مؤسسة طنجة الكبرى: معرض الطوابع البريدية يؤرخ لملحمة المسيرة الخضراء    هنا المغرب    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة إلى النهائي بعد تجاوز المنتخب السعودي في نصف النهاية    لقاء الجيش و"الماص" ينتهي بالبياض    تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    حماس تدعو الوسطاء لإيجاد حل لمقاتليها العالقين في رفح وتؤكد أنهم "لن يستسلموا لإسرائيل"    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أجل بيئة حاضنة للحداثة

تنظم "أكاديمية المملكة المغربية سلسلة محاضرات " حول موضوع: "من الحداثة إلى الحداثات"، وقد قرر مسؤولوها الانخراط في المناقشات العالمية حول مختلف الإشكاليات النظرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإبداعية للحداثة، وفي أفق تنظيم دورتها المقبلة في أواخر شهر يناير 2017، وهكذا دشنت الأكاديمية هذه الأنشطة بمحاضرة ألقاها الأستاذ محمد نورالدين أفاية تحت عنوان: "الاعتراف بالحداثة؟؟"
قد انطلق أفاية من التساؤل حول إمكانية مواجهة سؤال الحداثة، أو مواجهة تمظهراتها المختلفة بدون استحضار جملة تحولات تهمّ كيفيات التفكير في مهام الفكر ذاته، سواء تعلّق الأمر بالتفكير في المجتمع وفي تعقيدات الروابط الاجتماعية، وما تفترضه من أسئلة تهم القرابة، والحب، والحياة الحميمية، أو الاهتمام بالصحة، وما تتطلّبه من إعادة النظر في العلاقة بالجسد، والحياة، والهشاشة، بحيث إن الفرد الحالي أصبح يتقدّم من خلال وجهيين متعارضين: الفرد العقلاني، القوي، الكفؤ، وأحيانا السعيد، والوجه الضعيف، الهشّ، الضحية. وهو ما يقتضي التساؤل عن معنى النضج ومعنى الشباب، والاستقلال الذاتي، وأين يبدأ، وأين وكيف ينتهي؟ وإلى أي حدّ يمكن استدعاء الحداثة، اليوم، بدون النظر في الظاهرة الدينية، وفي عودتها المُدوية، وفي الكيفيات التي تطورت مختلف تعبيراتها في سياق العولمة، ولا سيما في مظاهرها المتشددة والقاتلة؟ وكيف نفهم الميولات المختلفة التي تتحرّك من أجل انتزاع الاعتراف بها، سواء تعلق الأمر بالنساء، أو العمال، أو الأقليات، وما يضمره كل ذلك من احتقان سيكولوجي في العلاقات الاجتماعية، كما هو الشأن بالنسبة لفئات تبدو في عرف المجتمع "غير نافعة" Inutiles مثل العاطلين، وسكان مدن الصفيح، والمرضى، والمهاجرين، أو المهجّرين، والفئات في وضعية إعاقة، وغيرها من الأوجه المأساوية التي يدرجها البعض ضمن الفئات غير النافعة. وهو ما يطرح على العقل الإنساني التفكير في حلول لمسألة الفوارق، وإلى ابتكار أنماط جديدة للعمل، بسبب الأزمات الاقتصادية.
من جهة أخرى، كيف يمكن أن نفكّر اليوم في العنف، وفي الأجيال الجديدة للحروب غير المتكافئة، حيث تتواجه فيها دول قوية مع دول ضعيفة، لكنها، بالرغم من ضعفها تمتلك سلاحا قويا يتمثل في «الحافز الإيديولوجي»؟فضلا عن قضايا أخرى لا مجال لاستبعادها ونحن مقبلون على الاقتراب من موضوع الحداثة، من قبيل الثورة الرقمية، والتحديات الإيكولوجيية، وما تضمره من شك في قدرة التقنيات على حلّ المشكلات، أو إعادة النظر في موقع الإنسان في المجتمع والطبيعة.
