انتقل إلى عفو الله الأستاذ علي القضيوي الإدريسي يوم السبت 17 دجنبر الجاري، بعد معاناة مع المرض. والأستاذ القضيوي عضو سابق بمجلس المستشارين ضمن الفريق الاشتراكي، ومناضل صلب داخل حزب القوات الشعبية، إلى جانب موقعه كأحد رموز العطاء الثقافي والفكري والجمعوي الخصب والمتعدد. وبمناسبة رحيله المؤلم، نعيد نشر هذه القراءة التي كنا قد نشرناها بالصفحة الثقافية لجريدة الاتحاد الاشتراكي، عقب صدور مذكراته سنة 2012. لاشك أن تاريخ المغرب الراهن يحفل بالكثير من عناصر العطاء الخصب والمتجدد الذي يؤثث معالم ذاكرتنا الجماعية. ولا شك أن هذه العناصر تشكل نقاطا ارتكازية في كل محاولات القبض بتلابيب الإبدالات السريعة والعميقة التي يعرفها المجتمع في سياق تطوراته الجذرية التي مست المسلكيات اليومية والنظم الثقافية والتمثلات المتبادلة بين ذات الفرد، الواحد/ المتعدد، وسياقات التغير المنسجمة مع منطق تغير «الحال والأحوال» وتبدل مكونات «العمران» الرمزي، بالمفهموم الخلدوني الواسع، والذي يفرزه المجتمع في سياق تطوراته التاريخية الطويلة المدى. وفي إطار هذه التحولات، تبرز الذوات كأقطاب مركزية في صنع الحدث، أو توجيهه، أو التأثير فيه، أو – ربما – توظيفه في إطار نزوعي مرتبط بالمصالح الذاتية أو الفئوية للجماعة أو للحزب أو للعشيرة أو للزاوية... فعطاء الذات الفردية يشكل عنصرا مركزيا في كل جهود كتابة تاريخ الراهن، من دون أن يعني ذلك – إطلاقا – أي نزوع نحو تقديس الأفراد، ولا بتضخيم المبادرات، ولا بافتعال المواقف، بقدر ما أنها محاولة للإنصات العميق لدوائر الفعل التي تنبعث من هنا أوهناك، بهواجس نبيلة في الغالب، من أجل تحقيق التماهي المطلق للذات المفردة داخل بنية «الجماعة» وتحويل هذا التماهي إلى مصدر متجدد للخصب المنتج وللعطاء اللامتناهي وللاستعداد المطلق من أجل الانخراط المبدئي في «معارك» الجماعة، بعيدا عن كل الشوفينيات الضيقة وعن تمظهراتها الوظيفية المقيتة وعن الارتباطات العشائرية المزمنة، وقريبا من الإخلاص الصوفي للبيئة المحلية في امتدادات ذلك على العمل المؤطر وطنيا داخل الهيئات الوطنية السياسية والنقابية والجمعوية. وبهذا البعد، يتحول الفرد إلى عنصر موجه للمبادرات ولصنع المواقف التي تتطلب الكثير من الجرأة ومن الإقدام ومن التضحية، خدمة للذات المتجلية في «الآخر» والتحاما بقضايا الوطن الكبرى وبانشغالات المواطنين المركزية. واعتبارا لكل هذه الحيثيات، أضحت العودة للإنصات لنبض الفعل الفردي / الجماعي، محورا أساسيا في جهود تجميع المواد المركزية لكتابة تاريخ الراهن ولفهم مجمل تحولاته المجتمعية والسوسيولوجية الدقيقة. لا يتعلق الأمر بتجميع خطي للمبادرات وللتجارب، بقدر ما أنه التقاط ذكي لأصول الفعل الراشد الذي يصنع المعالم المشعة في مكونات الذاكرة المشتركة بين الفرد والجماعة. ونظرا لهذه القيمة الكبرى لفهم أسس إبدالات الماضي والحاضر، أصبحت العودة للكتابة حول سير الذوات الفاعلة أمرا مركزيا في جهود تجميع شتات عناصر الذاكرة الجماعية، وتحويلها إلى مادة خامة ضرورية بالنسبة لعمل الباحثين والمؤرخين. وقد أثمر هذا التوجه، صدور العديد من الأعمال التوثيقية لسير الأفراد ولتجاربهم في مجال العمل السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو المدني المتشعب، مما أضحى يحقق تراكما يمكن أن يشكل أرضية للقراءة وللتأمل وللتشريح وللتحليل ثم للاستغلال العلمي الرصين. في إطار هذا التطور العام، يندرج صدور كتاب «شذرات من الذاكرة»، خلال مطلع سنة 2012، في ما مجموعه 232 صفحة من الحجم المتوسط، في شكل