رغم أن موضوع هذا الكتاب ينتمي إلرغم أن موضوع هذا الكتاب ينتمي إلى حقل العلوم السياسية، في معناها الحصري، وخاصة على مستوى البحث في أنماط التسيير والتدبير الراشدين لقضايا الشأن العام الوطني والجهوي والمحلي، فإنه يكتسي قيمة كبرى بانفتاحه على عمق تاريخي واضح، ساهم في التأصيل لدلالات إحدى أكثر المفاهيم لبسا في حقلنا السياسي المعاصر، يتعلق الأمر بمفهوم « الحكامة » وبظلاله الوارفة على خطاب نخب المرحلة وعلى مختلف المشاريع التنموية التي يتم الإعلان عنها هنا وهناك، سواء داخل المغرب أو خارجه. إنه بحث قانوني وسياسي، بنفحات تاريخية، أعادت ربط الموضوع بسياقات تاريخية كونية، واستشرفت - من خلاله - آفاق رحبة للاشتغال على آليات تجديد أنماط التدبير الجماعي المتوازن والراشد لقضايا الوطن والمواطنين. وعموما، يمكن القول إن كتاب الدكتور سعيد جفري، الصادر عند مطلع السنة الجارية، في ما مجموعه 239 صفحة من الحجم الكبير، وذلك تحت عنوان «الحكامة وأخواتها» مع عنوان فرعي مؤطر: «مقاربة في المفهوم ورهان الطموح المغربي»، قد استطاع تقديم آخر الاجتهادات التجميعية والتأصيلية لمفهوم الحكامة»، ولأنماط حضوره في حقلنا التداولي وفي مشهدنا السياسي الراهن وفي تطبيقاته القطاعية المتشعبة، ثم في أسسه النظرية والتاريخية المتكاملة. وبخصوص الإطار العام الذي ساهم في توجيه سقف البحث، فقد حدده الدكتور سعيد جفري في كلمته التقديمية، عندما قال :« اعتباران اثنان، دفعا إلى خوض البحث في الحكامة المصطلح والشقيق الأكبر للعولمة، وفي محاولة مقاربته وتحديد أهم معالمه وتجلياته، والتي تشكل في النهاية التمظهرات العامة والقطاعية لذات المفهوم. الاعتبار الأول، بالإمكان إرجاعه إلى اعتبارات ذات مبررات ذاتية، تجد أهم عناصرها في تصورات وتمثلات المصطلح العلمية والعملية، وأيضا في «الصلابة المفاهيمية » لمحاولات تحديد أبرز مكوناته وعناصره، والتي جعلته بامتياز مفهوما متطورا وغير قار، بل «مفهوما زئبقيا» بالنظر لارتباطه بمجالات متعددة وبتنوع صيغ تداوله. الاعتبارات الذاتية التي تدفع إلى مثل هذه الخلاصات الأولية، تجد مبرر وجودها المرجعي في خطوتين بحثيتين اثنتين : الخطوة الأولى تمثلت في نتائج أجوبة أبان عنها تساؤل محوري وجه إلى عينة مكونة من خمسين باحثا لمعرفة موقفهم، وبالتالي تمثلاتهم وتصورهم لمصطلح الحكامة، بالدعوة إلى الإجابة المباشرة عن سؤال: ما الحكامة في كلمة ( مفردة ) ؟ وقد جاءت الإجابة عن التساؤل المطروح بوجه عام ذات طابع متعدد وغير موحد ومتنوع، بل إن البعض من المستجوبين سيجد صعوبة في إعطاء أي إجابة أو تصور لمفردة ومصطلح الحكامة. وهكذا، وإذا استثنينا الثمانية المصطلحات ( الكلمات )، التي جاءت على رأس قائمة الأجوبة - وافق أكثر من اثنين عليها -، وهي على التوالي التدبير والتدبير ( الجيد )، الترشيد، المشاركة، المنهجية، الفعالية، الديمقراطية، العقلنة والتلجيم، فإن المصطلحات المختارة جاءت في المجمل ذات طابع عددي مفرد - أي جواب واحد - لكل مصطلح، وتنوعت بتعدد المستجوبين، إذ أن الحكامة وفق تصور هؤلاء قابلت إجمالا مصطلحات الشفافية، أو المراقبة، أو النجاعة، أو التعاون، أو المساءلة، أو الشراكة، أو الطموح، أو الأمل، أو الخرافة ... أما الاعتبار الثاني، فمكن إرجاعه إلى اعتبارات ذات مبررات موضوعية، وتتعلق