في كلمة حول جبر الأضرار الناجمة عن مآسي العبودية والاتجار في البشر والاستعمار والاستغلال بإفريقيا: آمنة بوعياش تترافع حول «عدالة تعويضية» شاملة ومستدامة    إدريس لشكر : الديمقراطية في خطر وسط تزايد الاستبداد والمخاطر العالمية    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تحتفي بالمنتخب الوطني النسوي المتوج بكأس إفريقيا داخل القاعة    «غزة على الصليب: أخطر حروب الصراع في فلسطين وعليها»    "اليونيسف": أطفال غزة يواجهون خطرا متزايدا من الجوع والمرض والموت    سفينة مساعدات لغزة تتعرض لهجوم بمسيرة في المياه الدولية قرب مالطا    تقرير: أخنوش يستخدم أمواله للسيطرة على الإعلام والصحافيون المستقلون يتعرضون لضغوط مستمرة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    إجهاض محاولة لتهريب أزيد من 51 ألف قرص مخدر بميناء طنجة المتوسط    العرائش تسجل أعلى نسبة تملك.. وطنجة تتصدر الكراء بجهة الشمال    مقاطعة مديري مؤسسات الريادة للعمليات المصيرية يربك مشروع الوزارة في الإصلاح التربوي    سوريا: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي "تصعيد خطير"    المغرب يودّع أحد رموزه الفنية.. محمد الشوبي يترجل بعد مسار طويل من الإبداع    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    كلية الآداب بالجديدة وطلبتها يكرمون الدكتورة لطيفة الأزرق    عبد الله زريقة.. علامة مضيئة في الشعر المغربي تحتفي به "أنفاس" و"بيت الشعر"    بعد صراع مع المرض... وفاة الفنان محمد الشوبي عن عمر 62 عاما    نجاح "خامس مهمة نسائية" خارج المحطة الفضائية الدولية    هل ينجو قمح المغرب من الجفاف ؟ توقعات جديدة تعيد الأمل للفلاحين    مجلس الدفاع في لبنان يحذر "حماس"    في ساحة مسجد بدر بطراسة… رجل يقبّل طفلًا والأب يتصل بالشرطة    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    رسالة مفتوحة إلى السيد محمد ربيع الخليع رئيس المكتب الوطني للسكك الحديدية    البكوري يقيم مأدبة غذاء على شرف جنود خفاء جماعة تطوان قبيل انطلاق الموسم الصيفي    العلاقات التجارية بين المغرب ومصر.. وفد اقتصادي مغربي يزور القاهرة    كوريا: الرئيس المؤقت يقدم استقالته لدخول سباق الانتخابات الرئاسية    تفاؤل تجاري ينعش أسعار النفط في الأسواق العالمية    "الكورفاتشي" تستعد للتنقل إلى مدينة الدار البيضاء لحضور "الكلاسيكو" أمام الوداد    إيقاف سيموني إنزاغي و هاكان بسبب علاقتهما بمشجعين مرتبطين ب"المافيا"    لماذا لا تحتفل هولندا بعيد العمال (فاتح ماي) رغم عالميته؟    الأمن يوقف مروجي كوكايين وكحول    العثور على جثة شخص داخل منزل بشارع الزرقطوني بعد اختفائه لثلاثة أيام .    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة: المغرب يستهل مشواره بفوز مثير على كينيا    الحوار الاجتماعي بالمغرب بين الشكلية والفعالية    الذهب يتعافى بعد بلوغ أدنى مستوى في أسبوعين    تفاصيل إحداث قطب تكنولوجي جديد بالدار البيضاء يوفر أزيد من 20 ألف منصب شغل    عيد العمال.. الكونفدرالية ببني ملال "تحتج" في مسيرة حاشدة    لجنة الأخلاقيات توقف العديد من المسؤولين عن كرة القدم بين سنة وثلاث سنوات بسبب اختلالات في التسيير    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    خُوسّيه سَارَامَاغُو.. من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل    اللاعب المغربي الذي أبهر العالم بأدائه المجنون … !    