ليس جديدا ولا مفاجئا خروج «مشاريع» من إطار التنظير، الذي تجسده التصاميم المنجزة ورقيا أو «حاسوباتيا»، إلى حيز الواقع في شتى تجلياته وتمظهراته – الاجتماعية ، الاقتصادية، الثقافية، الرياضية، الخدماتية...، بفضل أموال الإحسان وتبرعات المحسنين، بالنظر لتجذر هذا المسلك النبيل والراقي في تربة قيم ديننا الحنيف، القائمة على خصال التآزر والتعاضد والتعاون... بين أبناء الجماعة الواحدة، مسلك يتغيا تدارك وتتميم نقائص مشروع أنجزته السلطات الحكومية – من وزارة معينة ومندوبياتها في باقي الأقاليم – حسب الاختصاصات الموكولة لهذا القطاع أو ذاك، في سياق المبادرة إلى فعل الخير الذي لا يستهدف من ورائه أصحابه «جزاء ولا شكورا»، لكن «الجديد» اليوم، والحامل في طياته ما يلفت انتباه المنشغل ب» أحوال» المجتمع بشكل عام ، هو تعدد أوجه تدخلات «العمل الإحساني» لدرجة يكاد يغيب معها الحضور الرسمي، أو يتراجع في سلم تراتبية المسؤولية الذي من المفروض أن يتبوأ صدارته . لنفسر الأمر أكثر. على هامش الاحتفال باليوم الوطني للمساجد - 13 يناير من كل سنة - أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عن حصيلتها برسم سنة 2015، والتي تضمنت معطيات رقمية مهمة من ضمنها «أن عدد المساجد المبنية بلغ 204 مساجد، شيد منها المحسنون 177 مسجدا مقابل 27 تكلفت ببنائها الوزارة». رقمان يتضح من خلالهما الحضور القوي للفعل الإحساني في بناء المساجد، إضافة إلى كل ما يخص إصلاحها ، «تفريشها « والسهر على نظافتها ، وهو وضع لا يشكل مدعاة للتوقف أو التحليل أكثر ، استحضارا لخصوصية «المجال الديني» المشجعة على القيام بأفعال الخير ، بقدرما تلفت وضعيات أخرى في مجالات ذات طابع اجتماعي حيوي لاتقبل بأن ترفع فيها السلطات الرسمية – الممثلة للحكومة المركزية - الراية البيضاء كعنوان للعجز و»قلة ذات اليد»! فهذه أقسام مستشقيات تجهز بأسرة و»بطانيات» يستعين بها المرضى على مواجهة انخفاض درجات الحرارة ، اعتمادا على ما يجود به «بيت مال» هذا المحسن أو ذاك، في هذه المدينة أو تلك ، آلاف العمليات الجراحية التي تقوم بها الأطقم الطبية عبر «خريطة المراكز الاستشفائية» بالبلاد لا يكتب لها الإجراء إلا بفضل تدخل «أيادي الإحسان»، بعد أن ينصح الطبيب المعالج، أو الممرض ، أسرة المريض «أو المريضة»، بطرق «قلوب» محبي فعل العمل الطيب، مادامت إمكانيات «مستشفى الدولة» لا تسعف في القيام بالتدخل الجراحي بشكل مستعجل، حيث أن هناك لائحة طويلة من المنتظرين، من أصحاب بطائق «الراميد» وغيرهم ، بعضهم يترقب الموعد منذ أزيد من ستة أشهر! حقيقة مؤلمة تؤشر عليها آلاف نداءات الاستغاثة المنشورة عبر الصفحات الاجتماعية للجرائد الورقية ، والمبثوثة بواسطة برامج إذاعية و تلفزية، أو من خلال «فيديوهات» قاسية تحبل بها المواقع الإلكترونية المحلية منها وغيرها . وهذه أقسام مدرسية ، في ضواحي المدن والبوادي، إتمام تجهيزها أو إصلاح وترميم المتداعي من بنيانها ، يتوقف على اتصال جمعية آباء وأمهات التلاميذ بأحد المحسنين لكي لا يبقى فلذات الأكباد، بمعية مدرسيهم، عرضة للتقلبات المناخية وما يرافقها من أخطار، دون إغفال الدور الحاسم للمبادرات الإحسانية في ما يخص استمرار مؤسسات دور الطالب والطالبة في استقبال أبناء الفئات الهشة في أكثر من منطقة، والحيلولة دون إغلاق أبوابها في وجوههم مع ما يعنيه ذلك من تداعيات وانعكاسات مدمرة على مستقبلهم. دور العجزة، ودور «الأيتام»، وغيرها من المؤسسات ذات الوظيفة الإجتماعية، والتي أضحت الحاجة إليها في تزايد، وبوتيرة مقلقة، جراء اتساع دائرة الفقر وشمولها لفئات اجتماعية جديدة، كانت إلى زمن قريب في منأى عن العسر والعوز، لا تستطيع أداء المهام المنوطة بها دون «تدخلات إحسانية» بهذا الشكل أو ذاك ، سواء كانت بصيغة عينية أو نقدية، لدرجة أن مستوى الخدمات المقدمة من قبل هذا النوع من المؤسسات، صار عنوانا لمستوى حضور «الفعل الإحساني» ، فإذا كان هذا الأخير ذا وزن ثقيل، كانت الرعاية «رفيعة «وتستجيب للحد الأدنى من الشروط المطلوبة، أما إذا كانت غير ذلك ، فإن النقائص تصير مكشوفة للعيان. نماذج كثيرة ومتعددة يمكن الاستشهاد بها في سياق تحول «مبادرات الإحسان» من طابع الاستثناء الذي يلجأ إليه ، من حين لآخر قصد سد نقص ما في هذا المشروع أو ذاك، إلى «قاعدة «تعمل من خلالها «السياسة الرسمية» في أكثر من جهة - على التخلي عن وظيفتها الأساسية، المتمثلة في العمل على تلبية ومواجهات حاجيات المجتمع المتزايدة مع كل فجر يوم جديد. بل الغريب في الأمر، أن بعض المنتخبين ، من رؤساء جماعات ومستشارين، لا يترددون في نسب «مشاريع الإحسان» إلى حصيلة تواجدهم داخل المجلس الجماعي، من خلال تضمينها في برامج أحزابهم التي يتم «التسويق» لها أثناء الحملات الإنتخابية ، دون اكتراث لما لسلوكهم «الانتهازي» هذا، من تشويش على القصد السامي و النبيل لكل عمل إحساني بريء من أية خلفية كيفما كانت طبيعتها.