على الرغم من اشتراكهما في الخلفية الإيديولوجية التي تمتح من المرجعية الإسلامية، فإن عبد السلام ياسين، زعيم جماعة العدل والإحسان، وأحمد الريسوني، زعيم حركة التوحيد والإصلاح السابق ومنظرها الحالي، يختلفان من حيث الموقف من الديمقراطية والرؤية التي تميزهما. أ- موقف عبد السلام ياسين الرمادي من الديمقراطية: إن الدارس لمتن زعيم جماعة العدل والإحسان لا يمكن إلا أن يحتار في موقفه من الديمقراطية، إذ تجده تارة يرحب بها وتجده تارة أخرى ينتقدها ويفضل عنها الشورى؛ فهو لا يرفض الديمقراطية، بل يدعو إلى مبادئها المتمثلة في التعدد الحزبي، ولو كان ذلك في انتظار قومته التي وعد بها في منهاجه؛ بل حاول البرهنة على محاسن الديمقراطية عقليا بالقول «من المسلمين من يقول إن الديمقراطية غنيمة ومكسب للإنسان، هي المخرج لا غير، وهي أخت الشورى الإسلامية ورديفتها وجنسها... ومن الإسلاميين من يصرح بأن الديمقراطية كفر... ليست الديمقراطية نقيض الكفر، وإنما هي نقيض الاستبداد، فإن وقف علمنا عند معادلة ديمقراطية=كفر، فيكون بجانبها إيمان=استبداد، وإذن فنحن مع كل مستبد يقول أنا مسلم ضد كل حر يقول أنا ديمقراط»، (ياسين، «حوار مع الفضلاء الديمقراطيين»، ص 57). الديمقراطية بالنسبة إلى عبد السلام ياسين تعني حكم الشعب واختيار الشعب والاحتكام إلى الشعب، وإن كان يعلم بأن الشعب لن يختار إلا ما يدعو إليه شرع الله. وإذا اختار الشعب غير ذلك «رجعنا على أنفسنا نتهمها بالتقصير في التعريف بما هو الحكم الإسلامي، واتخذنا وسائل تتيحها الديمقراطية النظيفة ولا يتيحها الاستبداد لكي نشرح للناس..، حتى يعرفونا على حقيقتنا ويعرفوا الديمقراطيين على حقيقتهم»، (ص 59). لكن المفارقة في فكر الشيخ ياسين -ولعلها المفارقة الحاكمة لوعي معظم مفكري الإسلام المعاصرين- أن ما يعطيه للديمقراطية بيمناه السياسية يأخذه منها بيسراه الفكرية-العقائدية، فهو إذ يتناولها -سياسيا- تناولا واقعيا منفتحا، يأتي عليها بحكم الإعدام حينما يقاربها مقاربة فكرية من داخل منظومته الشرعية. (بلقزيز، «الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر»، ص 185)، وهكذا أيضا ينتهي إلى إنتاج خطابين متعارضين حولها: خطاب مدني منفتح وخطاب ديني منغلق، مصرحا بقوله: «الدعوة إلى الديمقراطية لا تعني القفز على الشورى... وإن واجب المسلمين ألا يولوا أحدا أمرهم إلا عن شورى» (ياسين، «الشورى والديمقراطية»، ص 239). فمأخذه على الديمقراطية أنها لا تقترح على الإنسان مخرجا من الكفر؛ فالشورى غيرُ الديمقراطيةِ، إذ «الاختلاف بين شورى على قواعد القرآن وديمقراطية على قواعد عقد اجتماعي اختلاف جوهري، فالمؤمن يريد من الشورى فوزه في الدار الآخرة ومشاركته الفاعلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الديمقراطية فيريد بها مواطنة يعتز بها وحقوقا مدنية وحرية يضمنها القانون.. والفارق العظيم بينهما، هو الفارق بين المجتمع المسلم والمجتمع المدني»؛ فتغدو «الديمقراطية أخت اللادينية كما هي الشورى أخت الصلاة والزكاة». ب- الريسوني: الديمقراطية أقل أنظمة الحكم سوءا: يحاول أحمد الريسوني إعطاء صورة عن الإسلام غير متصادمة مع إنتاجات الفكر السياسي الغربي وممارساته المتعلقة بتنزيل المبدأ الديمقراطي على أرض الواقع؛ فعلى عكس الفكر الإسلامي الرافض للديمقراطية، يبرز الريسوني الجوانب المتعددة لإمكانية تلاقي «النظام الإسلامي» الذي