في عام ألف وثمانمائة وواحد وعشرين، قرر محمد علي باشا، حاكم مصر في ذلك الوقت، توسيع نفوذه جنوبا بضم بلاد السودان إلى المملكة المصرية، وبالفعل سارت جيوش الباشا ولم تتوقف إلا في «نمولي» لتشكل واحدة من أكبر الممالك في ذلك الوقت. ولم تكن رؤية محمد علي توسعية، بل كان يعتقد أن أمن مصر وأمن السودان يتركزان على حماية مصادر المياه. وكانت مصر في ذلك الوقت هي القادرة على أن تحرك جيوشا كبيرة لتحقيق ذلك الهدف. وبالفعل، استطاع محمد علي باشا أن يحقق هدفه، وخرج بذلك السودان إلى الوجود ككيان يمكن أن تؤسس عليه دولة مستقبلية. لكن حكم محمد علي باشا لم يحقق شعبية في السودان، إذ كان المواطنون في الجنوب ينظرون إليه على أنه حكم يتمتع بالقسوة. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن السودانيون يطلقون على ذلك الحكم اسم الحكم المصري، بل كانوا يطلقون عليه اسم الحكم التركي الذي استمر حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما اندلعت الثورة المهدية، وذلك لتحرير السودان من هيمنة الحكم التركي. وعلى الرغم من المراسلات التي كانت تتم بين الإمام المهدي والجنرال غوردون، حاكم السودان في ذلك الوقت، فإن الأنصار تمكنوا من قتل غوردون باشا على غير رغبة من الإمام المهدي الذي كان يريد أن يفدي به عرابي، مما يؤكد تقدير المهدي لمصر في ذلك الوقت. لكن مقتل غوردون كان باعثا على غضب بريطاني، وهو ما جعل البريطانيين بمساعدة المصريين يعودون مرة أخرى لفتح السودان في عام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين وإقامة ما عرف في ذلك الوقت بالحكم الثنائي، أي الحكم المصري الإنجليزي، على الرغم من أن المصريين لم يكن لهم أي نفوذ خلال فترة ذلك الحكم الذي استمر نحو ستين عاما، لم تظهر خلالها أي عداوة بين المصريين والسودانيين، بل على العكس من ذلك تطلع كثير من السودانيين في ذلك الوقت إلى إقامة اتحاد بين مصر والسودان تحت شعار وحدة وادي النيل، بل إن الحركة الوطنية التي أسسها الحزب الوطني الاتحادي بقيادة الزعيم إسماعيل الأزهري كانت تهدف أساسا إلى قيام دولة الوحدة تحت التاج المصري. وقد نجحت هذه الحركة في أول انتخابات جرت في السودان قبل الاستقلال في الحصول على أغلبية النواب في البرلمان السوداني. لكن بعض الأحداث بعد قيام الثورة المصرية في عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين جعلت الكثيرين من السودانيين ينصرفون عن الفكرة ويركزون على فكرة الاستقلال، وهي الفكرة التي وجد فيها كثير من الزعماء السودانيين وسيلة يحققون بها نفوذهم وطموحاتهم السياسية دون اعتبار لما سيلحقه ذلك من أضرار كان محمد علي باشا قد رآها برؤية ثاقبة قبل قرن ونصف القرن من الزمان. ولا شك أن الاستقرار الذي عاش فيه السودان بعد الاستقلال مباشرة أعطى انطباعا خادعا بأن السودان بلد يتميز بإمكانات كبيرة واستقرار نسبي ولن يواجه مشكلات في المستقبل. وعلى الرغم من ذلك فإن المصريين لم يحاولوا في هذه المرحلة تطوير نظرية يحققون بها مصالحهم في السودان ويحافظون بها في الوقت نفسه على مصالح الشعب السوداني، بل ظل المصريون يعتقدون دائما أنهم قادرون على تقديم المساعدة إلى السودان دون أن يتنبهوا إلى الواقع الاستراتيجي الذي يحتم أن يكون هناك تعاون من نوع خاص بين مصر والسودان. ولا شك أن السودان وقف في أول أمره داعما لثورة يوليوز عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين، ولكن بعد المصير الذي واجهه محمد نجيب، ذو الأصول السودانية والذي قاد الثورة، تغيرت المشاعر في السودان وانصرف الكثيرون عن تأييد الثورة المصرية ولم يهتم الرئيس جمال عبد الناصر في مرحلة لاحقة بذلك وبدأ يعمق اتجاهاته في زعامة العالم العربي دون إدراك لتأثير