تواجه المحكمة الجنائية الدولية تصعيدا سياسيا غير مسبوق من جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي طالبت بشكل صريح ودون مواربة، خلال اجتماع رفيع المستوى في مقر الأممالمتحدة في نيويورك، بأن تتخلى المحكمة عن مذكرات التوقيف الصادرة بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت. وقد صدرت هذه المذكرات على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، بما في ذلك الهجمات العشوائية على المدنيين، وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية، وفرض حصار خانق يرقى إلى مستوى العقاب الجماعي. خلال اجتماع عقد في مقر الأممالمتحدةبنيويورك من 7 إلى 9 يوليوز 2025، وحضره ممثلو 125 دولة عضوا في المحكمة الجنائية الدولية، ألقى المستشار القانوني في وزارة الخارجية الأميركية، ريد روبنشتاين، خطابا شديد اللهجة، أكد فيه أن بلاده "تتوقع من المحكمة أن تتخلى عن جميع الإجراءات المرتبطة بإسرائيل والولاياتالمتحدة"، مشددا على أن "كل الخيارات مطروحة على الطاولة" في حال تجاهل المحكمة لهذا المطلب. وبحسب صحيفة "لوموند"، فقد وجهت هذه التصريحات إلى المجتمع الدولي بصورة مباشرة، في مسعى من واشنطن إلى التأثير على مسار العدالة الدولية.
لم تكتف الإدارة الأميركية بالتهديدات اللفظية، بحسب وكالة الأنباء "رويترز"، فإن واشنطن قامت بفرض عقوبات على خمسة من القضاة والمدعين في المحكمة الجنائية الدولية، في سابقة أثارت صدمة في الأوساط الحقوقية والدبلوماسية. وتوسعت هذه الإجراءات لتشمل كذلك المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيزي، التي كانت قد نشرت تقارير تنتقد بشدة السياسات الإسرائيلية في قطاع غزة وتعتبر أن ما يجري هناك يرقى إلى "نمط من الاستعمار العنيف والمعاقبة الجماعية للشعب الفلسطيني". وقد اعتبرت ألبانيزي في تصريحات نقلتها "رويترز" أن العقوبات المفروضة عليها تشكل "أسلوب ترهيب سياسي لا يليق بدولة تدعي احترامها للمؤسسات الدولية"، مضيفة: "إذا تم استهدافي لأنني وثقت واقع الاحتلال والانتهاكات، فذلك دليل إضافي على أن ما نقوم به ضروري وحيوي، وأن الحقيقة تخيفهم". وشددت على أنها ستواصل أداء واجبها رغم الضغوط، مؤكدة أن "الوقائع على الأرض لا يمكن إنكارها". أما مذكرات التوقيف نفسها، فقد صدرت في 21 نونبر 2024، بعد أشهر من التحقيقات التي أجراها مكتب الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم المزعومة خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة. وتشير وثائق المحكمة، بحسب ما نقلته "لوموند"، إلى أن هناك أدلة قوية على أن القادة الإسرائيليين أداروا عمليات عسكرية ممنهجة تسببت في مقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين، وتدمير البنية التحتية، وحرمان السكان من الخدمات الأساسية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني. وقد وجهت إلى نتنياهو وغالانت تهم رسمية تتعلق بالمسؤولية القيادية المباشرة عن هذه الأفعال. تأتي هذه المواجهة في وقت تزداد فيه الانتقادات الدولية للسياسات الإسرائيلية في غزة، حيث قتل آلاف المدنيين، وازدادت المعاناة الإنسانية نتيجة الحصار المشدد. وقد طالبت منظمات دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" ومنظمة العفو الدولية بتحقيق مستقل، وعبرتا عن دعمهما الكامل لخطوة المحكمة الجنائية الدولية. كما حذرت المنظمتان من أن الضغوط الأميركية تهدد بتقويض منظومة العدالة الدولية برمتها، وتقوي ثقافة الإفلات من العقاب. من جهة أخرى، فإن إسرائيل، التي ليست طرفا في المحكمة الجنائية الدولية، رفضت كليا مذكرات التوقيف، واعتبرت أن المحكمة "منحازة ومعادية للديمقراطية الإسرائيلية"، بحسب تصريحات رسمية لمسؤولين في تل أبيب. وبدعم قوي من الولاياتالمتحدة، تصر إسرائيل على أن المحكمة لا تملك صلاحية قانونية للنظر في ما يجري في الأراضي الفلسطينية، بحجة أن فلسطين ليست دولة ذات سيادة معترف بها دوليا بشكل كامل. غير أن المحكمة الجنائية الدولية أكدت في قراراتها السابقة أن لها الولاية القضائية على الأراضي الفلسطينية منذ أن انضمت دولة فلسطين رسميا إلى نظام روما الأساسي في 2015. ويعد هذا التفسير القانوني محوريا في مداولات المحكمة، وقد دعمته غالبية من الدول الأعضاء. وبحسب "لوموند"، فقد حاولت بعض الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا وبلجيكا وهولندا، التوسط في هذا النزاع عبر التأكيد على ضرورة احترام استقلال المحكمة وعدم التدخل السياسي في عملها، بينما عبرت دول أخرى عن خشيتها من أن تتسبب هذه الأزمة في شلل جزئي للمحكمة وتراجع ثقة الدول في فعاليتها. من الجدير بالذكر أن المحكمة الجنائية الدولية أنشئت عام 2002 بهدف ملاحقة الأفراد المتهمين بارتكاب الجرائم الأخطر على الصعيد الدولي، بما في ذلك الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم العدوان. إلا أن علاقتها مع القوى العظمى، خصوصا الولاياتالمتحدة، لطالما كانت متوترة. فقد سبق أن فرضت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عقوبات على المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا، عندما فتحت المحكمة تحقيقات مشابهة تتعلق بأفغانستان.