الصين تدرس دعوات أمريكية لاستئناف الحوار بشأن الرسوم الجمركية    حين يتحول الانفعال إلى مشروع سياسي: في تفكيك خطاب بنكيران حول "القضية" و"الحمار"    كرة القدم.. توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    احتراق شاحنة على الطريق السيار طنجة المتوسط    منتجو الفواكه الحمراء يخلقون أزمة في اليد العاملة لفلاحي إقليم العرائش    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    هل بدأت أمريكا تحفر "قبرها العلمي"؟.. مختبرات مغلقة وأبحاث مجمدة    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    فوائد القهوة لكبار السن.. دراسة تكشف علاقتها بصحة العضلات والوقاية من السقوط    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدارات النظرة والصخب البصري
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 15 - 01 - 2016

إن النظرة على خلاف البصر، حرة، فهي تنتقي موضوعها وفق زوايا دائمة التحول. فنحن نُبصر في الطبيعة الغفل، ولكننا ننظر في الذاكرة الثقافية، أي ضمن خزان التيمات التي احتفظت بها عين تنظر وتُسرب المتاح الإنساني إلى موضوع نظرتها. وتلك صيغة أخرى للقول، إن النظرة لا يمكن أن تكون مجرد حامل لفعل بصري مباشر، إنها تقوم، بالإضافة إلى ذلك، بترتيب ما يأتيها من خارجها، أو هي طريقة بصرية في تنظيم التجربة الإنسانية والاحتفاء بالبعد الإيحائي فيها.
النظرة في العين لاحقة على الإبصار فيها، فهي ليست من الرؤية وليست تلك وظيفتها الأولى، إنها جزء من «الحجم الإنساني»، كما تبلور ضمن سيرورات الترميز المتتالي في الذاكرة الإنسانية. لذلك لا نلتفت عادة إلى الكائنات والأشياء الموضوعة للرؤية، بل نحتفي «بتجربة النظرة» داخلها. وذاك هو الأصل في تداول العالم من خلال أفعال بصرية تُصنِّف الموضوعات المدرَكة ضمن اللَّمْح والحدْج والتحديق والرُّنُوِّ والترميق، وهي جميعها تنويعات على أصل ثابت هو الإبصار قبل أن يتحول إلى «نظرة» لا تَرى، وإنما تُدرِك الكونَ استنادا إلى المضاف الثقافي الطارئ.
إن النظرة على خلاف البصر، حرة، فهي تنتقي موضوعها وفق زوايا دائمة التحول. فنحن نُبصر في الطبيعة الغفل، ولكننا ننظر في الذاكرة الثقافية، أي ضمن خزان التيمات التي احتفظت بها عين تنظر وتُسرب المتاح الإنساني إلى موضوع نظرتها. وتلك صيغة أخرى للقول، إن النظرة لا يمكن أن تكون مجرد حامل لفعل بصري مباشر، إنها تقوم، بالإضافة إلى ذلك، بترتيب ما يأتيها من خارجها، أو هي طريقة بصرية في تنظيم التجربة الإنسانية والاحتفاء بالبعد الإيحائي فيها. فخلف المُمَثل في الصورة تختبئ سلسلة من الدلالات التي استلَّتها العين من ظاهر الأشياء وأودعتها في وضعيات لا تثير شُبهة الرائي، أي أضافتها إلى ما استُنبِت في الذاكرة خارج دائرة النفعي فيها.
يتعلق الأمر بما يمكن أن يتسلل إلى العين وتُدركَه باعتباره صياغة بصرية تتضمن قصدا إنسانيا يجب الكشف عن مضامينه. أو هي طريقة خاصة في تدبير «الانفعال»، والتصرف في الظلال الدلالية التي تنتشر في كامل الفضاء البصري الموضوع للتمثيل. إن هذه المعرفة وحدها قد تساعدنا على فهم أفضل لميراث إنساني سابق، والكشفِ عن الغايات التي تختفي فيها الإرسالياتُ البصرية المعاصرة. فقد لا تكون العين قد فقدت «سحرها» بعدُ، لكنها تميل اليوم إلى تضمين موضوعها بعدا «اقتصاديا» يغطي على الجمالي فيها. فنحن شهداء، في ذروة البصري، على عودة مأساوية إلى الحسي، لا من خلال شحنة الرمزي فيه، كما يقتضي ذلك كل تمثيل يتم عبر المنافذ الحسية، بل من خلال الانغماس أو الانصهار في «حسية» يستوعبها المباشر في الزمن ونفعية الاستهلاك.