ذلك على العلاقات المصرية السودانية. ووصل الأمر بالرئيس جمال عبد الناصر إلى إقامة السد العالي الذي هجر مشروعه أهالي النوبة من مواقعهم بين مصر والسودان ليقيموا في مناطق لا يؤدون فيها دورهم التقليدي، سواء كان ذلك في داخل مصر أو في داخل السودان. ولم يتنبه الرئيس جمال عبد الناصر في تلك المرحلة إلى أن مشروع المياه ليس مجرد قرار سياسي، بل هو في حقيقته قرار يتطلب رؤية استراتيجية مستقبلية لكون مصر والسودان لا تتحكمان في المصادر. وبدأت المشكلات مع حركة التمرد في جنوب السودان، وهي الحركة التي لم يتنبه المسؤولون في مصر والسودان إلى أهدافها السياسية الكبرى، وهي أهداف لا تتعلق فقط بتوزيع المياه، بل تتجاوز ذلك إلى استراتيجية متكاملة تستهدف التأثير على قدرة البلدين على أن يكونا كيانا سياسيا قويا، وتقف وراء هذه الاستراتيجية كل من الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وظهرت معالم هذه الاستراتيجية في انفصال جنوب السودان الذي بدأ الآن يشكل خطرا على وحدة السودان؛ ذلك أن الحركة الشعبية لم تكتف بما حققته من انفصال، بل بدأت تفكر في إثارة نزاعات إقليمية كما هو الشأن في النيل الأزرق ودارفور وجنوب كردفان وغيرها من مناطق السودان. وعلى الرغم من ذلك لم تتنبه مصر إلى الأخطار التي تحيق بها جراء هذه التطورات، بل ظلت تفكر بالأسلوب القديم نفسه الذي ترى فيه أنها هي القادرة على المساعدة وتقديم الحلول، دون أن تدرك أنها هي المستهدفة وليس فقط السودان، لكون السودان -في أسوأ الظروف- سيعيش أهله فوق أرضهم، وربما لن يتأثروا كثيرا، ولكن الذي سيتأثر هو مصر التي ستفقد مصادرها المائية المهمة ولن تكون قادرة على حماية أمنها المائي دون تطوير استراتيجية تكاملية مع شمال السودان ربما تعيد من جديد فكرة وحدة وادي النيل. وليس من الضروري أن تكون مثل هذه الوحدة وحدة سياسية، إذ يكفي أن تكون وحدة استراتيجية تستند إلى أهداف عميقة، وذلك ما لا تفكر فيه مصر في الوقت الحاضر؛ ذلك أنه بعد ثورة الربيع العربي في مصر، بدأت حكومتها تفكر في نوع من التعاون مع ليبيا وتونس دون أن يتجه نظرها جنوبا. ولا نقلل هنا من أهمية التعاون مع هذه الدول، ولكن سلم الأولويات يحتم أن يكون هناك نوع من التعاون بين مصر والسودان قبل أن تنصرف مصر إلى أي مجال آخر وإلا كررت أخطاء الماضي نفسها، وهنا يجب أن نؤكد أن الأمر لا يتعلق بمصر وحدها بل يتعلق بالسودان أيضا لأنه إذا كانت هناك بعض الظروف السياسية التي لعبت دورها في تأزيم العلاقات بين مصر والسودان، فإن الأمر تغير الآن ولم تعد مصر هي وحدها التي تواجه المشكلات، لأن السودان أيضا يواجه مؤامرات مختلفة من أجل القضاء على وحدته الجغرافية التي أدرك محمد علي باشا، في وقت مبكر، أهميتها للحياة في وادي النيل. وهنا، لا بد أن نشير إلى أن التعاون بين مصر والسودان ليس مجرد تعاون تقليدي بين دولتين بل هو تعاون مهم من أجل انتظام دورة الحياة في وادي النيل. ويخيل إلي في هذه المرحلة أنه من الضروري أن يبدأ المثقفون السودانيون والمصريون حوارات ودراسات جدية من أجل تبين المواقف والعلاقات بين مصر والسودان والطرق المثلى لتحقيق المصالح المشتركة، وأن يقلع الكثيرون عن الفكر التقليدي الذي لا ينظر إلى الحياة في وادي النيل إلا من منظور السيطرة على المقدرات، وهذه نظرة ضيقة لأن الأمر في واقعه الراهن لا يتعلق بالسيطرة بقدر تعلقه بتحقيق المصالح المشتركة بين البلدين، خاصة مع وجود جهات أجنبية ترى أن من مصلحتها أن يبقى الوضع متوترا في وادي النيل. وهنا لا بد أن تحاول كثير من الجهات الجهوية أن تطور نظرتها في كيفية تحقيق مصالحها، لأن الثورات الإقليمية ليست هي الأسلوب الأمثل لتحقيق المصالح مع وجود خيارات أخرى أكثر نجاعة وفائدة.