سفير عمان يثمن تمسك المغرب بالسلم    مهرجان الذاكرة المشتركة بالناظور يتوج أفلاما من المغرب وبولندا وأوروبا الغربية    توقيف "مولينكس" ونقله إلى طنجة للتحقيق في ملف مرتبط بمحتوى رقمي مثير للجدل    القافلة الجهوية تقديم آليات جديدة متاحة لرواد الأعمال وأصحاب المشاريع في الجهة    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    حوالي 756 ألف مستفيد من دعم مربي الماشية توصلوا بأزيد من 3 ملايير درهم    الحاجب يستقبل محطة جديدة لمعالجة المياه العادمة بجماعة أيت نعمان    إطلاق المنصة الوطنية لرصد وفيات الأمهات والمواليد الجدد لتعزيز الجودة والحكامة في المنظومة الصحية    متابعة الرابور "بوز فلو" في حالة اعتقال وإيداعه السجن المحلي لصفرو    بوريطة يتباحث بالرباط مع نظيره الغاني    ( الحب المر)... فيلم يكشف الوجه الخفي للنرجسية داخل الأسرة المغربية    تفكيك شبكة لترويج المخدرات بطنجة وتوقيف ستة من أفرادها    "الأحرار" يصادق على تصوره للحكم الذاتي تمهيداً لرفعه إلى الملك    تتويج أشرف حكيمي بجائزة أفضل لاعب إفريقي.. إشادة واسعة من قبل وسائل الإعلام الفرنسية    بوريطة يستقبل رئيس الجمعية الوطنية لجمهورية تنزانيا المتحدة    "الأحرار" يضع مقترحات الحكم الذاتي    نبيل باها: "اللاعبون مستعدون لمواجهة البرازيل والفوز بالمباراة"    ملف إسكوبار الصحراء .. النيابة العامة تكشف اختلالات خطيرة في العقود الموثقة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بأداء سلبي    الكاف يتجاهل المدرب محمد وهبي    في مداخلة له خلال الدرس الافتتاحي للجامعة الشعبية بمكناس .. وسيط المملكة: الإنصاف أعلى من القانون حين يُظلم المواطن    المغرب يترأس المجلس الدولي للزيتون    تحقيق إسباني يكشف استعمال النفوذ للحصول على صفقات في المغرب وخلفيات ذكر اسمي اعمارة ورباح    أجهزة قياس السكر المستمر بين الحياة والألم: نداء أسر الأطفال السكريين لإدماجها في التغطية الصحية    الحكومة تقر "تنظيم مهنة العدول"    بايتاس: 756 ألف مربي ماشية استفادوا من دعم بقيمة 3,17 مليار درهم            المغرب يحل ثالثا وفق مؤشر الأداء في مجال التغير المناخي (CCPI)    جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    الفنان المغربي إِلياه والنجم المصري محمد رمضان يجتمعان في أغنية جديدة    السكتيوي يعلن الجمعة لائحة الرديف    في الحاجة إلى فلسفة "لا"    ناسا تكشف عن صور جديدة للمذنب 3I/Atlas القادم من خارج النظام الشمسي    منظمة الصحة العالمية تحذر من الزيادة السريعة في استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية    الإنصاف أخيرا لأشرف حكيمي..    تدشين غرفة التجارة المغربية بإيطاليا في روما    غوغل تطلق أداة جديدة للبحث العلمي    وزارة الاقتصاد والمالية تصدر ميزانية المواطن لسنة 2026    مناورات مشتركة بين قوات المارينز الأميركية ونظيرتها المغربية تختتم في الحسيمة    أمريكا تقدم "خطة السلام" في أوكرانيا    منتخبات ‬وفرق ‬وطنية ‬تواصل ‬التألق ‬وتخطيط ‬متواصل ‬يجعل ‬من ‬كرة ‬القدم ‬رافعة ‬تنموية ‬كبيرة    مونديال 2026.. جزيرة كوراساو الضيف المفاجأة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    أوكسفام: "ثروات الأثرياء" في ارتفاع    كأس ديفيس: المنتخب الايطالي يتأهل لنصف النهاية على حساب نظيره النمساوي    منظمة الصحة تحتاج إلى مليار دولار    معمار النص... نص المعمار    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يعلن عن تشكيلة لجنة التحكيم    لوحة لغوستاف كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يباع في مزاد على الإطلاق    مهرجان الناظور للسينما والذاكرة المشتركة يخلد اسم نور الدين الصايل    الأكاديمية الفرنسية تمنح جائزة أفضل سيرة أدبية لعام 2025 إلى الباحث المغربي مهدي أغويركات لكتابه عن ابن خلدون    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    ارتفاع معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    أطباء يوصون بتقليل "شد الجلد" بعد الجراحة    الإنعاش الميداني يجمع أطباء عسكريين‬    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا تستيقظ المدن إلا في أحلام الشاعرة المغربية نسيمة الرّاوي
نشر في أكورا بريس يوم 31 - 10 - 2012

بقلم: د. فاضل سوداني (العراق) [email protected]
لا تستيقظ طنجة أبداً إلا عندما تدخلها الشاعرة في كل مرة، وهي مثقلة بذاكرتها، ولهذا فإنها تعودت أن تلقيها في الفجر عند أول بحر قبل أن تستيقظ مدينتها .