إننا نعيش في الراهن تجربة بصرية جديدة تبدو، في الظاهر على الأقل، وكأنها تُشكل قطيعة كلية مع «عصور النظرة» التي تحدث عنها ريجيس دوبري(1). لقد تخلصت العين من ملكوت الله (الوثن المعبود) وتخلصت من الذاتية ومن عبقرية الفرد المبدع (الفن)، لكي تصنع موضوعها من «الفرجة» العرَضية التي لا تُراكم «نظرات»، بل تلهث وراء تمثيل مباشر «لانفعالات» بصرية هي التعبير الأسمى عن رغبات لا تُشبَع، بل يُعوِّض بعضُها بعضا.
ستظهر للوجود، على غرار الأزمنة القديمة، كائنات جديدة في حاجة إلى العبادة، ولكن بصيغة الانغماس في الحاضر المباشر. ففي مقابل المعبودات القديمة، الأصنام والتماثيل واللقى المتنوعة، ستظهر أصنام جديدة، ميسي ورونالدو وشاكيرا ونانسي وغيرهم من نجوم الفرجة والاستعراض والكرة، أو نجوم الماركات سمارتفون وأيفون ونوكيا وسامسونغ، وكل ما يُصنف ضمن ما يطلق عليه: النجم/ النسق. إن المظهر الخارجي وحده في هذه الكائنات يمكن أن يكون موضوعا للتسويق: التعليب واللون والشكل في الآلة، والجسد في عالم النجوم /الأبطال( تشتعل شبكات التواصل برؤية صدر كاردشيان العاري).
تحيلنا الصورة، في جميع هذه الحالات، على عالم «الافتراض» وحده، أما الواقع فهو من ابتداع التقنيات، ذلك أن المعنى لا يودع في الممثَّل، بل يأتي من العين التقنية ومعجزات فوتوشوب. ذلك أن العين لا تبحث عن صورة، بل تسعى جاهدة إلى التخلص من الفائض فيها، فنحن لا ننظر، فالأشياء هي التي تأتي إلينا.
بعبارة أخرى، إن العين تستهلك في البصري موضوعها دون غاية سوى الاستهلاك ذاته، أما في الفن فإنها تحترق داخله. كل شيء في «البصري» يبدأ في الفعل المباشر والحسي وينتهي عنده. وهو ما يوحي أن «علاقة الصورة الحالية بالمعبودات القديمة أقوى بكثير من علاقتها بالصورة الفنية، ... إنها تستثير الحضور التلقائي للمعبودات القديمة»(2). وتلك إحالة، في حاضرنا المباشر، على ما يمكن أن يُصنف ضمن استهلاك يتخذ شكل حِس مُعَمَم يسكن العين، في ما يشبه ردود أفعال مبرمجة في الرؤية التي تلتقط الصور، فهي البديل البصري عن الأشياء، فحيثما وليت عينيك هناك صورة، شاشة اصطناعية تغطي على الوجود الطبيعي، فنحن لا نرى الواقع، بل نرى صورا عنه.
وهذا ما يتجلى في نمط بناء الصورة الإشهارية مثلا، فهي لا تبيع فقط، إنها تقوم، من خلال وظيفتها تلك، بإيداع الوهم والتضليل والحلم المزيف في الأشياء والكائنات التي تقوم بتصويرها. ولا يمكن لكل حالات الاستيهام هاته أن تتحقق إلا في صورة جديدة تنكفئ على نفسها من خلال تمثيل «الحسي» منعزلا ومفصولا، وموجودا خارج إمكانية الانفتاح على العوالم الرمزية التي يمكن أن يستثيرها. يتجسد النجم داخل الفرجة «هنا» و»الآن» في «صورة» ستختفي باختفاء فضائل الممَثل أو تراجعها. تماما كما تختفي الماركات أو تنوع من أشكالها، وكما تموت الآلة بفساد أجزائها( (3).