والظاهر، حسب المحاضر، أن مصطلح الحداثة، بسبب التضخّم الفكري والسياسي المقترن بها، أو الاحتقان الإيديولوجي، كما هو الحال في بلداننا، يتداخل فيها الأسطوري بالواقعي، سيما وأنها، كما يقول بودريار، «مفهوم ملتبس يحيل علىتطور تاريخي، وعلى تغيير في الذهنيات».فليس هناك معنى واحد ووحيد للحداثة، لسبب أساسي، كما يعتبر هنري ميشونيك، وهو أن الحداثة هي ذاتها بحث دائم عن المعنى.
واعتبر المحاضر أنالحداثة أنتجت زمنية جديدة، كثيفة بمقدار ما هي متسارعة، كما بلورت تصورًا جديدًا للذات وللإنسان باعتباره موجودًا عاقلا وعارفًا، وفاعلا؛ وعلى الرغم من كونأغلب الفلاسفة والمفكرين يرون أن العقل هو "الحجة النقدية" التي تؤسس تصورهم؛ إلا أن بعضهم نظر إلى الذات الإنسانية بوصفها ذاتا منقسمة ومشروخة، وخاضعة، بالرغم منها، لعوامل لا يستطيع العقل التحكم في تأثيرها، منها ما يعود إلى اللاوعي، والمتخيل، أو إلى لعبة اللغة والبنيات الرمزية المعقدة، كما هو حال من أسماهم بول ريكور ب «فلاسفة الشك والتوجّس».
غير أن الأنثروبولوجيا، والتحليل النفسي أبرزاأن الحداثة لا تتمثل، دائما، في كونها تغييرا جذريا، ولكنها تدخل، أحيانا، في مساومات ثقافية و سياسية مع البنيات التقليدية. فإرادة القطيعة التي تسعى الحداثة إلى إجراءها تتنازل، في الكثير من دول العالم، لنوع مما يسميّه «بودريار» ب «دينامية الخلط» بين ما هو تقليدي وما هو حديث، بل ويوظف الحديث لتكريس التقليد، أو يستخدم التقليد لتبرير استعمال الحديث.
ولاحظ نورالدين أفاية أن الفكر الحديث وبحكم استناده إلى العقل، فإنه يستمد بعض مشروعيته؛ أولا من التفكير في زمنه، وثانيا من ممارسة النقد النشط لأسس الفكر والمجتمع والسياسة. لذلك لا ينفصل فكر الحداثة عن حداثة التفكير.بعد هذا الفرش النظري أعلن الباحث أنه يقترح، فيعرضه، مقاربة الحداثة من زاوية «تركيبية»تجمع بين استدعاء جملة مستندات نظرية، وإبراز بعض تمظهرات الحداثة من خلال بسط ثلاث مسائل كبرى تتمثل في: المسألة المعرفية، والمسألة الإيتيقية المتعلقة بآليات الاعتراف، ومسألة الثقة في الفعل السياسي.
واعتبر أن التفكير في الحداثة ليسمجرد تشكيل للمفهوم، أو نقل رسائل أو زخرفًا بلاغيًا، إنه مادة وإطار الإنتاج النظري، داخل اللغة وضدها.من هنا يظهر البعد السياسي للفكر؛ فالتدخل في اللغة باعتباره فعلا، والتنويع داخلها كتوليد للفوارق، من منطلق «المهمة» التشخيصية للحضارة، يشكل نوعًا من «المشروع الإيتيقي» منظور إليه بوصفه صيرورة مغايرة.