هنا، وفي ديوانها الأول تربط الشاعرة المغربية نسيمة الرّاوي- وبذاكرة ووعي تجاوز سن العشرين بقليل- تربط البحر بالمدينة والذاكرة، محاولةً تفكيك هذه الرموز الثلاث، حتى تستطيع أن تفهم أو تستوعب تجليات ذاكرتها أولاً قبل ذاكرة البحر أو المدينة، وبهذا فإنها تؤشر لنا تلك الأسرار التي شعرنا بها سابقاً، وأثارتنا من دون أن تشعل في دواخلنا توهج سري.
غلاف ديوان قبل أن تستقظ طنجة
وبعناد واع، تربط الراوي في قصيدتها بين الذاكرة والبحر، والأهم من هذا بين الموت والشعر؛ أو أسرار الموت وأسرار الشعر، وحتى تؤكد هذه المفاهيم؛ فإنها تعلق قصيدتها النثرية على قضبان سياج مقبرة مطلة على البحر، أو تدفنها في رمل ساحل مطل على مقبرة (ذات المعنى) مادام الزمن هو مرآة للموت، والزمن كما هو معروف -نكاية بالإنسان- يولد العدم، أو الخراب الذاتي. لهذا فإنها تحول قصيدتها إلى تعويذة تعلقها نكاية بالزمن والموت، نكاية بالمدينة والبحر، وبهذا فإنها تقرن الموت بالمدينة؛ أي تقرن طنجة الواقعية التي تخنق الشاعرة والإنسان عموما بأشناتها الصخرية كمدينة تخلت عن ماضيها لتتحول إلى مدينة صفيح، ومرتع للتجار والسماسرة.
أما طنجة مدينة الحلم؛ فإن الشاعرة تبحث عنها باعتبارها ماض حلمي شفيف يغزو الشعراء دائما. وفي هذه المدينة بالذات، تبحث الشاعرة عن ذاتها، كما بحث الكثير من الكتاب والشعراء الذين عبروا طنجة للبحث عن ذواتهم.
” أهدهد أوجاعي على سرير الروح
بالحلم، لا بالنسيان،
طنجة لا تنسى وضع ذاكرتي في سلتها،
كلما نزلت إلى البحر ..”
وبالرغم من أن طنجة هي مدينة الشاعرة، إلا أنها ما تزال تشعر بغربتها وبهاجس من الشجن، وهذا واضح من ديوانها الذي يضج بقصيدة نثرية قصيرة مكثفة، ومؤسلبة وسريعة الإيقاع قريبة من قصيدة الهايكو ..
وطنجة الحلم، لا يمكنك أن تعبرها دون أن يعترضك بحرها، بل دون أن يصبح هو ذاكرتك؛ فيغزوك من جميع الجهات. والبحر يختلط بالذاكرة، فتصبح جميع الأشياء الحاضرة ومعها أشياء الماضي أكثر وضوحاً وصفاءً وشفافية ً.