ومع ذلك، لا تُقدم هذه الصورة موضوعا ماديا، إنها تُلغي الواقع لتحل محله، أو تجعل الآلة بديلا عن العين التي لا تلتقط ما تراه، بل تحتفظ بما تبيحه الآلة أو تجيزه. فكل شيء «جاهز» في العين الاصطناعية، إن المعنى يُصاغ داخلها، وداخلها أيضا تتم برمجة أشكال تلقيه (تقنيات الصورة الحديثة). نحن في واقع الأمر أمام نظرة اقتصادية تعتمد الرؤية في صياغة الحاجات وبدائلها في الوقت ذاته. فكل ما يوضع «ملموسا» في الصورة لن يكون سوى ممر ضروري نحو رغبة مودعة في عوالم المنتج. إنها مفارقة عجيبة: « فما يساعدنا على الذهاب إلى العالم هو ذاته ما يحرمنا من رؤيته» (4). إن تعميم الصورة ليس دلالة على حرية العين في اختيار ما يمكن أن تراه، وإنما هو تضليل لها.
إننا محاصرون بتمثيلات بلا مؤلف ولا مرجعية سوى مردوديتها في السوق. ذلك أن الشكل البصري الجديد ليس شيئا موضوعا للتأمل، بل حالة من حالات التشويش على «التواصل الإنساني» في الممارسة النفعية واستيهامات المتعة. إنه تعميم للضوضاء والضجيج اللذين يتسربان إلى العين ويمنعانها من النظرة، وهو ما يوجه رؤيتها في الوقت ذاته. وكل ما في المحيط المباشر، أي كل ما جاء به الإبدال البصري الجديد يدعو إلى ذلك. فمن ميزات «العصر البصري» الذي يتحكم في نظرتنا، «هيمنة الصخب الصوتي على عوالم الرؤية والنظرة. هناك انغماس مطلق في الصورة، كما لو أننا ونحن ننظر لا نقوم سوى بالإنصات لأنغام موسيقى مسترسلة، أو الخضوع لضجيج بلا نهاية، لقد استطاع الصوت، وهو الذي كان سائدا في الفضاء العمومي، استيعاب كل ممكنات البصري وضمه إلى إحساس خالص بالوجود، هو الدليل على أننا موجودون في العالم «(5)، ( يكفي في هذا السياق استحضار الوصلات التي تقدمها دنيا بوتازوت ومرافقها في «البصمة» و»تيد» و»أومو» و»اتصالات المغرب» لكي ندرك ذلك: نحن أمام هرْج ومرْج، كلام لا يتوقف، فالإقناع لا يتم من خلال الصورة بل من خلال استحضار سلسلة من الوضعيات التي ألفتها العين: «الغميق» و»النكير» و»التهريج» واستعادة أفعال يومية بلا معنى ولا عمق، والإحالة على مؤسسات لا وجود لها من قبيل» مجموعة الراحة والنوم»).
إن لعالم الوفرة إكراهات هي جزء من حالات الاستعراض الذي يقوم عليها. ف»الفرجة» هي ما يميز الحياة المعاصرة، وهو ما يحدد طبيعة الفضاء العمومي الذي يتحرك داخله الإنسان. فمنتجات الحياة كلها تُقاس بموقعها داخل هذه الفرجة، فلا مردودية لها سوى هذه الفرجة بالذات. لذلك أصبحت الصورة هي اليافطة التي من خلالها يتم عرض الذات واستيعابها ضمن دورة استبصارية لا تتوقف، ربما يلعب فيها الإحساس بالزمن الدور الرئيس: لقد أصبح الناس يعشقون صورهم أكثر مما يلتفتون لحقيقتهم، فاللحظة لكي تكون لا يجب أن «تُعاش»، بل يجب أن تُمثل بصريا، ذلك أن الحاضر أمام العين وحده قابل للتداول، أما تمثلاتنا عنه في الذاكرة البعيدة والقريبة فلا قيمة له ( النزعة الاستعراضية الجديدة التي تدفع الكثير من سكان الفيسبوك إلى نشر أوضاعهم، كلِّ أوضاعهم، أمام كلِّ الأعين، بما فيها أحيانا الحالات الأكثر حميمية في حياتهم: ماذا يعني السيلفي الجديد، هل هو نرجسية مريضة، أم «قلق رهيب» كذاك الذي تحدث عنه هايدغر وهو يشير إلى «الكائن من أجل الموت» (l'être pour la mort).