انطلاقا مما تقدم يمكن القول بأن فعل التفكير، في الحداثة وفي غيرها، أقرب إلى الانخراط العملي منه إلى الاعتبار الإبستيمولوجي ( مشيرا إلى أن ذلك يشكل الهمّ الناظم لعرضه).وليس الأمر بديهيا على كل حال، ذلك أن بناء تصور، أو فهم جديد يستلزم منهجًا جديدًا في التفكير، سيما وأن الجديد، كما يرى دولوز، يحمل طابع الاختلاف، منهجيًا وأنطولوجيا،لخلق التعدد، انطلاقا من تحويل فعل التفكير إلى عملية قبض capture تسمح بالانتقال من « منطق المعنى» إلى « نظرية تعددية» للحداثة، أي القبض على القوى الكامنة في ثناياها وفي تمظهراتها، ولا سيما القبض على الأفكار الثاوية التي تبشر بها، من أجل تأسيس أفق يغير الفكر..
وأشار أفاية إلى أن الحداثة تأسست على إرادتين: إرادة المعرفة، وإرادة القوة.وفي ذلك لعبت التقنية أدوارا حاسمة في تغيير أنماط النظر، والتنظيم، والتواصل. إن كل اكتشاف تقني حصل في التاريخ إلا و له تداعيات على السلوك والمواقف والقيم الثقافية. فالمجتمع في حاجة دائما إلى وساطات intermédiaires لإقامة روابط ما بين المجرد والملموس، المتعالي واليومي، من أجل فهم الكيفية التي تعمل الفكرة، حتى ولو كانت لامادية، بفضل الوساطة، على أن تصير قوة فاعلة، وفكرة مُحركة. لهذا يؤكد «ريجيسدوبري» على أن دينامية الفكر غير مفصولة عن «فيزياء الأثر» وإنتاج الأحداث.
أمّا بالنسبة ل»هارتموت روزا» فإنه يرى بأن التسارع L'accélération، يمثل جوهر الحداثة أكثر مما تحدده العقلنة، والفردنة، وتقسيم العمل، أو تطويع الإنسان للطبيعة. وإذا كان التسارع تحرريًا طيلة القرنين الماضيين، فإنه يعمل، اليوم، على تعريض وجودنا للخطر، كما يهدد أدوار الفعل السياسي في تدبير الشأن العام، أو في تحويل مسار التاريخ. ولذلك، وفي سياق الحديث عن المعرفة، كثيرًا ما يلتبس على الناس الإعلام بالمعرفة، والأحاديث، بل والكتابات الكثيرة حول الموضوع نادرًا ما تراعي ضرورة التمييز بينهما. فليس ولوج المعلومات مرادفًا لولوج المعرفة. وامتلاك معلومة لا يعني بالضرورة استبطان معرفة، ويزداد الغموض غموضًا حين تقترن المعلومة بالمعنى. هنا يغدو الالتباس سيد الموقف.
وبعد استعراض لمختلف رهانات المعرفة خلص الأستاذ أفاية إلى التأكيد على أن المعرفة العصرية تعطي الأولوية للشك، وللسؤال، ولقيم حقوق الإنسان، ولحرية المبادرة، ولروح الابتكار، وللتربية على التفكير وعلى الحرية، وللمسؤولية في السلوك، ولإقامة مجتمع سياسي يعتمد على التعاقد بين إرادات أفراد أحرار. هناك من المجتمعات من آمن أو وطَّن شروط هذه الثقافة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وجنى ثمار معجزة نهضة شاملة كان للقيم الثقافية فيها دور محرك؛استنبتها في مؤسسات ومدارس ومعاهد وجامعات، تُحضر المنتجين في الاقتصاد والخدمات، والمهن والإدارة، والمعرفة.
