في تفسيره لفيلمه القصير «اليد اليسرى»، قال المخرج المغربي الشاب فاضل شويكة، في برنامج «سينما بديلة» على قناة «بي بي سي» البريطانية، التي عرضت الفيلم ضمن نفس البرنامج، إن «اليد اليسرى» يعبر من حيث القيمة الرمزية عن مرحلة من تاريخ المغرب، وهي ما تعرف ب«سنوات الرصاص»، وذهب إلى أن فيلمه يتقاطع في هذا المستوى مع قصة العمل. لكن السؤال هو: هل هذه التقاطعات ملموسة ومنظورة؟ أم أن القراءة الإسقاطية تتيح هذا النوع من التأويل؟ سؤال يبدو مشروعا، انطلاقا من «البنية الحكائية» للفيلم القصير لشويكة، والذي أعاد رسم ما يواجهه الشخص الأعسر في المجتمع المغربي التقليدي من أحكام ومن تنميطات ترتبط بتمثلات اجتماعية سائدة، تنظر لمن «يتميز» بهذه الخصيصة، باعتباره «انحرافا عن الطبيعة»، ويتحول الشخص «المصاب» بلعنة «التياسر» إلى كائن شيطاني يجب الحذر منه، بل التعامل معه بقسوة من أجل رده من أهل اليمين وتصحيح انحرافه المخجل. فالأعسر الذي يستعمل يده في تناول الطعام، تأكل من صحنه الشياطين، وبالتالي يظل مفتوح الشهية ونهما ولا يشبع، وهو نذير شؤم على العائلة، وحياته تكون معرضة للهزات، كما أن حياة المحيطين به تتعرض لهبات الأحداث المروعة. الطفل الصغير، الذي يولد في عائلة «الفقيه»، الذي يشرف على كتاب قرآني تقليدي، سيكون مصيره قاسيا جدا، وستنزل به العقوبات، بدءا من مائدة الطعام إلى لوح الكتابة في المسيد، نهاية بالحدث المروع الذي سيتعرض له في مطعم في الدارالبيضاء، في التفجيرات الإرهابية التي عرفها المغرب في 2003، والتي أودت بذراعه اليمنى، مبقية على يده اليسرى، الأكثر دربة والأكثر مهارة في التعامل مع شؤون اليومي. وكأنه كان لزاما أن يفقد الطفل، الذي صار شابا، أحد أعضائه، كي يتحرر العضو الآخر. فالحرية هنا مشروطة بالتضحية وبالدم وبالثمن الباهظ. طبعا، ففاضل شويكة، قبل أن يكون مخرجا، هو بالدرجة الأولى مدير تصوير جيد، وسينمائي شاب يملك حساسية مرهفة، يبدو عليه جليا أثر المدرسة الروسية، باعتباره خريج معاهدها السينمائية. فالفيلم الذي يمتد لمسافة 21 دقيقة، لا يتضمن حوارات، لقد منح المخرج للممثلين وجودا مهيمنا، ونابت الكاميرا عن الحوار في نقل المشاعر العميقة لشخصيات الفيلم. ورغم أن زمن الفيلم لا يسمح بالحشو، ولا بتصوير خارجي إلا عند الضرورة، فقد انتقل بنا المخرج من فضاء التصوير الداخلي إلى لقطات خارجية ربما لأربع أو خمس مرات، وهذه مغامرة من فاضل شويكة كانت محسوبة بدقة، وذلك لمنح المشاهد المزيد من الواقعية السينمائية، من خلال الإيحاء بأن قصة الفيلم تدور في فضاء حقيقي غير مصنوع. لا يعدم شويكة حاسة تفجير الموقف الساخر، في تعليق سينمائي جيد منه، وذلك في الملفوظ الحواري الوحيد، أثناء مباراة الكرة، حين يطلب زملاء الطفل «استعمال العسرية» لتسجيل هدف الترجيح لفريقهم، يقول ملفوظ الحوار «ودابا ورينا هاذيك العسرية ديالك». إنها ساعة الحسم التي لا يستطيع كسبها إلا صاحب القدم اليسرى، أو بشكل عام رجل اليسار. هل هذا ما يريد شويكة الابن قوله؟ وهل هذا هو خطاب الفيلم المضمر؟ أم أن الابن ابن أبيه، يعيد السير على نفس طريق الأب في تدبيج نوستالجيا حول اليسار المغربي السبعيني؟ جسد أدوار الفيلم محمد خويي، وفاء مسعودي، رضا عباسي، لمياء جعفري، بنعيسى الجيري، رحال وأبو العلا، في قطعة فنية تستحق المشاهدة والمعاودة أيضا.