حين يتفحص المرء في خطاب حركات الاحتجاج والثورة، الضمني والمعلن، ويلقي نظراً على نوع الشعارات التي التف حولها الناس واحتشدوا، يكتشف أن أكثرها تردداً وتداولاً الشعارات المناهضة للاستبداد وللفساد. الهتافات الملايينية الصادحة، في المدن والساحات، بإسقاط النظام أو بالإصلاح السياسي تدور على رفض بنية الاستبداد الحاكمة للنظام السياسي العربي. تتفاوت الدرجات بين هذا النظام وذاك، فتتفاوت معها سقوف المطالب والشعارات، لكن الجوهر يبقى واحداً. والهتافات الملايينية بإسقاط الفساد تدور على رفض ظواهر النهب المنظم للثروات والمقدرات من قبل عصابات المال والسلطة المتحالفة والمتآلفة في شبكة مصالح مشتركة. تتفاوت درجات الظاهرة من بلد إلى بلد، لكنها تظل عامة كسابقتها «الاستبداد». قامت الثورة، في البلدان التي قامت فيها، والحركة الاحتجاجية العارمة في وجه نوعين من الاحتكار: احتكار السلطة واحتكار الثروة. بين الاحتكارين ألف صلة وصلة وصور من التعالق والتشابك مختلفة. لا غرابة، إذن، في أن تجمع شعارات المتظاهرين والثائرين بينها في خطاب احتجاجي واحد، وأن يصار إلى التعبير عنها بلغة الترادف وأحياناً في شعار مركب. ويرد هذا التركيب في خطاب الاحتجاج إلى وعي لما بين الاحتكارين من تلازم ماهوي من وجه، وإلى وعي بأن كسر إحدى الحلقتين إنما يفترض كسر الأخرى، حكماً، للترابط التكويني القائم بينهما من وجه ثانٍ. والوعي هذا لم يعد وعي نخب ثقافية أو سياسية فحسب على ما تفيدنا تجربة الثورات العربية الجارية, بل وعي قطاعات اجتماعية واسعة من المجتمع العربي. وهذه واحدة من السمات المميزة للحركات الاحتجاجية والثورية العربية الجديدة. ترجم الاحتجاج على الاستبداد والفساد نفسه في مطلبين رئيسين غلبا على غيرهما من المطالب، هما: الحرية والعدالة الاجتماعية منظوراً إليهما كأفق للخلاص من الحقبة الماضية ومآسيها الاجتماعية المدمرة. سيكون من الخطأ أن نتحرى في المضمون السياسي لكل من المطلبين الهدفين لنتبين معناه وحدوده، فنحن لسنا إزاء خطاب فكري يمكن تحليل مفاهيمه ووضعها في ميزان المعرفة النظرية لعيار درجة تماسكها ومستوى الوضوح النظري فيها، وإنما نحن أمام حركة اجتماعية يفصح نضالها عن تطلع وهدف. والهدف هذا حين يتحقق سياسياً بإنهاء حكم الاستبداد والفساد، مثلما تحقق في تونس ومصر، لا يفرج عن مضمونه وحدوده فوراً، وإنما يأخذ اكتمال ملامحه فترة زمنية طويلة نسبياً، هي عينها الفترة التي تتبين فيها ملامح القوى الاجتماعية والسياسية ذات التأثير الأساس والحاسم في مجرى الثورة والتغيير الاجتماعي. إن توخينا الدقة أكثر، نقول إن شكل النظام السياسي الذي يراد أن يكون نظام الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية إنما يقرره ميزان القوى داخل مجتمع الثورة بين قوى تختلف في الرؤية إلى ذينك الهدفين، تماماً مثلما أن نجاح الحركات الاجتماعية الشعبية في إنهاء حكم الاستبداد والفساد، في البلدان التي لم تنجح فيها الثورة بعد، يقرره ميزان القوى الداخلي بين هذه الحركات ونظم الحكم التي انتفضت ضدها. وعليه، ينبغي الانصراف مؤقتاً عن الانشغال كثيراً بمضمون هذه الأهداف في المرحلة الحالية، والانصراف بدلاً من ذلك إلى التفكير في دلالاتها، أعني في دلالة أن تكون الحرية والعدالة الاجتماعية في قلب مطالب الاحتجاج والثورة، وأن تكون لها كل تلك القدرة التعبوية والتحشيدية التي أنتجت حالة من النهوض الجماهيري غير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر. يمثل الجمع بين مطلبي الحرية والعدالة الاجتماعية، في مجرى الحركات الثورية والاحتجاجية، اليوم، أول شكل من أشكال الاقتران بين المسألة السياسية والمسألة الاجتماعية الاقتصادية في الوعي العربي، وفي حركات النضال المعاصرة. حصل مثل هذا الاقتران قبل عقود بين المسألة الوطنية والمسألة القومية، بين المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية، عند القوميين والماركسيين العرب. لكنها المرة الأولى التي يحصل فيها النظر، بعين التركيب، إلى السياسي والاجتماعي الاقتصادي معاً بعد طول تمييز ومقاطبة بينهما. فلقد انقسم الوعي السياسي العربي شأنه شأن الوعي السياسي في العالم قاطبة بين مشدد على الحريات والحقوق السياسية «الديمقراطية» ومشدد على الحقوق الاجتماعية الاقتصادية «العدالة الاجتماعية». ارتبط الليبراليون بالمطلب الأول، بينما ارتبط اليساريون ماركسيين وقوميين بالمطلب الثاني. وكان الاستقطاب بين الفريقين حاداً وشاملاً، يبدأ من المصادر والمراجع ولا ينتهي بانقسام العالم إلى معسكرين منعكساً بنتائجه على الحركات الشعبية، المنقسمة بدورها إلى جمهورين متقابلين. لسنا ندرك الآن، على وجه التحقيق، إن كان تردد شعاري الحرية والعدالة الاجتماعية يجري داخل «شارع» موحد وملتف حول المطلبين معاً، أم أن لكل مطلب جمهوره والمصادفة وحدها والمناسبة «=الاحتجاج» جمعت بينهما. في كل حال، حسناً أن «الشارع» اتسع هذه المرة للجمع بين ما كان مفرقاً، ولو جمع جوار وتعايش. يبقى أن نتطلع إلى جمع آخر تركيبي بين مطلبين ليسا منفصلين في الماهية وإن بدا أمرهما كذلك إيديولوجياً، أي بعد أن وقع تزوير معنى الحرية والعدالة الاجتماعية في العالم المعاصر فتحولتا من مطلب إنساني إلى إيديولوجيا سياسية تقوم عليها نظم حكم ومعسكرات دولية. كتبنا، في مناسبات عديدة، أن العلاقة بين الديمقراطية «الحرية» والاشتراكية «العدالة الاجتماعية» علاقة تلازم ماهوي مأتاه من أن الإنسان لا يمكن أن يكون حراً إن لم يقع إنصافه اجتماعياً، ولا يمكن أن تؤخذ حقوقه بالنصفة إن لم يكن حراً. الاستبداد يعتدي على حقه السياسي، والاستغلال والفساد يعتديان على حقه الاجتماعي، وهو لا يقبل المقايضة بين حقين غير قابلين للمساومة بدعوى أن واحداً منهما أفضل من الثاني أو أولى. هكذا دعونا إلى بناء معادلة تركيبية جدلية بين المطلبين والهدفين على قاعدة رؤية نظرية مقتضاها أن الديمقراطية توزيع عادل للسلطة، والاشتراكية توزيع عادل للثروة، الجامع بينهما موضوعي وإنساني والفاصل بينهما إيديولوجي. .