تجميع تركيبي لعطاء سيرة الأستاذ علي القضيوي الإدريسي ولمجمل المحطات الإنسانية والحزبية والجمعوية التي طبعت مسيرته في مجال الالتحام بقضايا الشأن العام المحلي داخل وسطه الحميمي بدوار سيدي عبد الله بن مسعود الواقع بتراب عمالة إقليمالجديدة، بامتدادات ذلك على فعله النضالي داخل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وداخل النقابة الوطنية للتعليم، جهويا ووطنيا، مدنيا ومؤسساتيا، كفاحيا وبرلمانيا. فهو المناضل الصلب، والوطني الغيور، والمربي الفاضل، وقبل كل ذلك هو الابن الشرعي لتربة بيئته، والمهووس بحب هذه التربة وبالإخلاص في خدمتها وفي تخصيبها. ومن موقعه هذا، استطاع علي القضيوي الإدريسي أن يرسم الكثير من المسارات النضالية المتميزة، جعلته في قلب أحداث مغرب النصف الثاني من القرن الماضي، مما أهله لاكتساب عناصر الريادة في الفعل وفي التميز داخل وسطه، ثم على امتداد خريطة الوطن وبين أحضان رفاقه وحزبه. ولقد لخص هذا البعد العام لهذا التفاعل بين واقع الذات وتغيرات الواقع في كلمة افتتاحية دقيقة، جاء فيها:» وأنا أتذكر... أجدني أرصد أن تغيرات عديدة شهدها المغرب منذ تاريخ ميلادي إلى الآن، في شتى الميادين، الثقافية / الاجتماعية / الاقتصادية / السياسية، تركت بصمات خاصة على رؤيتي للأشياء. فما كنت أعتبره مطلقا أصبحت أعي نسبيته، وما كنت اراه نسبيا لامست، وألامس حقيقته. وأظنني كنت فاعلا قدر الإمكان في مجرى الأحداث، دون أن أكتفي بدورالمتفرج...» ( ص ص. 7 – 8 ). ونظرا لثراء مكنونات ذاكرة الرجل ولتعدد أشكال تفاعلها مع محيطها، فإننا نجد صعوبة في تصنيفها بشكل قطاعي، ذلك أن تداخل الذات مع الجماعة يظل من الترسخ بشكل لا يسمح بوضع أي حدود بين هذا المجال وذاك، فالكل يلتقي في الواحد / المتعدد حسب ما يمكن إجماله في الخلاصات التالية: أولا – استطاع الأستاذ علي القضيوي الإدريسي أن يلتقط، بعينه الثاقبة، الكثير من التفاصيل المرتبطة بواقع دوار سيدي عبد الله بن مسعود، ليس فقط على مستوى تقلبات حياته العائلية والتكوينية والدراسية ثم المهنية، ولكن – أساسا – على مستوى التوثيق للنظم المعيشية للسكان ولأنساق التفكير المتوارثة ولمكونات رصيد الرموز الثقافية العميقة. وفي الكثير من الأحيان، ظل علي القضيوي الإدريسي ينحو نحو استنطاق وسطه الحميمي من خلال عينه ورؤاه وتمثلاته، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا جزئية لم تلتفت لها كتابات النخب العالمة، بالنظر لانتظامها في سياق الحياة اليومية الاعتيادية. ومعلوم أن هذا التراث المعيشي والذهني يشكل حجر الزاوية في كل محاولات التأصيل للبحث السوسيولوجي المجهري الباحث عن التفاصيل «الأخرى» المنفلتة من بين ثنايا المتون المدونة والأعمال القطاعية المنتشية بعطاء النخب العالمة والمهووسة بالبحث عن عناصر الفعل المؤثر في قرارات المركز وفي مواقفه وفي رؤاه. وعلى هذا الأساس، يحفل كتاب «شذرات من الذاكرة» بالكثير من الإحالات السوسيولوجية الدقيقة التي يضمن المؤلف لها كل عناصر الاستمرار والبقاء بعد أن أقدم على تدوينها وعلى التوثيق لها، حفظا لها من عوادي الإنسان والزمن، والأمثلة على ذلك كثيرة ومعبرة، سواء في الوسط الأسري أو الثقافي أو الديني أو الاقتصادي أو الاجتماعي الخاص بطقوس ساكنة دوار سيدي عبد الله بن مسعود ومجموع منطقة دكالة، وبتقاليدهم وبأعرافهم المتوارثة عبر السنوات والعقود، بل والقرون الطويلة الممتدة. وقد عبر الأستاذ علي القضيوي الإدريسي عن ذلك بعمق عندما قال: «وجدت نفسي مدفوعا لتخطيط هذه الأسطر، لتكون مرآة تقريبية لحياة