الشاعر رفعت سلام (من مواليد 1951، خِرِّيج قسم الصحافة بجامعة القاهرة)، أحد أبرز شعراء جيل السبعينيات الشعري بمصر، إلى جانب كوكبة مُضيئة من مُجايليه، مثل حلمي سالم، ومحمد إبراهيم عيد، وأمجد ريان، ومحمد آدم، وأحمد زرزور، وجمال القصاص...، وآخرين. أصدر مجموعة من الدواوين المتميزة، بدءا من (وردة الفوضى الجميلة)، (إنها تومِىء لي)، (هكذا قلتُ للهاوية)، (إلى النهار الماضي)، (كأنها نهاية الأرض)، (حجَرٌ يطفو على الماء)... إلى آخر ديوان له (هكذا تكلم الكركدن) الصادر سنة 2012. ترجم لكبار الشعراء العالميين، كبوشكين، وماياكوفسكي، وليرمينتوف، وريتسوس، وكفافي، وبودلير، ورامبو..؛ كما كتب في مجال النقد الأدبي مجموعة من الدراسات القيمة؛ وأسس وأصدر مجلة (كتابات أدبية)؛ وساهم في تأسيس مجلة (إضاءة 77). يهدر الخطاب الشعري لرفعت سلام صاخبا، مُدويا، في واقع مُتشظّ، وزمن مرعب. وهو بهذا يؤشر على تاريخيته وانغراسه في الراهن، دون القول باستنساخ هذا الراهن، مما قد يُسقط المقول الشعري في رؤية مرآوية أصبحتْ متجاوزة. تتبدّى المواجهة من خلال إنجاز الذات الشاعرة لفعل المشي في فضاء تُسيّجه الظلمة، ويميز تضاريسه التقعّر. فضاء محفوف بالمخاطر، حيث الموت يترصّد الخُطى، مما يرفع إيقاع الحركة إلى مستوى التحدي والمغامرة؛ وحيث لا تملكُ الذات إلا جرأتَها / جنونَها في التوكيد على حرية الاختلاف وشرعيته. يقول: أمشي»/على حدِّ انتصاف الليل/صاخبا/جريئا/ليل كبير /وأشجار من النحيب والعواء/أتركُ- في الوراء- غابة من الصراخ/ومصّاصي الدماء قطعانَ سُعارٍ وَعُواء في المشي على الأرض؛ في المشي في الحياة ترفع الذات براءتَها عاليا كعلامة على الاقتحام التراجيدي، والدخول إلى عالم الموت، تماما كأبطال المأساة الإغريق: برومثيوس، أورفيوس.. أو كعقول جبارة سارت وهي تُنشد نشيدها الديونيزوسي الباذخ: سقراط، أمبدوقليس، نيتشه، كلايست.. هذا الأخير الذي كان يعتبر الموت كمجرد انتقال من غرفة إلى أخرى، نظرا لِعشقه إياه، حدَّ تمنيه لأصدقائه وأقاربه (أخته أولريكه) موتا جميلا؛ ودعوتُه بعضهم للموت صحبتَه. وهو ما تحقق له فعلا رفقة إحدى رفيقاته. حيث الموت الثوري- بالمعنى الوجودي والفني للكلمة- فرح واحتفال، قد يكون أجمل وأغنى من حياة تافهة ومجذبة تخنق الكائن بأثقالها الرهيبة. يقول كلايست: «الموت الرائع هو دائما أفضل الحيوات». بهذه الرؤية النافذة لا يصبح الموت ذلك الشبح المرعب والبشع والمُهاب الجانب، بل يتم إدماجُه في الحياة ذاتها، أو هو الوجه ُ الآخرُ لها ، وبالتالي النظر إليه كحقيقة بديهية تحمل دلالات خاصة، كما هو الأمر في الديانة البوذية مثلا. يقول :وأمضي سادِرا/حتفي على كفي/ على خاصرة الأرض، أمضي/ جميلا/ كفاي فارغتان/ قلبي شاسعٌ للطعنة المفاجئة. التأهب الدائم للموت واستدعاؤه تحَدّ بطولي لعقليات الإرهاب والقتل الأعمى، حيث الظلام يُسيّج العقل والقلب، وحيث قانون الاستبداد يُعلي من نفسِه كحقيقة مطلقة، فيُلغي قيم الإبداع والحرية والاختلاف.. ويُشرِّع للتحريم والإقصاء والتصفية. 2 / - يتّشِح اليومي في الديوان بوشاح المرارة كطعم وكإحساس مُستحكِميْن في تضاعيف وتلاوين الحياة. وعليه، تبدو الذات الشاعرة في ممارستها المريرة لحيويتها الوجودية وهي تكتوي بشواظ ولهيب الواقع. يقول:حان موعدي المرير/عاريا/ أصوغ لي جهنّم الجديدة/ وقتي من حَميم لا مناص إذاً، في واقع قاتم كهذا، من الانقذاف في الهاوية كوجه آخر للجنون واللايقين، حيث الذات تبدو عارية، وكأنها تتحلّل من أثقالها البالية وتنخرط في البحث عن أشكال حياتية جديدة تتّسم بالعمق والامتلاء. يقول:كنتُ ألهو برماد الوقت، وقتا/ وأهوي في سماء من هشيم. قشة/ فقشة من الهباء/ أبْتَني عشي الوريف/ على سماء الهاوية وأهْمي: حَجرَ انطفاء/ فأهوي- في انكسار الوقت-/وقتا شائكا /ماذا يتبقّى للشاعر في سفره المُغامِر، أوديسّاه النبيل؟