يتعلق الأمر في جميع هذه الحالات بإستراتيجية تواصلية تُقصي كل حالات «التمثلات الرمزية» و»الانفلات الإيحائي»، لتركز فقط على اختيار ما يجب أن يحضر في العين حافيا، أي ما يجب أن يُوَجَه إلى إشباع لحظي، كما تقتضي ذلك كلُّ حالات الاستهلاك المباشر. لم نعد نملك حق الرؤية، فالرؤية مودعة بشكل سابق في مجمل الشاشات التي تفصل بيننا وبين العالم، وتمنعنا من التعرف على الواقع.
إن الحقيقة ليست في ما أتداوله بشكل فعلي، بل في ما هو معروض في الصورة. إن الصورة كيان ثابت (الصورة لا تعرف النفي أبدا)، أما الشيء بين يدي فمُعرض للتآكل والاهتراء: سامسونغ أو سمارتفون الذي بين أيديكم ليس حقيقة، إنه وهم، نسخة مبتذلة موضوعة لتداول مدنس، أما الأصل فموطنه الصورة، فبمجرد ما تقدم الشركة شكلا جديدا، في الصورة، نُسارع إلى التخلص من النسخة التي نملك من أجل الحصول على نسخة جديدة هي أقرب إلى النموذج الأصل الذي تضعه الصورة للتداول. وهذا ما يفسر الخلط الذي تقوم به استراتيجيات العرض دائما بين وظيفة الشيء وبين صورة الماركة التي ينتمي إليها. إننا نشتري نوعا لا نسخة معزولة، ومن يذهب إلى السوق ليس فردا معزولا بل «نوعا ثقافيا». فلا ثقة في منتج بلا هوية. ولا خير في مسحوق لا يقوم سوى بالغسيل، ولا خير في عطر يطرد الروائح ولا يبشر بزوج أو عشيق.
بعبارة أخرى، إن الشاشات البديلة تمنعنا من الرؤية، لأنها توجهنا إلى ما يجب أن نراه وكيف نراه، وما يجب أن نرغب فيه ونشتهيه. لقد كانت العين حرة في التصرف في عوالمها يوم كانت تختار موضوع نظرتها، ولكنها الآن أسيرةُ ما يُعرض عليها في كل مكان، لأنها تكتفي بالرؤية. وتلك أيضا الحالة التي تُبنى داخلها الصورة الإشهارية، فنحن لا نُمسك فيها بموضوع حقيقي، بل بصورة عنه، تماما كما لا نمسك من اللحظة بسعادة فعلية، بل بما يوحي أو يوهم بعوالم السعادة ضمن قطبية تقابل بينما ترى العين وما يجب أن تتجنبه: نْقى من النْقاوة نْقاوة تيد، لا يمكن أن تعني سوى شيء واحد: لا نبيعك سيدتي منتجا، بل نبشرك بأصل الوجود فيه: لا نعطيك مسحوقا يمنحك بياضا في الأشياء، بل نمدك بخاصية البياض كما كانت قبل أن تكون هناك أشياء بيضاء. إن البياض كخاصية موجود في كل الأشياء، ولكنه يحيل، باعتباره أصلا، على البياض قبل وجود الأبيض: هو ذا المضمون الأنتروبولوجي للوصلة، وهو مضمون لا تراه العين ولكن ذاك ما يلتقطه اللاشعور ويحتفي به. إننا في كل حالات العرض هاته، حالة النجم/البطل وحالة الماركة وحالات المنتجات الاستهلاكية، أمام دعوة إلى حسية يلعب فيها المظهر الخارجي الدور الرئيس: إننا لا نحلم بشيء أكثر من حلمنا بجمال الممثلين والممثلات، ولا نحتفي بشيء أكثر من احتفائنا برشاقة الرياضي وقدرته على القفز أو التصويب أو المراوغة؛ كل شيء يتم في الجسد، منه يبدأ وإليه ينتهي. يتعلق الأمر بالتمثيل لعوالم حسية، منها تستمد البطولة مضمونها وفيها تتحقق ومن خلالها تختفي أيضا.