وفي ديوان الشاعرة نسيمة الراوي، يضج الماضي بالبحر والمدينة، فيصبحان هما الحاضر الذي يستجلي ذاكرة الشاعرة، أو لنقل أنه يستجلي أشياء البحر وأشياء طنجة في ذات الوقت. ولكن ما الذي يحدث في لحظة امتزاج الظلام بخيوط الضوء الأولى، تلك التي يتهادى الفجر فيها غازياً الظلام البهيم ليتجلى للشاعرة “قبل أن تستيقظ طنجة”، مالذي يثير الشاعرة في تلك اللحظة؟ وهل المدينة التي تستيقظ هي طنجة الواقعية أم طنجة الحلم؟ و هل تحاول الشاعرة اقتناص الماضي قبل أن تستيقظ المدينة؟ وهل الماضي هو أسرار البحر والمجهول أم أسرار المدينة؟.
ونسيمة الرّاوي شاعرة منهكة بذاكرة أربعة وعشرين ربيعا ً ممزوجة بهموم ذاكرة مدينة، تطل على بحر غريب هو خليط من المتوسط والأطلسي. فلو تمعنا في العناوين التي اختارتها الشاعرة لقصائدها، لاكتشفنا بأنها أسماء لمدن عبرتها الريح فلم يبقى منها إلا الصدى، أسماء مدن متشابهة حتى وإن اختلفت في روائحها، وكلابها السائبة التي تعودت التجوال ليلاً في شوارعها الخلفية. فلكل مدينة عبقها الخاص الذي لا ينسى أبداً؛ لأنه أريج الماضي المتراكم الذي ينبعث فجراً بعد أن ينسحب المتعايشين من شوارعها ليركنوا للنوم، عندها ستغمر رائحة الماضي مفاصل المدينة وسترقص جميع الأشياء حافية حتى لا تستيقظ المدينة من نومها المتكاسل والخفيف. إذن ما الذي يحدث قبل أن تستيقظ طنجة ؟؟.
سؤال يضج في دواخلنا، ولا يمكن الإجابة علية إلا إذا فهمنا قصيدة نسيمة الراوي؛ إذ يجب أن تكون المدينة هي آخر الحلم حتى تستطيع الشاعرة أن ترى انبلاج الفجر الذي يلقي بخيوطه الفضية في شوارعها.
وما يمنح هذه المدن وجودها المكثف، هو أن ذاكرتها تختلط مع البحر-وذاكرة الشاعرة- الماضي- وتلك الأسرار الشعرية التي تتراءى لنا كإيقونات تشكل حلم الشاعرة، وحلم المدينة في الآن ذاته. وهذه الإيقونات الشعرية، هي التي يجب أن نوجد لها علاقة مترابطة فيما بينها، وبالتالي علاقتها بذاكرة الشاعرة. فهل هناك علاقة بين البحر (المجهول) وماضي المدينة؟ أو بينهما وبين الذاكرة الحلمية للشاعرة ؟؟ يبدو لي ذلك، فمن أجل كل هذا قسمت الشاعرة ديوانها إلى فصلين:
أولا – قبل أن تستيقظ طنجة.
ثانيا – البحر أسطورة زرقاء.
وبالتأكيد هي تعي العلاقة بين أسطورة البحر الزرقاء وبين طنجة، الماضي الحالم .
في القسم الأول تناولت القصائد مدن متشابهة فيما بينها مثل طنجة، أصيلة، ريو دي جانيرو وغيرها من المدن التي عاشتها الشاعرة، فرسخت في ذاكرتها، وهي مدن بحرية عادة. أما القسم الثاني فقد شكلت الشاعرة علاقة بين لوركا والغجر والمدينة؛ أي بين الشاعر المستباح ومدنه المستباحة مع تطور جزئي، هو أن علاقة الشاعرة بالمدينة أصبحت علاقة شعرية فيها الكثير من التشفي، مادامت المدينة تمتلك القدرة على أن تُشَيِّءَ الإنسان. وكل هذا له علاقة بالحلم، وأسطورة البحر وسر الموت.