بشروط وتطبيقات ومشاكل الحكامة في النموذج المغربي، والتي تنطبع بشكل عام بخاصية وطابع الضعف. هذا الضعف يعتبر الخلاصة المحورية «لتقرير الخمسينية »، إذ سبق وأشار هذا الأخير إلى أن مستقبل المغرب يرتهن بمدى قدرته على مواجهة وتخطي خمسة بؤر تشكل عوائق للتنمية، وهي المعرفة والاقتصاد والإدماج والتكوين والحكامة ... ( ص ص. 5 - 6 - 7 ). ولتغطية مختلف انشغالات البحث، وزع الباحث سعيد جفري عمله بين فصلين متكاملين، وتقديم منهجي وملاحق توثيقية وتوضيحية وفهارس تصنيفية. ففي الفصل الأول، اهتم الباحث بمقاربة دلالات لفظ «الحكامة »، عبر توضيح مكونات المفهوم ومرتكزاته النظرية ومؤشراته ومعاييره المعتمدة على الصعيد الدولي. في هذا الإطار، نجد تفاصيل غزيرة حول إبدالات مفهوم «الحكامة» في مرجعيات فكرية متباينة، مثل المرجعيات الأممية أوالفقهية، إلى جانب ضبط واضح للعلاقات الكائنة والممكنة مع العناصر المتفاعلة معها والمؤثرة فيها والمتأثرة بها، مثل الحكومة والمجتمع المدني، وخاصة على مستوى المرتكزات السياسية المتحكمة في هذه العلاقات والناظمة للرؤية الاستراتيجية المحددة للمؤشرات المرجعية لما أصبح يصطلح عليه « بالحكامة الجيدة ». وفي الفصل الثاني، انتقل المؤلف للبحث في أوجه الحضور المتعدد «للحكامة الجيدة »، وذلك على المستويات القطاعية المتكاملة، وعلى رأسها الحكامة السياسية، والحكامة البرلمانية، والحكامة القضائية، والحكامة الاقتصادية، والحكامة الاجتماعية، والحكامة الإدارية، والحكامة المحلية، والحكامة المالية، ثم الحكامة الجبائية. وقد ختم المؤلف عمله، بنشر سلسلة من النصوص والإحالات الوثائقية التوضيحية، المقتبسة من تقارير منظمات دولية، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي، ومنظمة التجارة العالمية، وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، والبرنامج الوطني للحكامة الجيدة بالمغرب ... وانطلاقا من كل ذلك، نجح الدكتور سعيد جفري في تقديم مقاربات تنقيبية إجرائية، لا شك وأنها توفر لعموم الباحثين ولنخب التدبير الوطني والجهوي والمحلي مرتكزات مرجعية لإبداع آليات مجددة في اشتغال الإدارة، وفق المفهوم الحداثي الواسع الذي يمتح من ينابيع تاريخية عميقة، منفتحة على العصر ومستوعبة للميكانزمات المتحكمة في تحولاته. ولعل هذا ما كان يرمي إليه المؤلف، عندما قال في كلمته التركيبية المركزة : « ... على الرغم من الزخم العصري المتجدد لمصطلح الحكامة، فإن محاولة الكشف عن عمقه التاريخي، تسمح بالإقرار بوجود كثافة زمنية لذات المصطلح قد تعود به إلى أزمنة إنسانية ليست بالقريبة. كما أن الجانب المفاهيمي للحكامة، يدفع هو الآخر إلى مساءلة مكونات المفهوم، وعلائقه بمجالات الاهتمام التقليدية (السياسة، الاقتصاد والاجتماع). أيضا، فإن الحكامة في مبناها العام، تبرر ضرورة المحاولة الجادة لكشف وترسيم الحدود الممكنة بين ذات المصطلح، وجانب كبير من صيغه المرادفة ... والتي تشكل في آخر المطاف ما يمكن نعته بحق بأخوات الحكامة ». إنه جهد أكاديمي رفيع، يستجيب لأفق انتظارات نخب المرحلة، ويساهم في توفير زاد نظري غزير، يمد الجسور بين مجالات الاشتغال داخل حقول العلوم السياسية من جهة، وبين أدوات الاشتغال الارتكازية بالنسبة للفاعل السياسي والجمعوي والاقتصادي المغربي المعاصر من جهة ثانية.