قليلون هم الذين حين تجالسهم لا تشعر بمرور الوقت ، ولا يتسرب الملل إليك وهو يحكي ويتذكر ويربط الماضي بالحاضر في سيرورة حكواتية ذات نكهة شعبية خالصة . عبد الإله عاجل أحد هؤلاء ، ابن درب الأحباس الذي عايش تقلبات المسرح من صعود وهبوط ، وتواثر المغامرة الفنية في زمن النهوض والتقهقر ، وربط بفرادة بين القول والتأمل ، بين الضحك وهموم الواقع ، عرف كيف يكتسح الساحة رفقة مسرح الحي في مسرحيات شهدت إقبالا جماهيريا كبيرا ، ويثري المسرح المغربي بتجارب هامة سواء في رائعة الزهرة بنت البرنوصي أو في مسرح الكاف لكن قبل هذا وذاك ، يبقى عاجل الإنسان ، صاحب الذاكرة الثرية والعين الثاقبة هو المستهدف من خلال هذه السلسلة ، التي تسعى إلى إعادة رسم مرحلة من تاريخ جيل عانى وكابد فنجح هنا وأخفق هناك ، غنى ورثى وضحك وحزن ، في مسرح الحياة وحياة المسرح عائلة موميل ارتبط بها عاجل منذ وقت مبكر ، كان صديقا لأحد أبناءها ، حمودة ، وكانت العائلة تعتبر عبد الإله واحدا منها ، كانت العائلة تتوفر على استراحة صيفية ، كابانو ، في زناتة القريبة من الدارالبيضاء ، هناك قضى عاجل أوقاتا عديدة ، بل إنه في بعض الفترات ، سيصبح عمليا مستقرا بهذه الاستراحة ، في مرحلة تحول هامة في حياته ، وهناك سيقرر أنه سيحترف المسرح في زناتة ، يتذكر عاجل ، كان هناك صاحب فيلا يملك محل «كاروسري» في سيدي البرنوصي ، وكان رجلا مهتما بالعمل الجمعوي . في ذلك الوقت المبكر ، كان هو من أطلق حملة لتنظيف شاطئ زناتة ووزع أقمصة على عدد من الشبان تحمل عبارة « لنحافظ على شواطئنا» مقابل تحفيزات هامة ، وكان عاجل من بينهم كان الرجل أيضا مهتما بالفن وكان ينظم حفلات يدعو إليها عددا من الفنانين والمجموعات الغنائية . يتذكر عاجل أنه ذات مرة كلفه «رحالي» بتقديم الحفل الذي دعا إليه مجموعة لمشاهب ومجموعة السهام ، بالإضافة إلى الفنان محمد بنبراهيم . تم وضع منصة ومكبرات الصوت وكان الحضور ملفتا ، بدأت العروض ، وفجأة تقدم أمام عاجل شاب سأله إن كان بمستطاعه أن يساهم في هذا النشاط وأخبره أنه سبق أن ساهم بعدة سكيتشات في السابق وأنه قادم من بلجيكا . ذهب عاجل ليخبر منظم الحفل ، فقدمه أيضا إلى الفنان بنبراهيم ، هذا الأخير سيخبر عاجل أنه يعرف هذا الشاب فهو يقلده في عروضه ورحب بمشاركته شريطة أن يقدم عرضه بعده ، كان هذا الشاب هو سعيد الناصري بالإضافة إلى زناتة ، كان موسم مولاي عبد الله بضواحي الجديدة موعدا سنويا لعاجل وعدد من أصدقائه ، يقضون هناك بضعة أيام معتمدين على أنفسهم في كل شيء ، كانوا يحملون معهم خيمة وينصبونها في الشاطئ ، وكان عاجل هو الذي يتكفل بالطبخ لأنه ، وإلى حد الآن ، هوايته المفضلة ، وكان كل واحد منهم يتدبر مبلغا من المال يتراوح بين 150 و 180 درهما للمعيش ذات مرة تخلف عاجل عن الذهاب مع أصدقائه ، الذين سبقوه إلى مولاي عبد الله ، بعد انصرام يومين لحق بهم ولم يكن معه مبلغ من المال للمساهمة إلى جانبهم في تكاليف الأكل ، وصل بالليل ، ومعه قنينة من الماء المعدني ، وفي الصباح طلبوا منه أن يذهب إلى السوق لجلب الخضر واللحم ، وعندما أخبرهم أنه لا يتوفر على النقود اللازمة لم يصدقوه : تغسل وجهك بماء معدني وتقول إنك لا تتوفر على نقود ، غير ممكن » هكذا كانت ردة فعلهم تصرف عاجل ذلك اليوم يقدم مفتاحا لفهم شخصيته في تلك السن المبكرة ، فقد غادر الخيمة وتوجه إلى مقهى مجاور وهناك سأل عن الأشخاص الذين ينظمون الحلقة ، أخبروه أن هناك شخصا ينظم حلقة في الصباح وعرفوه عليه ، وعندما طلب منه عبد الإله مشاركته ، قبل هذا الأخير ذلك فورا ، وكان عرض عاجل ناجحا وجمع الاثنان مبلغا ماليا محترما ، بمقياس ذلك الوقت ، قسماه فيما بينهما وكان نصيبه حوالي 90 درهما ، كانت كافية ليشتري بهما قوت يوم كامل للأصدقاء . كانت تلك أول وآخر مرة يشارك فيها في حلقة ، لكن تلك التجربة أكدت أنه ليس من ذلك النوع الذي يتراجع أمام المصاعب ، وأنه يملك من الموهبة والجرأة ما يجعلانه قادرا على مواجهة تقلبات الزمن في درب الأحباس ودرب ليهودي ، كان يعيش أشخاص اسثتنائيون ، يملكون موهبة فطرية تجعلهم متميزين عن غيرهم ، يحكي عبد الإله أنه تعرف عن قرب ورافق عددا منهم ، من أمثال ادريس بائع النعناع ، فضيل وعبد الله بائع الفول والبطاطس المسلوقة ، كانوا نسخة درب الأحباس من شخصية «كيرا» الذي اشتهر في الحي المحمدي ، صاحب النوادر التي سارت بذكرها الركبان كان بائع النعناع والفوال يملكان دكانيهما في وسط الساحة التي تقع فيها العوينة ، جنب دكاكين عديدة كانت في الواقع ملتقى لسكان الحي ، كانوا بتلقائية يتنافسون في إطلاق النكت واستغلال أي موقف للسخرية من هذا العالم العجيب ، يقول عبد الإله إن الدرب تلك الأيام يذكره ب«زقاق المدق» كما صوره نجيب محفوظ فضيل العاطل عن العمل كان كوميديا لا يشق له غبار وكانت العائلات الميسورة تستدعيه بين الفينة والأخرى للترويح عنهم ، والآخرون لكل واحد منهم حكايات لا يسع المجال لذكرها عاجل رافق هؤلاء وجالسهم عدة سنوات ، ويؤكد أنه تعلم منهم الكثير ، لكنه لم يقف عند هذا الحد..كان المسرح قد بدأ يستهويه ، فقرر أن يجمعهم في عرض مسرحي ساخر ، سماه «وليدات الدوار» ، وكان اقتباسا من إحدى مسرحيات تشيخوف ، قرأها عاجل في إحدى المجلات العربية قام عاجل بإخراج المسرحية التي عرضت في مقر للشبيبة الاستقلالية في درب الأحباس، كان يتوفر على خشبة ، وقدمت المسرحية لسكان الحي مقابل ثمن رمزي ، 50 سنتيما ، وكان الحضور كبيرا لدرجة أن القاعة لم تتسع للجميع ، وكان من بين الحاضرين إخوة عبد الإله وعدد من أفراد عائلته ما حدث خلال العرض أن فنانا مسرحيا كبيرا حضر لبضعة دقائق وشاهد شبان الحي ورواده يقدمون عرضا ساخرا جدا وبإتقان ، فطأطأ برأسه كعلامة على الإعجاب وغادر القاعة .. كان هو الطيب الصديقي عندما انتهى العرض وأخبر المسؤولون عن القاعة عاجل بحضور الفنان المسرحي الكبير، غضب جدا لأنهم لم يستقبلوه استقبالا يليق به ولم يطلبوا منه البقاء بعد العرض : «كنت أريد أن ألتقي به وآخذ صورة معه» يقول عبد الإله . وقتها لم يكن يعرف أن الظروف ستمنحه هذه الفرصة... نجاح المسرحية دفع أحد المهتمين لأن يقترح على عاجل عرضها في قاعة سينما الأمل بدرب الكبير ، التي لم يعد لها وجود الآن على غرار معظم القاعات السينمائية بالمغرب . سر عبد الإله بالاقتراح وأجر «كارو» لحمل الديكور والممثلين وجلس هو قرب السائس مزهوا بنفسه ، كيف لا وهو ذاهب ليعرض عملا له أمام جمهور عريض في قاعة سينما ، لكن عندما وصلوا أخبرهم الحارس باستحالة عرض المسرحية لأن القاعة تم قطع الكهرباء عنها بسبب عدة فواتير غير مؤداة ، وهكذا انتهت قصة مسرحية «وليدات الدوار» رغم أن هذه المسرحية لم تعرض إلا مرة واحدة ووحيدة ، إلا أنها فتحت أمام عبد الإله الباب للولوج إلى هذا العالم الساحر ، فقد كان من بين الذين شاهدوها الاستاذ محمد دراعو ، الذي كان يشتغل مع المرحوم حوري الحسين في دار الشباب بوشنتوف ، المشتل الذي أعطى للمغرب العديد من الوجوه الفنية الرائدة ، فدعا عبد الإله للمشاركة في مسرحية سالم وحليمة ، التي ألفها دراعو وأخرجها حوري الحسين، وكان الدور الذي أداه عاجل ، دور الملاكم كانت المسرحية من النوع الذي أطلق عليه آنذاك المسرح التحريضي ، وكانت مرحلة السبعينات التي عرفت بسنوات الرصاص فترة مواجهة بين السلطة والمعارضة ، وكانت الجامعات من بين ساحات المعركة الملتهبة ذات مرة أخبر دراعو الممثلين أنهم سيتوجهون إلى كلية الآداب بالرباط لعرض المسرحية ، كان الاستقبال حارا ، وبعد المسرحية فتح نقاش مع الطلبة ، لكن خلال العودة إلى الدارالبيضاء تم توقيف المجموعة ونقلوا إلى إحدى الكوميسريات ، حيث خضعوا للتحقيق لمدة دامت ثلاث ساعات قبل إطلاق سراحهم ، كانت تلك أول تجربة لعاجل مع السلطة التي لم يسبق أن نظرت بعين الرضى للمسرح أو غيره من الفنون التي تنتقد الواقع الاجتماعي والسياسي ، لكن ما أفزعه حينها هو احتمال أن يصل الخبر إلى والده « اللهم ملقاك مع المخزن ولا مع والديك» كما قال ، وهكذا طلب من باقي الممثلين التكتم عن الأمر ، وكأن شيئا لم يقع...