فعندما تنهار الأحلام الكبيرة، ينسحب الأبطال الحقيقيون أمام زحف «النجوم». تود المرأة أن تكون مثل الممثلات أو تتماهى في الممثل، ولكنها لا تستطيع ذلك، فتُصرِّف هذا الإحساس في المحيط المباشر: هي أحسن من جارتها في مسحوق الغسيل وخرق الأطفال و»كنور» و»البصمة» و»التركيبة الرباعية». فما لا يمكن تمثيله بصريا لا قيمة له.
فلا فرق إذن بين الوثن في الألفيات السابقة، وبين البطل الرياضي أو نجم الغناء والسينما في عصرنا الحاضر، عدا أن الأول كان يُقربنا إلى الله زلفى، أما الثاني فيشدنا إلى لحظة عابرة في زمنية تتميز باستهلاك مُعمم : ما يمكن أن يستوعب انفعال عابر سيختفي سريعا ليحل محله انفعال آخر، ضمن دورة زمنية لا تتوقف أبدا، فداخلها يُلغي الأبطال بعضهم بعضا: اختفى بيلي واختفى مارادونا بعده، كما اختفى قبلهما آخرون وجاء آخرون وها هي هيفاء تسير إلى الشيخوخة، ولم يعد أحد يذكر روبي المصرية ومنظر بريجيت باردو يثير الشفقة والتقزز. الفرجة وحدها ستظل البطل الحقيقي لأنها ليست موضوعة للعبادة بل موجهة نحو إنتاج معبودات.
إن تصوير العالم من خلال «استنساخ حرفي» هي طريقة مثلى للتمويه على الحقيقة فيه: كل شيء يوضع أمام العين في بداهته، ولكن التكاثر في الصور يُلهيها عن رؤية الأشياء في حقيقتها. لقد ظهرت طرق جديدة «للتصديق» على الواقع، فليست الحقيقة فيه هي ما يمده بعناصر وجوده، إن واقعيته قائمة على قدرته على استيعاب استيهامات العين. وهي صيغة أخرى للقول، إن الواقع لا يُخبر، أو ليس بؤرة لحالة تُطابق بين التسمية والشيء كما يقول المناطقة، إنه يمد الذات المبصرة بما يمكنها من الانزياح عنه. وهو ما عبر عنه دوبري بقوله، «لقد حل الفعل «رأى» محل الفعل « أفهم» (6).
إن الصورة في السجل البصري الراهن في أغلب حالاته موجهة إلى الترفيه ( أو التضليل )، إنها لا تراكم، بل يلغي بعضها بعضا ( لا وجود لنص بصري ثابت في الإشهار ). إنها لا تملك رهبة الوثن ولا جدية اللوحة كما يقول دوبري، إنها تبحث عن الأُلفة في العين، وبذلك تضع دائما قدرا من السخرية والعبث والعرضية في الأشياء التي تمثلها، إنها عابرة للوجدان، كما هي عابرة كل الانفعالات وحالات الاستهلاك اليومي.
------
1-انظر كتابه Régis Debray : Vie et mort de l'image, éd Gallimard, 1992 وخاصة الفصل الثامن les trois âges de l'image وترجمته إلى العربية: ريجيس دوبريه : حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي ، إفريقيا الشرق، 2007 .
2-نفسه ص411
3-ظر مقالنا « أبطال للقمامة» في وهج المعاني، سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2013 .
4- Régis Debray : Vie et mort de l'image,op cit , pp.492-493
5-نفسه ص 383
6- نفسه ص 492 Visualiser c'est expliquer, « je vois » a remplacé « je comprends »


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.