من المعلوم أن الدرس الفلسفي في المغرب راكم تجربة فريدة ومتميزة، قياسا إلى عالم عربي تجمع خاصته قبل عامته، على التوجس من الفلسفة ومن علومها، ناهيك عن التشدد في رفض تدريسها للناشئة... وهذا التجني، كان للمغاربة منه نصيب وافر في الماضي القريب، عندما أصابت عدوى كراهية الفلسفة هوى في قلوب أولي العزم إلى حين من الدهر، قبل أن يتبيَّنوا أن مغرب المواطنة الذي نراهن عليه على قدم وساق لا يستقيم عماده بدون الحق في الفلسفة والتفلسف، ودون قيم التواصل والاختلاف، التي هي أس الفلسفة اليوم. ربما هي روح ابن رشد تُبقي على صلتنا نحن المغاربة بالكوني، عبر سلوك مدارج القول العادل، في بيئة فكرية مؤسَّسة على البيان وذات طموحات عرفانية في الطرف الأقصى، لذلك لا يستقيم الحديث عن هذا الدرس دون النظر بعين الرضا إلى خطوات إقرار الفلسفة، فكرا ومنهاجا وتربية في عمق رهانات مجتمعنا المغربي المعاصر، حرصا على مواطنة متعلمّينا، وصونا لقيم التواصل والتسامح والتعايش، في مغرب فريد تاريخا وجغرافية.. وبعد هذا، فليكن اختلافنا على طرق تدريسها كيفما كان.. إلا أنه سيكون، حتما، اختلاف عشاق، وتكون الفلسفة هي وسيلة العشق وغايته... غير أن هناك إشكالات تواجهنا كمغاربة، اليوم، تجعل اختلافاتنا حول تدريس الفلسفة مجرد تجزية وقت لا أكثر، تلك المتعلقة باستشراء قيم التعصب، والتي تدفع أغلب مغاربة اليوم إلى التّكتُّل في هويات جديدة محكَمة الإغلاق، تجعلهم ينقلبون، بشكل قطيعي، على قيم التعايش والتسامح والاختلاف وإحلال قيم تعصبية هي في الغالب معتقدات تتعلق بما هو جدير بالرغبة والتفضيل، دون نقد أو مساءلة ذاتيين. ونذكر هنا، على سبيل المثال، يقظة شيطان الانتماءات الجهوية، والذي يتخذ أشكالا سياسية وثقافية ورياضية من السهل رصدها.. هكذا، يشهد المغرب الشعبي، منذ ما يناهز العقد، تحولات قيمية أساسية مسّت، بالخصوص، قيم التسامح والتعايش والاختلاف والروح الرياضية، لتترك مكانها لقيم تعصبية لهويات وعصب جديدة، أصبحت تطرح إشكالات مجتمعية جدية، خصوصا على المستوى الأمن الاجتماعي، وهي قيم تختلف مجالاتها من الدين والسياسة، مرورا بالجامعة والمدرسة، وصولا إلى الجنس والرياضة، لتتناسل بنية من المواقف الصارمة المولدة لأشكال غير متسامحة في التعامل مع المخالف، مواقف يلعب الوهم والتوهم دورا حاسما في تشكيل اتجاهاتها النفسية. وإذا توجّب علينا النظر إلى السلوك المتعصب في مغرب اليوم باعتباره تحديا كبيرا، فإن هذا يفرض علينا مقاربته وتحليله من خلال العوامل التي تدفع الفرد إلى السلوك المتعصب، عوامل غير متعلقة بطبيعة جماعة الانتماء في ذاتها، كما يُقدَّم سطحيا، بل متعلقة باستعدادات ذهنية ونفسية وقيمية ومعرفية تمارس تأثيرا توجيهيا للفرد، وهذا ما يجعل دراسة التعصب أقربَ إلى مفاهيم الفلسفة والعلوم الإنسانية، ولا أدل على هذا من أن المبررات العقلية والواقعية التي يسوقها فرد ما عن جماعة يتعصب لها، غالبا ما تكون سمات متصلبة غير قابلة للنقاش، مع أن دلائل خطئها بينة، فيلجأ إلى التبرير، التعميم، التبسيط، الاختزال و التنميط، لرفع تناقضات جماعة الانتماء، ويلجأ، بالمقابل، إلى شخصنة نقده للجماعة المخالفة لإظهار تناقضاتها، والأهم هو تقديم العمليتين في قالب انفعالي صارم. إن استشراء قيم التعصب في المجتمع المغربي، في اعتقادي، هو نتيجة طبيعية للتضييق الذي مورس على الفلسفة في العقود الماضية وعملية إدراجها في المدرسة العمومية، في العقد الأخير، خطوة في الاتجاه السليم. ولأن الأمر يتعلق بأفكار واتجاهات نفسية، كما أشرنا، فإن قطف نتائج هذه العملية يحتاج مدة طويلة وعملا جبارا من طرف هيآت التدريس والتأطير التربوي، خصوصا على المستويين المعرفي والبيداغوجي، مهما كان موقفنا من البيداغوجيا، فبذرة التفكير الحر والنقد والاختلاف، والتي تعتبر الفلسفة مشتلا طبيعيا لها، تحتاج مدة كي تنمو وتزهر ويحين موعد قطافها، فما يعيشه الإنسان الحديث من ديمقراطية وحرية و احترام لآدميته ورأيه هو نتيجة عمل امتد لقرن على الأقل، مما يعني أن ما يزرعه أستاذ الفلسفة، من خلال درسه الفلسفي وسلوكه المتنور في أذهان تلامذته، يعتبر في حد ذاته، مبشرا بمغرب يتعايش فيه البشر، بغض النظر عن وضعهم البشري القبلي. إن من حسنات عشرية الإصلاح في المغرب إعادة الاعتبار للفلسفة في المدرسة العمومية، من خلال تعميمها على كل شُعَب ومسالك ومستويات التعليم الثانوي التأهيلي، بالإضافة إلى فتح شُعَب لها في أغلب الجامعات المغربية، وفق رؤيا حديثة مفادها أن الرهان على تعليم يستجيب لحاجيات المحيط السوسيو اقتصادي لا يتم فقط من خلال تكييف المواد الدراسية وطرائق التدريس وإيقاعات الحياة المدرسية والجامعية مع الحاجيات التقنية، بل أيضا من خلال ترسيخ قيم التعايش والمواطنة وحقوق الإنسان، ثقافة وسلوكا، خصوصا أن صدمة «61 ماي» وما بعدها من أحداث إرهابية أظهرت أن إرهابيي اليوم لا تُعوزهم الخبرات التقنية، والتي توظف لأجندات منافية لكل قيم الحياة، فأن يكون رهاننا على المهندس والتقني والعامل الماهر منسجما مع رهانات المجتمع على المستوى السياسي والحقوقي والثقافي، فإنه ينبغي للفلسفة أن تكون جزءا من تكوين هؤلاء.. وهذه خطوة في الاتجاه السليم لتحصين مجالنا العمومي من قِيم تُهدِّده في وجوده.