يطمح إليه ومبادئ الديمقراطية، فالأخيرة غير مرتبطة بدين أو بيئة معينة، حيث إن الليبرالية والعلمانية ليستا من لوازم الديمقراطية «فيمكن، إذن، أن تنتقل جملة من المفاهيم ومن الأفكار ومن المبادئ الديمقراطية، دون أن ينتقل معها كل ما لازمها في دولة معينة أو في حقبة تاريخية معينة» (الريسوني، «الأمة هي الأصل»، ص 40). ربما يعود هذا الفهم إلى طبيعة الرؤية التي يراها الريسوني أصلا لمسألة الدولة، فهو لا ينظر إلى هذه الأخيرة كأسٍّ ينبني عليه الإسلام رغم أهميتها في تحصين الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، على اعتبار أن وجود الدولة والخلافة إنما هو من باب الوسائل لا من باب المقاصد، حيث نقرأ له: «لا نجد في شرع الله تعالى نصا صريحا آمرا وملزما بإقامة الدولة،... وإنما تقرر وجوب إقامة الدولة ووجوب نصب الخليفة من باب النظر المصلحي والتخريج القياسي..»؛ فهو يعترف بأن «الديمقراطية هي الطريقة المثلى للتعبير عن إرادة الشعب وتصريف إرادة الشعب». أما مبدأ الأغلبية فهو غير متصادم مع المرجعية الإسلامية، في نظر الريسوني، حيث إنه يضمن عدم التعسف... إذ إنه رغم عدم عصمة الأغلبية دائما فإنها أفضل من ترك الأمر للأقلية، («ما قل ودل»، ص 74). لكن الريسوني لم يذهب بموقفه هذا إلى أوْجِه، وإنما وضع له حدا أو توجيها كما يحب أن يسميه، على أساس أن الإسلام يختلف عن الديمقراطية على مستوى المرجعية، فإذا كانت للإسلام مرجعيته فإن الديمقراطية لا مرجعية لها إلا الديمقراطية نفسها. كما يستند الريسوني إلى واقع العلمانية في الدول العربية -رغم تمجيده للعلمانية الغربية- لكي يدعو إلى فصل العلمانية عن الدولة وليس فصل الدين عن الدولة («ما قل ودل»، ص: 70). يتضح من كل ما ألمحنا إليه سالفا أن مبدأ الشورى الذي نادى به كثير من الفكر الإسلامي شبه غائب لدى الريسوني، مما يوجب التساؤل عما إذا كان هذا الغياب جوهريا أم عرضيا؟ ف«الشورى من شؤون الجماعة برمتها، فآيات الشورى نزلت في المسلمين قبل أن تكون لهم دولة، فهي تتحدث عن جماعة المؤمنين مباشرة وأصالة، فلفظ الآية والواقع الذي تتحدث عنه يتعلقان بعموم المسلمين، وليس بدولتهم ولا برئيسهم ولا بهيئة حاكمة فيهم». من هنا، تصبح الشورى للمجتمع وليس للدولة، فهي جاءت لتنظيم حياة الناس في ما بينهم داخل الأسرة والمجتمع، وليست محصورة في شؤون الحكم. تأسيسا على ما سبق، نجد أنفسنا أمام نموذجين من التفكير في الديمقراطية لشخصين ينتميان إلى نفس الدائرة، لكنهما يختلفان من حيث الدوافع والأهداف وبالتالي النتائج، هذا من ناحية؛ وأما من ناحية ثانية، فإنه رغم التطور الواضح لدى الريسوني، في ما يخص الموقف من الديمقراطية ومحاولة تبيئته إسلاميا، إلا أنه بقي بعيدا عن الموقف الديمقراطي الذي تنادي به الكثير من الحركات الليبرالية والمدنية، على أساس أن الديمقراطية لم يكن لها البريق الذي لديها اليوم لولا منعطف الحداثة الذي أحدثته فلسفة النهضة والتي غيرت النظر إلى الإنسان من مجرد رعية إلى مواطن كامل الحقوق يتمتع بالسيادة على نفسه. وقياسا أيضا -والقول لهاني فحص- إلى «أن اللقاء التاريخي بين الإسلام والديمقراطية كمنشأ غربي ونسق حضاري مغاير هو لقاء المثل والمبادئ وتقابلات المفاهيم التي ترسم إطار الديمقراطية للدولة المدنية الحديثة والمواطنة وسيادة القانون وضمان الحريات الفردية والمشاركة السياسية». باحث في العلوم السياسية