وانتقل بعد ذلك إلى مسألة الاعتراف متسائلا: لماذا يشكل الاعتراف مسألة مهمة بالنسبة للناس في المجتمع الحديث؟ ولماذا يشكل غيابه سببًا من أسباب الانخراط في مسار النضال من أجل انتزاعه وإقراره؟ أو سببا للإحباط والاكتئاب؟
للاقتراب من السؤال استدعى أفاية « شارل تايلور»، في مقاله الشهير «سياسة الاعتراف» (1992)،الذي يعتبر فيه أن مطلب الاعتراف يرتقي إلى مستوى اعتباره «حاجة إنسانية حيوية». كما توقف عند كتابات «أكسيلهونيت»حول الاعترافالذي يمثل، عنده، حالة من ثلاثة أنواع من المواقف المتداخلة، وهي الحب، الاحترام، والاعتبار؛ غير أن أهمية هذه المواقف مُزدوَجة، إذ سيكون من الصعب، في نظره، إن لم يكن من المستحيل بالنسبة لفرد ما لم يعرف تجربة الاعتراف (أو يمكن أن يكون موضوع اعتراف) أن يحافظ أو يُنمّي مواقف إيجابية إزاء الذات، سواء على مستوى الثقة في الذات، أو احترام الذات أو اعتبارها.وبغياب هذه العلاقات الإيجابية يفتقد الفرد، بالقوة، الموارد السيكولوجية الضرورية لتحقيق الذات، ولتفتحه وتحريره باعتباره كائنًا إنسانيًا.ثم إن الاعتراف، من جهة ثانية يمثل أداة، إن لم يكن الأداة الحاسمة في الاندماج الاجتماعي.
لذلك يحوز الاعتراف أهمية حيوية في سياق المجتمع الحديث؛ أولا من الناحية السيكولوجية باعتبار أن نفسية الفرد تبقى تعاني من خصاص جدي قياسًا إلى شروط إمكان التحقق الذاتي؛ وثانيًا من الناحية الوجودية والاجتماعية لأنه بدون اعتراف تفتقر الجماعات والمجتمعات للبنية التحتية الاجتماعية التي بفضلها تتحقق الروابط الاجتماعية ويتعزز العيش المشترك.
الاعتراف، إذن، أداة أساسية لبناء هوية الأفراد، ومنحهم معنى وآلية لتنمية قدراتهم، وتحسين عيشهم، والارتقاء بوجودهم إلى مستوى الكرامة. كما أن الاعتراف سلوك بنَّاء ومعيار للحكم على عطاء الآخرين، وأسلوب للنهوض والتعبئة. يتعلق الأمر، بالنسبة ل»أكسيلهونيت»، بتحريك مصادر التحفز في التجربة الشخصية للقيام بفعل جماعي ضد ما هو سيء وسلبي ونكوصي لصالح الاتجاهات والنزوعات الإيجابية في المؤسسات والمجتمع والحياة.
من جهة ثالثة حاول الاستاذ نورالدين أفاية تناول مستجدات الفهم المتجدد لمسألة الديمقراطية في المجتمع الحديث؛ مشيرا إلى أنه لا شك في أن هناك مصادر متعددة ومتنوعة للثقافة الديمقراطية، وذاكرة تعددية للديمقراطية يصعب، في ضوئها، فرض نموذج جاهز، لكن أسئلة حقيقية تفرض ذاتها، دوما، حول التمثيلية والحقوق، والرأي العام، أو على صعيد التحكم في الصراعات، واقتراح أساليب جديدة لتدبير قواعد العقد الاجتماعي. تخلق اللعبة الديمقراطية مجموعة من الممكنات من دون أن تعرف ما الممكن القابل للتحقيق بالضرورة. إذ ليست هناك قواعد مطلقة في هذا الشأن، لأن هناك حالات تتوقف فيها المناقشة، ويتأزم فيها الخطاب السياسي، لا سيما وأن السياسة لا تستجيب دائما لما هو عقلاني.
