أنتج عباس كيارستمي أعماًلا سينمائية بروح شعرية، وأعمالًا شعرية برؤية سينمائية كما كان شاعرًا في السينما، كذلك فإنّ عباس كيارستمي (1940-2016) سينمائي في الشعر. يقول أحمد كريمي-هاكاك إن أحد أبرز ملامح أسلوب سيناريو كيارستمي هو أنه قادر على التقاط جوهر الشعر الفارسي وخلق الصور الشعرية في المشهد من أفلامه. ومن المعروف أنه في العديد من أفلامه كان يصرّ عباس كيارستمي على الحضور المباشر للشعر الفارسي الكلاسيكي، من أجل تسليط الضوء على الرابط الفني والاتصال الحميم بين السينما والشعر. تلك الثنائية التي طالما تلبّست صاحب «ذئب متربص». في ديوانه «ريح وأوراق» (منشورات المتوسط، 2017) الذي يضم 352 قصيدة هايكو، يواصل عباس كيارستمي ترسيخ رؤيته للشعر في لغة هادئة، متقشفة، فلسفية، بصرية، تذهب نحو سؤال الوجود، واستنطاق الطبيعة، والحفر في اللحظات الذاتية العميقة. الكتاب الذي ترجمه العراقي محمد الأمين الكرخي، يأتي ليكمل صورة عباس كيارستمي الشاعر، بعد أن سبق وأطلّ على القارئ العربي في ترجمة سابقة لديوانه «ذئب متربص» (ترجمة ماهر جمو). الكتابان الشعريان يقدمان الملامح النهائية للشاعر الذي فيه، فحيث تقوم قصيدته على شكل الهايكو، الموجز والمكثف، إلا أنه تصر على أن تدفع القارئ إلى علاقة فعّالة مع القصيدة، الحافلة بالأسئلة، بحيث تخترق وعيه. عباس كيارستمي، صاحب فيلم «طعم الكرز» (السعفة الذهبية في مهرجان كان 1997)، الذي يبدو أنه يؤسس للهايكو الفارسي، يركز على الجوهر في الحالة الإنسان: الحب واليأس والفكاهة والموت، في نصّ بسيط ظاهريًا، لكنها بساطة مخادعة، حيث إنه يخفي آثار الاشتغال الكبير، ليصل إلى هذه الصيغة من البساطة التي ترغم القارئ على إعادة القراءة المرة تلو المرة. اللافت أن تقنية الاختزال، والإصرار على قطعة شعرية تعادل مشهدًا سينمائيًا إنما هو نوع من التعويض عن المونتاج في الفيلم، بينما يأتي اعتماد الصورة كخيار للكتابة كتابة نوعًا من استبدال الكاميرا باللغة. يذكر أن عباس كيارستمي مخرج سينمائي إيراني عالمي، وهو أيضًا شاعر وكاتب سيناريو ومنتج أفلام ومصور. عمل في مجال صناعة الأفلام منذ عام 1970 وحقق نجاحًا كبيرًا ولفت انتباه النقاد لأفلامه. يُعتبر من مخرجي تيار الموجة الإيرانية الجديدة التي اتسمت بتوظيف المحادثات الشعرية، ورواية القصص التمثيلية المتعلقة بمواضيع ذات صلة بالحياة اليومية. حرص عباس كيارستمي دائماً على مواصلة التجريب بغض النظر عن نتائجه وتأثيره. هذه السمة ستكون ملازمة لكيارستمي في حقول إبداعية أخرى وفي مقدمتها الشعر حيث رفد المكتبة الفارسية بثلاث مجاميع شعرية، منها هذه المجموعة الشعرية التي كانت الأخيرة في مشواره الشعري.