جيل على الأقل بمنطقة شهدت شهقاتي الأولى، وخطوات نسجت فكرا ونفسية مواطن حمل حلم العيش الأفضل والغد الجميل. حاولت أن أرسم من خلال هذه السطور لوحات تبرز شذرات من ذهنية ساكنة تفاعلت مع وسطها البيئي، طقوس ثقافية متنوعة: أعراس وجنائز، سكن يلائم طبيعة المنطقة، تعليم تقليدي، اعتزاز بالنسب والانتماء، خصومات وتضامن، مصطلحات وتسميات، إنها سلسلة من أشكال الحياة...» ( ص. 7 ). ثانيا – إلى جانب هذا الرصد المخبري الدقيق، استطاع الأستاذ علي القضيوي الإدريسي رصد معالم التحول التي طرأت على أوضاع «الدوار»، ومنطقة دكالة عموما، من جراء توالي صدمات الحداثة التي حملها الاستعمار أولا، ثم دولة الاستقلال السياسي ثانيا. ولعل من عناصر القوة في هذا المنحى، نزوع المؤلف نحو الابتعاد عن الكتابة التنظيرية الجاهزة، في مقابل انفتاحه على صوت المجتمع بتعبيراته البسيطة في مواقف الناس وفي أشكال تدبيرهم لنظمهم المعيشية ولحياتهم اليومية ولعاداتهم المكتسبة أو الطارئة. ثالثا – بهذه الصفة، تحولت سيرة علي القضيوي الإدريسي إلى سيرة جماعية، لا شك وأنها تفتح الباب أمام إمكانيات التوثيق لخصوبة الواقع الجماعي ل»الدوار» ولساكنته. وفي الكثير من الحالات، كنا نجد صعوبة في التمييز بين سيرة الكاتب وتحولات محيطه المحلي، ولنقل إنه قراءة لواقع الجماعة انطلاقا مما ظلت تخزنه الذات من صور ومن كليشيهات ومن فضاءات ومن وجوه ومن معالم، منها ما اندثر وانقضى أثره، ومنها أجزاء لازالت منتصبة وقائمة كأنساق ناظمة لطقوس الحياة اليومية للجماعة سواء على المستوى المادي أو الرمزي. رابعا – إلى جانب هذا البعد المحلي في الكتابة السير – ذاتية للأستاذ علي القضيوي الإدريسي، اهتم المؤلف – كثيرا – بالانفتاح على الامتداد الوطني، من خلال التوثيق لمسيرته النضالية داخل الحزب الذي اختاره واجهة مشرعة للفعل السياسي الراشد والنبيل، ويتعلق الأمر بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ثم داخل النقابة الوطنية للتعليم ومجموعة من الإطارات المدنية والجمعوية المختلفة، بجهات متعددة من المغرب العميق، حيث كانت للرجل إسهامات رائدة يحفظها له مجايلوه بالمدن التي استقر بها في فترات زمنية مختلفة، وتحديدا مدينتي برشيدوالجديدة. لقد كان الأستاذ علي القضيوي الإدريسي مناضلا اتحاديا صلبا، أخلص في الدفاع عن مبادئ حزبه، وقدم – مقابل ذلك – ثمنا باهضا، في فترة انتقال تاريخي حاسم ميز مغرب سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي. وفي كل هذه المحطات، ظل المناضل القضيوي الإدريسي يحمل صفات المناضل المتفاني في عطائه وفي الإخلاص للمبدأ، أثبت ذلك وهو «ضيفا» على السجن والاعتقال، وهو صامد في وجه آلة الاستبداد والقمع، وداخل قبة البرلمان بمجلس المستشارين... وظل وفيا للمبدأ وللفكرة، سواء في مساره المهني أو الحزبي أو الجمعوي، مساريمكن أن يختزل سيرة جيل كامل، تربى على ثوابت الوطنية الصادقة قبل أن تصيب العمل السياسي لوثة الظواهر المرضية الانتكاسية التي استشرى داؤها داخل بنى الكثير من الهيآت السياسية للمرحلة الراهنة. وبعد، فهذا جزء من فيض، لاشك وأنه يغري بالعودة لقراءة مضامين كتاب «شذرات من الذاكرة»، بحثا في ثنايا إبدالات واقع دوار سيدي عبد الله بن مسعود وزاوية سيدي إسماعيل، واقتفاءا بأثر أعلام المنطقة الذين صنعوا بهاءها الثقافي والعلمي والحضاري المتميز. هي – إذن – كتابة أخرى، تقرأ الذات من خلال ثراء عطاء محيطها، فتعطيه كل فرص الخلود والامتداد في الزمن، استقراءا للذي «كان»، من أجل استشراف معالم العطاء الذي «سيكون»، اليوم وغدا.