استكمالا لما أثرناه من مواضيع في مقالات سابقة بشأن تداخل "الدين والسياسة" ومسألة الخلافة في الإسلام، نعود اليوم إلى إشكالية سياسية أساسية، طرحت في الماضي والحاضر بمنطق متباين، ويمكن أن ترهن سياسيا وثقافيا مستقبل الأجيال الصاعدة في الدول العربية والمغاربية للمجهول، إنها إشكالية "اصطناع" التمثلات مجتمعيا بشأن مسألة "الشورى" وكأنها مرادف للديمقراطية. أهمية المصطلح في النقاش السياسي اليوم مردها إلى تعمد الإسلاميين إلى جعله مصطلحا يقابل "الديمقراطية"، بل يعتبره السلفيون الأصوليون أفضل منها. يرددون هذا الاعتبار باستمرار بالرغم من كون الفقه الإسلامي بأبوابه المتعددة لم يخصص أي باب لهذا الموضوع (الشورى). أكثر من ذلك، تتوالى الخطابات التفضيلية (الشورى هي الأصل وأفضل من الديمقراطية) وواقع الحال يؤكد تاريخيا أن الفقهاء والمتكلمين لم يغامروا يوما في التمادي في "استحداث" مرجعية دينية تربط ما بين الشورى والخلافة، لم يغامروا لأنهم لم يجدوا في القرآن الكريم ما يبرر ويثبت ذلك. وكما جاء في كتابات الجابري، عندما نتحدث عن الشورى في الإسلام لا يمكن أن نستحضر إلا آيتين مرجعيتين في القرآن، الأولى "وشاورهم في الأمر" جاءت في سياق انهزام المسلمين في غزوة "أحد" ("فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر")، والثانية "وأمرهم شورى بينهم" فهي آية موجهة لعامة المؤمنين، وتتحدث عن خصال المؤمن داخل مجتمعه ومع ذويه، ولا تخص الحاكم تخصيصا (الشورى بين المؤمنين فضيلة). وعليه، فما يردده رواد الحركات الإسلامية في المجتمعات العربية والمغاربية من خطابات بشأن "الترادف" ما بين "الشورى" و"الديمقراطية" يجب، موضوعيا، أن يحدث وقفة تأملية في المجتمع المغربي تثار من خلالها التساؤلات المحرجة على مستوى النخب (العلماء، والمفكرين، والمثقفين،...) وعلى مستوى الأفراد والجماعات لإجلاء الغموض على المقاصد والنيات "المبيتة"، وأن يدفع الدولة بعلمائها لأن تقول كلمتها في شأن الحملات "التجييشية" الفئوية المطالبة بالخلافة وتطبيق الشريعة. نقول هذا لأن ترديد هذا "الترادف" في الحاضر بدون مرجعيات نصية ولا تراثية يثير الشكوك، شكوك يجب أن تكون حافزا ودافعا قويا لتحقيق الالتقائية مجتمعيا بشأن ضرورة فتح نقاش عمومي واسع يطرح بوضوح تام وبالشجاعة المطلوبة فرضية وجود مشروع حكم "خلافي" مبطن عند البعض بالمغرب، مشروع تفرض عليه الظروف السياسية والثقافية الداخلية والدولية الآنية ضرورة قبول استعمال مصطلح "الديمقراطية" في فترة انتقالية قبل المرور إلى مراحل متقدمة يكون فيها الخليفة، كما كان في تجارب السلف، رئيس دولة مسؤول أمام الله وحده وليس أمام الشعب الذي بايعه طوعا أو كرها أو قهرا. إنها فرضية واردة ومحتملة جدا نظرا لكون التراث العربي الإسلامي لم يعط يوما قيمة سياسية للشعب كمصدر وحيد وواحد للسلطة. لقد أثبت التاريخ أن الوصول إلى السلطة وتدبير الحكم كانا يتما عبر الاحتكام إلى النخبة الفقهية أو ما يسميه الفقهاء ب"الخاصة" التي تعتبر الخليفة في الإسلام ذاك الرجل الحاكم (وليس المرأة) الذي يحكم بما أنزل الله من خلال الجمع ما بين الاستبداد والعدل (الخليفة مستبد عادل غير ظالم كما هو الشأن بالنسبة للخليفة الراشدي عمر بن الخطاب)، حيث يكون الناس (العامة) في وضعية خضوع دائم مصالحهم مرتبطة بمنطق حكم الخليفة وحاشيته. ما يثير الشك أكثر في المقاصد المضمرة كون الخطابات في هذا الشأن تتعمد اليوم الحديث عن الديمقراطية وكأنها قيمة من القيم التي ميزت الممارسة السياسية في التاريخ العربي الإسلامي مجسدة بذلك روح الدين الإسلامي (إعطاء الانطباع وكأن الديمقراطية مرتبطة بالسماء). وبالمقابل، يتم على مستوى الواقع تداول المصطلح بشكل غامض وبدون التدقيق في معانيه وتاريخه وارتباطه بالأدبيات السياسية الليبرالية التي تضمن حق الأقليات والتيارات المعارضة في التأثير في مجريات المبادرات واتخاذ القرارات داخل الدولة والمجتمع، وتعطي مفهوما واسعا لمسألة الحريات والحقوق بمختلف أنواعها. أكثر من ذلك، تتعمد الخطابات السلفية الأصولية التلويح بكون "الشورى" أكثر تعبيرا عن المقاصد المرتبطة بالديمقراطية كما هو معمول بها دوليا، محاولين طمس الترابط الوثيق ما بين مصطلح "الديمقراطية" والمرجعية النهضوية الغربية. فحتى بالنسبة للجيل الثاني