لهذا غدت اختلالات النظام التمثيلي موضوع قلق العديد من المشتغلين بالسياسة أو الذين يتأملون تحولاتها. ويبدو أن التفكير، أمام ما يحصل من تبدلات، مطالب بالذهاب أبعد من الاقتصار على الإجراءات الانتخابية التمثيلية. فالوضع الاقتصادي والاجتماعي الموسوم بالأزمة يستدعي إعادة النظر في أنماط التنظيم والضبط الذي تنهجها الدول. بل يستوجب بالأساس، اقتراح فهم جديد لما يشكل «الروابط الاجتماعية» المؤسسة للجماعة الوطنية. فتراجع الثقة في المؤسسات والكفر بالسياسة، وتفكك أشكال التضامن يطرح، دائما، أسئلة مقلقة على الفاعل السياسي كما على الذين يتخذون من السياسة موضوعا للتفكير. تتوقف الثقة على توافر شروط مقترنة بالحكم الجيد (الحاكم الجيد)، منها الاستقامة، والنزاهة، والقةل الصادق. أما اللغة السياسوية فهي مدمّرة للثقة، وحين ندمّر الثقة ندمر معها القدرة على الفعل.
لقد أبان النظام التمثيلي عن حدوده،في نظر «بيير روزانفالون»، مهما كانت شرعيته ومستنداته القانونية والمؤسسية، على رأس هذه الحدود يأتي ما يسمى ب «منسيي التمثيل»، إما نتيجة العزوف، أو اللامبالاة، أو التواجد خارج دوائر المشاركة والاهتمام بالعمليات الانتخابية. قد يسعى النظام التمثيلي إلى تحسين أدائه بتغيير نظام الاقتراع، أو سن قوانين تلزم مواطني البلد بالتصويت، أو إدخال نظام الكوطا لصالح النساء أو الشباب. لكن كل هذه الإجراءات، غير كافية. لذلك يتعين ابتكار «أشكال غير انتخابية للتمثيل»، من قبيل مجالس وهيئات الضبط، والسلطات الإدارية المستقلة.
تفترض الديمقراطية المناقشة المستمرة لأسباب فشلها وعوامل عدم اكتمالها، كما تستدعي الإنصات لما يشكل مصدر تهديد لمشروعيتها. ومنها ما يسميه «روزانفالون» ب «الديمقراطية اللاسياسية» التي تعبر عن نفسها من خلال مواقف بائسة وسلبية يمكن إدراجها في خانة الديمقراطية المضادة.
وخلص الأستاذ أفايةفي محاضرته إلى أن العديد من التحولات تبين، في الفكر والتاريخ، أن مفهوم الحداثة في حاجة، دائما، إلى مراجعة وإلى إعادة تحديد، حسب السياقات والتجارب، كما هو في حاجة إلى الاجتهاد لإزاحة بعض الأبعاد الرومانسية، ذلك أن الفكر الحديث مطالب بنقد النماذج التكرارية التي تعيد إنتاج الماضي، كما أنه في حاجة إلى بيئة حاضنة. ويبدو أننا نعاني، في المغرب، من خصاص كبير على هذا الصعيد، لأن بيئة الحداثة عندنا يطغى عليها التقليد، المتمثل في الذهنيات، وفي التشكيلة الاجتماعية، وفي العلاقة بالمرأة، وبفوضى المدينة (لا يوجد تعريف قانوني للمدينة لحد الآن في المغرب)، وفي النقص الظاهر في الثقافة العصرية، وفي مختلف مظاهر مقاومة تلقّي الحداثة.
واعتبر المحاضر أنالدعوة إلى الحداثة، أو المطالبة بها، عليها أن تنطلق من دلالاتها الفاعلة والفعلية، وليست من الحداثة المغشوشة، أو المشوهة، أو الصمّاء (التي لا أصداءلهاsans résonnance،أو لا يمكن البناء على تراكماتها ومكتسباتها)، كما أن الدعوة إليها تتطلبالانخراط في إنتاج معرفة عصرية نافعة، واعترافا بكرامة الكائن المغربي، وغير المغربي، وتوسيعالدائرة الحريات، وتطويرالآليات الفعل الديمقراطي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.