/لاشيء، غير مراراته المُتّشحة بالسخرية. يقول:وتُغمِضان العين/ كي أهوي/ على انتصافِ الويْل/ ضاحكا / مُضيئا. فالراهنُ الذي تمّ تسميمُه لا يتّسع له، مما يفتحُ الآتي على العزلة والغربة والاغتراب.يقول: لا آن لي/ ولي: آنٌ قتيل/ وحيدا/ خُطايَ تمضي بي إلى الغريب ويَضيقُ عنه الوجود إلى حدّ الاختناق، فلا يبقى له من مَلاذ يستأنس به إلا أشياءَه الحميمة: السيجارة، فنجان القهوة، والسيدة المُراوِدة: القصيدة؛ دون نسيان فضاء الحانة، حيث يحتفي الشاعر بالحياة.هذه الأشياء الصغيرة، في ظل الرعب والقتامة المُخيِّميْن على الذوات والأمكنة، تأخذ ممارستُها بُعدَ الاقتحام للتدليل على الحق في الاختلاف، والإقامة في أُتون الخطر(عِشوا في خطر، ابنوا مدنكم بجوار البركان) على حدّ تعبير نيتشه.يقول:طافيا/ ألهو بأشيائي الصغيرة/ أشعلُ الكبريت في الوقت الهباءوأيضا:نسيتُ فيها جسدي/ وتاريخي/ وأشيائي الصغيرة ./ هكذا: استندتُ إلى فضائي/ لملمتُ أشيائي .تتخلل صورة المرأة في ديوان رفعت سلام صورةً مُركّبة، على أكثر من مستوى، مُلتبسة، يصعب القبض عليها، إذ تُراوح بين الواقعي والأسطوري. كتجارب حياتية، في ارتباطها بصياغة ذاكرة جديدة، وكحُلم . تارة يأتي التعبير عنه بصيغة جمع التنكير غير المُتعيّن: عاريا: / أصوغ ذاكرة جديدة/ أدسُّ فيها مَن سيُقتلون في الصباح، / وما تيسّر من نساء حامضات، / وما سيسقُط في يدي من شائعات، / ؛ وتارة بصيغة المفرد الغائب. وفي كلتا الحالتين، فهي تقترن بأجواء الشبق: (تُرخي عليّ ماءَها، / وتَهْمي شهوةً مقتولة) ص24. (فتدخُلني شِراكٌ من شَبَق).وأجواء الدفء والفقد: (ثم تدخُلني- رويدا- وردةً من النعاس والجنون.)ص 31 (مَرأة ظل./ آوي إليها في القيلولة) .(هل أنتِ سيدتي القتيلة، / أم غمامٌ مارقٌ من لسعةِ الخنجر؟) .( كانتْ تُرفرفُ في فضائي:/ حقلا من الليمونِ والسَّلوى / وغيمةً من الحُلم الطفيف/ لا أذكرُ الآنَ وداعا أو دُموعا) .و أجواء المأساة :( تُبيحُنِي./ وبيننا احتِضارٌ مُرْجَأ، / بيننا عَصْفٌ وَبيل .).(سنلْتقي في الأمس، / حين ينفجرُ الفضاءُ / إلى عزاء).(هل أُسميكِ خسارتي القادمة ؟). (على هاويةٍ / يلتقيان).وأجواء التيه: (امرأةٌ تُشابهُ وردةَ التّوَهان).و أجواء النهوض: (لي في كل مَرأةٍ قيامة) ويُعمِلُ رفعت سلام إزميلَ اللغة الشعرية، لِينحتَ ببراعةٍ فائقة شكلَ امرأتِه، مُحدِّداً نتوءاتِها وأبعادِها، مازجا بين المتخيل والواقعي، في صُوَرٍ رمزية ، شفافة وآسِرة : (صوتُها العادي/ يُطلقُ في فضائي زُرقةً والِغة، / وأسرابَ سرابٍ دامِغة) (خِصرُها يَختصرُ الأرض، / ويُفضي لِسماواتٍ أُخَر/..../ لي مَرأةٌ من مَطر). (فراشة مُرتعشة / تَحُط فوق أطلالٍ من الشموس الغاربة./..../ وتَرْمِيني بِمرأةٍ من الصهيل) /(جسدٌ من لاَرَنج ). (لأصابعِها طعْمُ الصباح. ولَها ليْلٌ يَجهلُ الظلمة ). (مَرأةٌ / تَختصرُ/ سبعة آلآف سنة / منْ نِساء ).في المحصلة، مَن هي يا تُرى هذه المرأة البادخة، المُستعصِيَة، والمُؤججة لكيان الشاعر المُلتهِب ؟ أ هيَ القصيدة ؟ (ماجَتْ- هنيهة- وفَرّتْ./ وفي يدي: / رمادُها استلقى وَنامْ) .أهيَ المرحلة ؟ (ليست امرأة./ هيَ وقت:/ وقتي) .أهيَ المَحْروسَة مصر، أرض الكِنانة وما تحبَل به من مَخاضات؟ ( ذاكرَةٌ تَحتلُّ مَرأةً فادحة / مَن يُحررُها؟) أمْ هيَ كلُّ هذا ؟ مُشَكِّلةً أيقونةً مُنسجمَة ومُتكامِلة لا تخلو من فوضى. لِنَقُلْ هي جمالية الفوضى الخلاّقة التي تَليقُ بقصيدة النثر: (لَمْ تَقُلْ شيئاً، / وغابتْ في حقولِ السّهْو والفوْضَى).