموعة -وهي تضم نتاجا من نوع قصيدة النثر- بقصيدة عنوانها (هكذا) تتميز بمجازية ومجردات وبتصوير رمزي وأجواء أقرب إلى السريالية. يقول «تشرب الساعة الأولى / من جرن النهار / دون أن تحدث أي ضجيج / قد يوقظ ليلة بكاملها / تنهض وتسير هكذا / دون أن يكون لها ظل / طيف شعاع / تنداح فوق أديم كل هذه اللحظات / الآتية من فجاج اللاشيء / لحظات يضطلعها الوقت / هكذا دون أن يؤجل منها ليل فجر / أو طير يزدوج / تحت شبكة من الضوء.» ترد بعد ذلك قصيدة (حفيف) وفيها يقول «إجلس معي / يا روحي التائه ويا أخاها / إجلس معي / فكل ما يحدث في السماء / رافد في / لا يزال ثم ماء / في البئر / إجلس معي يا أخا اللوح والحكمة / فكل ما يتدفق إلينا / ساعة عقرب ساعة / يا أخ الأفق / سيعلمك أنك الخالق والمخلوق / تحت ضربات هذا السوط / بين النوم واليقظة / الابتداء والعافية / اليسار والينبوع. وبالمجردات والمجازات والصور العائدة لها في قصيدة (بقايا رماد) يقول «قولوا لي / من ذا يبالي أن يمسح / زند الليل بكم النهار / أو بقلم أظافر الانقباض العاصف / ها هي الشبيبة المتوهجة /تترجل عن التاريخ / والمتماثلون من الفرح / يقطنون الذاكرة / ظهورهم إلى حائط المنسي / حيث الظل واقف / آه كم شاخت الطفولة /مورقة وسط انهياراتي.» وفي (ما الشعر إلا هفوات) يقول «إنه رماد القهقهة / ونقض لفاعلية الأرتال / إشعاع يكشف عن إغراء ينتهج الاستثناءات / ضرورة تبرهن معصومية تدرج الإيقاعات / وبالتالي يشكل حدا للصوت / النبؤة عنقاء أتلقفها من بطن الإبرة / عارية تنفجر بين الفواصل والإشارات /والمعاني ما زالت طريحة الأوراق.» في قصيدة (تأهب) يقول «خذ أضواء الصباح / ضعها على المنضدة /ظلالها الحمراء / نصف النائمة / في الساعات الداكنة / تحركها الريح / نهاية اليوم / على الحافة / الدمعة في العشب / مقطع بين الأسنان / إبك على الظلمة المتراكمة / في فضاء السكون.» وفي قصيدة فكرية تحفل بالمجردات اسمها (الصباح نبات بارد) يقول «المادة كلمة / الكلمة حركة / الحركة ضرورة / والضرورة سكون يمتزج بالهواء /الحركة كلمة / الكلمة مادة / المادة عدم / والعدم وطن للكل / بين المياه والوحل /الصمت الناتج / لفظة مرئية /لنفس الصرخة البطيء / لغة تتململ / في الداخل / تنزف الخارج / تلهج موتها البعيد.»