إذا كان عمل المؤرخ يقتصر على سرد الأحداث الكبرى، فإن عمل الروائي يتجاوز ذلك إلى البحث في الأحداث الهامشية الصغيرة والتفاصيل التي يغفلّها المؤرخ، لأنه لا يحتاج إليها. وإذا جاز استعمال نوع من الاستعارة، فإن المؤرخ حين يكتب عن السفن الحربية ونشاط القراصنة فوق البحر، يكتب الروائي عن الحيتان الصغيرة تحت السطح وكيف تتفاعل مع تحرك السفن في الأعلى. هذه المقارنة تصلح مدخلا للكلام عن رواية كينيزي موراد «De la part de la princesse morte». فقد كُتِب الشيء الكثير عن سقوط الإمبراطورية العثمانية، بجميع اللغات، ونُقِل إليها قسط كبير مما كُتِب بغير العربية، ولكن المعالجة الروائية تظل مدخلا مُهمّاً يساعد على قراءة تلك المرحلة. أثارت الرواية جدلا واسعا وجلبت العديد من القراء وتُرجِمت إلى عشرات اللغات، لأنها تعالج قضية قرأ عنها الغربيون ما كُتِب لهم عنها بطريقة موجَّهة، فالغرب هو صاحب تسمية «الرجل المريض»، التي أُطلِقت على الإمبراطورية العثمانية، وهي تسمية أطلقت في وقت دقيق كانت جميع القوى الغربية تتسابق عل تركيا لكي تأخذ «حصتها». لعب ذلك الاسم دورا دعائيا أولا، لأنه كان موجَّهاً لإقناع العرب بأن المظلة العثمانية على وشك الانهيار وبأن عليهم أن يضعوا أيديهم في أيدي دول الغرب لإنقاذ أنفسهم. وقد خُدِع العرب كما بات معروفا اليوم، وقصة الشريف حسين، أمير مكة ولورانس العرب معروفة للجميع، فقد خُدع الأمير لأن بريطانيا لم تفِ بالوعد الذي أعطتْه إياه بتنصيبه ملكا على دولة عربية متحدة رسمها في خياله ووجد، في الأخير، أنه حارب إلى جانب الأوربيين لطرد العثمانيين من الحجاز، ونجد ولكنه لم يكسب شيئا. حارب لكي يرجع إلى البيت وتأكل بريطانيا «الغلة».. والغريب أن حركة الشريف حسين ضد العثمانيين سُميّت «الثورة العربية الكبرى» عام 6191، أثناء الحرب العالمية الأولى، أي في نفس السنة التي وقعت فيها اتفاقية «سايكس بيكو»، الشهيرة بين فرنسا وبريطانيا من أجل تقاسم النفوذ في المشرق العربي. كانت بريطانيا وفرنسا تحثان العرب على القتال ضد العثمانيين لكي يتم عزلهم في النهاية والانفراد بهم، وهذا ما وقع، ولنا أن نتصور كيف أن تاريخ العرب الحديث مزور إلى أقصى حد، كأن الذي كتبه هم الغربيون، وهنا يمكننا التساؤل: هل هذا تاريخ حقيقي أم رواية كاذبة؟... رغم أن المؤلفة لا تسعى إلى إعادة كتابة تاريخ تلك المرحلة، فإنها تسقط في هذا الأمر بطريقة غير مباشرة لدى مصادفتها الأحداث السياسية في الطريق، وهي تروي قصتها. فالكاتبة الفرنسية تنتمي إلى الأسرة العثمانية التي حكمت جزءا كبيرا من العالم الإسلامي خلال قرون، وجدها الأعلى، والد جدّتها لأمها، هو السلطان مراد الخامس، الذي أسقط عن الحكم من قِبَل عبد الحميد الثاني عام 9091 وعاش تحت الإقامة الإجبارية حتى وفاته عام 8191، بينما بقيت أسرته الصغيرة، أي جَدّة الكاتبة ووالدتها التي كانت آنذاك في مرحلة الطفولة، تحت الإقامة الإجبارية إلى عام 2291، تاريخ مغادرة السلطان وحيد الدين محمد بن عبد المجيد، المعروف بالسلطان محمد السادس، تركيا إلى سويسرا.