من السلفيين المتنورين، أمثال الطهطاوي والكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم، فمحاولاتهم "تبيئة" مصطلح "ديمقراطية" ومد الجسور ما بين المقاصد غربيا وإسلاميا، كانت تحليلاتهم وتبريراتهم يطغى عليها هاجس طمأنة "الخاصة" كون المصطلح المستورد ليس بدعة دخيلة مناوئة للقيم الإسلامية، بل أكثر من ذلك، اعتبروا الديمقراطية، الآلية السياسية المعتمدة في الحكم غربيا، مجرد مصطلح مستنبط من المقاصد الدينية لكلمة "شورى" متناسين أن الشورى، كما عاشها السلف، كانت مجرد استشارة لأهل الحل والعقد من الفقهاء والعلماء وأكابر القوم يقوم بها الخليفة قبل الإقدام على أي مبادرة أو اتخاذ أي قرار. يقوم بذلك (الخليفة) بدون أن تكون الاستشارة ملزمة له حيث تعود له الصلاحية الكاملة في الأخير لاتخاذ القرار الذي يراه مناسبا. إضافة إلى ذلك، لم تتم الإشارة لا على مستوى النص ولا على مستوى الممارسة التاريخية للمعايير المعتمدة لتحديد عدد وهوية وصفات أهل الشورى (من هم أهل لأن يؤخذ برأيهم) ولا كيفية اختيارهم. خلاصة: من خلال التأمل في مجريات التاريخ العربي الإسلامي وفي ما نعيشه اليوم من أوضاع سياسية جديدة عربيا ومغاربيا، يتضح أن من يسمح لنفسه اختيار سبيل استغلال "التمظهرات" الدينية على مستوى الشكل والخطاب، مستغلا بذلك المعتقدات السائدة في المجتمع ببدعها ومظاهرها الأسطورية والميتافيزيقية البعيدة كل البعد على الروح والمقاصد الحقيقية للدين الإسلامي، يكون الطريق أمامه سهلا ل"حرق" المراحل للتموقع في أحد الشبكات المصلحية الأنانية المعروفة. فالوضع المادي والسياسي والاعتباري لأغلب رواد الفكر السلفي الأصولي ورواد الخطابات التقليدية بالمغرب جد مريح ولا يمكن مقارنته مع وضع رواد الفكر الجاد والعلوم الدقيقة المختلفة وأهل الفن والإبداع الملتزمين بقضايا الوطن والمواطنين (فلاسفة، فيزيائيون، علماء الرياضيات وعلم الاجتماع، السينمائيون، الفنانون التشكيليون،....). فالمرحوم محمد عابد الجابري، المفكر الكبير صاحب المشروع النهضوي العربي الإسلامي الذي ترجم إلى كل اللغات تقريبا، أعلن قبل وفاته عدم قدرته المادية حتى على طبع أحد أعداد مجلة "فكر ونقد". وعليه، نعتقد في هذا الباب، وكما سبق أن أشرنا إلى ذلك، أن تحرير الأجيال الصاعدة من المعتقدات الواهية عبر الإيمان بالعقل والحرية يتطلب اليوم، إضافة إلى تمكين مؤسسة إمارة المؤمنين من أن تكون الناطق الرسمي الوحيد باسم الدين والمحافظة الوحيدة على الأمن الروحي للمغاربة، إلى تقوية جبهة المفكرين والمثقفين والعلماء المتنورين بالشكل الذي يجعلها قادرة على ابتكار الآليات لتحويل الصراع الثقافي والنقاش بشأن المشروع النهضوي الديمقراطي الحداثي إلى المجتمع (مشروع الفقيد الجابري كنموذج يحتاج إلى مجهودات مستمرة لتحليله وتحيينه وترسيخه مجتمعيا). فتحويل الصراع الثقافي والسياسي إلى المجتمع بفضل المقاوم عبد الرحمان اليوسفي وحكومته بعدما كان بين الدولة المخزنية والمجتمع، يحتاج اليوم إلى جبهة حداثية تأخذ المشعل لكي يتجنب مجتمعنا تهديدات الرجوع إلى الوراء بظلماته واستبداده. فعكس الإسلاميين، الاشتراكيون الديمقراطيون، بتشبثهم بالدفاع على البيئة والعدالة الاجتماعية وتوازن المصالح ما بين الرأسمال والطبقة الشغيلة، يشكلون، بعد الإعلان على النظام العالمي الجديد، السلطة المضادة الوحيدة المناوئة لاستفحال الجشع في العلاقات الاقتصادية الدولية التي يسيطر عليها منطق الشركات العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات (الحفاظ على البيئة وتحقيق العدالة الاجتماعية في إطار ما يسمى بالتنمية المستدامة مكلف جدا). وعليه، فالتحالف الغربي (الأمريكي الإسرائيلي على الخصوص) غير المباشر مع الحركات الإسلامية ليس في عمقه تحالفا إيديولوجيا دائما بقدر ما هو في غالب الأمر تحالف ظرفي أملته اعتبارات ضرورة الحفاظ على مصالح الغرب الاقتصادية وتوسيعها. بالنسبة لنا، نحن المغاربة المسلمون في غالبيتهم، نحتاج اليوم إلى دعم مؤسساتي وقانوني ومجتمعي للحد من استغلال الدين من أجل تحقيق المصالح الذاتية الضيقة على حساب مستقبل الديمقراطية الحقة. فما يقع منذ مدة داخل جماعة العدل والإحسان وما يميز حركة السلفيين يستدعي التأمل والانتباه والاستعداد للمفاجئات في الحياة السياسية المغربية.