يتحدد جوهر «الدستورانية» في تقييد سلطة الحاكمين، هذا التقييد له مبرراته ووسائله، فالدستورانية تبرر تقييدها سلطة الحاكمين انطلاقا من اعتماد المشروعية الديمقراطية، ويشكل نقد نظريات المشروعية الأوتوقراطية مدخل هذا الاعتماد. يقصد بنظريات المشروعية الأتوقراطية ( الاستبدادية)، تلك النظريات التي حاولت تبرير السلطة المطلقة للحاكمين، ويمكن تقسيم هذه النظريات إلى نوعين : نظريات مستمدة من خارج المجتمع وأخرى مستمدة من داخله. هناك ثلاث نظريات ثيوقراطية (دينية): نظرية تأليه الحاكم ونظرية الحق الإلهي المباشر ونظرية العناية الإلهية. تعتبر مشروعية السلطة وفق نظرية تأليه الحاكم مشروعية إلهية، فالحاكم هو إله ابن إله، وبالتالي فان سلطة هذا الحاكم، الإله هي سلطة مطلقة لا ينبغي للمحكومين الوقوف في وجهها أو الاعتراض عليها، فهم ملزمون بواجب الطاعة، وهذه الطاعة ليست سياسية بل هي طاعة دينية، ذلك أن «المجال السياسي» في منطق هذه النظرية لا زال لم يولد بعد، وقد مورست هذه النظرية في مصر الفرعونية بشكل أساسي. تشترك نظرية الحق الإلهي المباشر مع النظرية الأولى في كون مشروعية السلطة هي مشروعية إلهية، ذلك أن الله يصطفي من يحكم الناس مباشرة، فالله يفوض الملوك حق حكم الشعوب التي يقودونها، وبالتالي فإن سلطتهم هي جزء من سلطة الله. وهذا الواقع يرتب على الرعية طاعة من يحكمها، إضافة إلى أن الملوك غير مسؤولين أمامها، وإنما أمام الله. سادت نظرية الحق الإلهي المباشر خلال القرنين 17 و18 خاصة في فرنسا، فقد كان «بوسيي» من منظريها في كتابه « السياسة مستقاة من الكتاب المقدس»، حيث عاش في ظل حكم لويس 14 وكان مربيا لولي عهده لويس 15 ما بين سنتي 16701679، فألهمهما أسس هذه النظرية، كتب لويس 14 في مذكرته: «إن سلطة الملوك مستمدة تفويض الخالق، فالله مصدرها وليس الشعب، وهم (الملوك) مسؤولون أمام الله وحده عن كيفية استخدامها». وورد في مقدمة قانون أصدره لويس 15 سنة 1770: «إننا لم نتلق تاجنا إلا من الله، فحق وضع القوانين يعود لنا وحدنا بدون مشورة أو إشراك أحد». هناك اختلاف حول أصول نظرية الحق الإلهي المباشر، فمن الباحثين من يعود بها إلى المسيحية حيث تجسد نوعا من التصالح بين الملوك ورجال الكنيسة، بمقتضاه يمارس رجال الدين شعائرهم بكامل الحرية في حين يمارس الملوك سلطتهم بتأييد من الكنيسة، ويتدعم هذا التوجه ارتكازا على دعوة بعض البابوات للأخذ بها. وهناك من يرجعها إلى العهد البابلي زمن «حمو رابي» (17501792 ق.م)، في حين أكد البعض أنها تعود إلى زمن (موسى) حيث حكم العبرانيين بمقتضى تفويض الهي للسلطة. و رغم الاختلاف في تحديد الأصول، فقد سطر «بوسيي» خمس خاصيات تميز الملكية المطلقة القائمة على نظرية الحق الإلهي المباشر، وراثية: تنتقل من ذكر إلى ذكر ويتم استثناء الأنثى، ومقدسة: لأن الملك يمثل الجلالة الإلهية ومطلقة: لأن الملك ليس مسؤولا أمام الشعب وأبوية: لأن الملك يعتبر أب الشعب ما دام انه يقوم مقام الله، وخاضعة للعقل: لأن الملك يتطلب فيه معرفة القانون والأعمال وآداب السلطة. إن نظرية الحق الإلهي المباشر قد استند إليها لتبرير مشروعية السلطة المطلقة في فرنسا خلال القرنين 17 و18، وفي انجلترا خلال القرن 17 وفي روسيا القيصرية إلى حدود سنة 1917، وفي ألمانيا حيث كان الإمبراطور غليوم الثاني من معتنقيها إلى أن لحقته الهزيمة خلال الحرب العالمية الأولى. تعتبر نظرية العناية الإلهية تخفيفا من وطأة نظرية الحق الإلهي المباشر. بمقتضى هذه النظرية، فإن الله لا يختار الحاكم بشكل مباشر وإنما يرتب ظروفا بتوجيه منه لتختار الجماعة من يحكمها. هناك صيغتان لنظرية العناية الإلهية: الصيغة الأولى تتمثل في كون الله يرتب الأحداث بشكل تتوجه فيه إرادة الأفراد إلى اختيار الحاكم، فهذا الاختيار لا يعكس إرادة الشعب، وإنما هو تعبير عن إرادة الله بطريقة غير مباشرة، وتترتب عن هذه الصيغة أن مشروعية السلطة مستمدة من العناية الإلهية، وبالتالي لا ينبغي مساءلة الحاكم من قبل الشعب والصيغة الثانية تتجلى في كون الحاكم قد تلقى سلطته من «البابا»، ذلك أن الله قد ائتمن الكنيسة على السلطتين الزمنية والدينية، وباعتبار البابا نائبا عن الله، فقد احتفظ بالسلطة الدينية لنفسه، ومنح السلطة الزمنية للحاكم. ورغم اختلاف الصيغ، فان نظرية العناية الإلهية قد استخدمت لتبرير السلطة المطلقة، ونذكر على سبيل المثال استخدامها من قبل «أدولف هتلر» في خطاب له بتاريخ 28 ابريل 1939 والجنرال فرانكو سنة 1947 في اسبانيا. ليست النظريات المستمدة من خارج المجتمع والمتعارف عليها باسم النظريات الثيوقراطية أو الدينية فقط هي التي تبرر السلطة المطلقة للحاكمين، بل هناك أيضا نظريات مستمدة من داخل المجتمع قدمت هذا التبرير، ونقصد بها تلك النظريات التي بررت السلطة المطلقة انطلاقا من اعتبارات «تاريخية»، ويمكن إجمالها في ثلاث نظريات: نظرية التقادم المكسب ونظرية التقاليد ونظرية «هوبز» في العقد الاجتماعي. يتبع...