وبما أن البحر يضج في ذاكرة الشاعرة ويحاصرها دائماً مما يضطرها إلى أن تستعير مفرداته مثل: الهدير، المد، الجزر وغيرها، وتربطها بمفردات الذاكرة أو مفردات حياتية أخرى، فيتحول الهدير إلى موسيقى داخلية، والمد يتحول إلى حضور؛ لأنه دائماً يزحف نحو الإنسان، ويتحول الجزر إلى غياب عندما ينسحب البحر إلى الأزرق البعيد الذي هو دائما حالة من حضور المد، وغياب الجزر، بل هو دائما حالة حضور الذاكرة وغياب الحضور.
فعندما تخلق المدن أسطورتها، تحقق حالة من الحضور والغياب في ذاكرة الشعر الذي يعمل على أن يؤشر على غياب الواقع الثرثار، ويخلق أيضا، حضور تلك الأسرار الحلمية التي تحقق أسطورية الواقع؛ أي أن الشعر يحول الواقع والأشياء والكائنات جميعها إلى أسطورة شعرية.
ولا يمكن تحقيق هذا إلا من خلال الموسيقى الداخلية لأشياء البحر والمدينة، حتى تتحقق الذاكرة الشعرية المتعالية، فيستلقي البحر في شرفته ليسمع هدير موسيقاه الزرقاء، ويبقى الحلم في شرفة نومه حتى يوقظه الشعر الذي يمكن أن نفهمه على أنه:
” فراشات صغيرة تعبرُ،
نهرٌ من الشعر ينحدرُ من ذاكرة تتثاءب
عند الشرفة في قميص نومٍ أزرق”
الشعر هنا، يصبح نوعا من الهمس المُتناوَبْ بين البحر وذاكرة المدينة اللذان يحاصران ذاكرة الشاعرة المعبئة بحلم البحر الأزرق أو أسطورته الزرقاء. ويستمر الهدير يلح على الذاكرة، والبحر لا بد أن يلفظ كلمته الأخيرة ويرحل، ليترك ديمومة الأثر للأزرق الذي لا يرحل أبداً؛ لأنه الإحساس الدائم بضغط الأبدية التي هي كالحلم؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يرميها في البحر ما عدا الشاعر فهو القادر على ذلك، ومن ثم يرحل بصمت، لهذا فإن الشاعرة تبحث من خلال ذاكرتها المتعالية عن الأبدية والبحر وحلم المدينة. في هذا الديوان تتماهى الشاعرة نسيمة الراوي مع البحر؛ لأنه يغمر ذاكرتها بزرقته:
” لا يلقي البحر بظله
إلا ليكتبني بالرمل المبلل
أو ببقايا الزبد…
أنا الغجرية التي
يُشهر سكان البحر
قيثاراتهم
في وجه كعبها
كلما على الشاطئ
رَقَصَتْ…
كلما على الشاطئ
لم ترقص .. “
وتتماهى الشاعرة أيضا مع الطبيعة ومكوناتها وأشيائها ومظاهرها، التي تأتي إليها مبتهجة لتحضنها كأم حنون، مما يدفع الشاعرة أن تباركها بقدسية:
“هو الموج ينحدر دفعة واحدة ً
لأنه يعلم أني على الشاطئ “
أو
“ الليلُ
حتى الليلُ
من رواد البحر
لكنه ينسى شمسيته
دائماً “
فكلما اقترب الإنسان من الطبيعة كلما صار أكثر شاعرية، ونسيمة الراوي كشاعرة مفتونة بالبحر والطبيعة، فإنها تمنحها صفاتها الإنسانية والشعرية، ولا تتوانى أن تجعلها صنواً لها مادامت هي أيضاً تمتلك شاعريتها، وبالتالي قادرة على أن تغني ذاكرة الشاعرة فيصبح البحر حالماً والليل مسكوناً بملائكة الشعر وطنجة لا تتودد للغرباء لكنها غارقة بالفطرة بذلك الحنين إلى الماضي، وأشياءها تثقل ذاكرة الشاعرة. و في اللحظة التي تبارك الشاعرة فيها مدينتها تمجد في ذات الوقت بحر اللؤلؤ والمحار الذهبي. فالبحر هو الأبدية يصبغ البشر بألوانه الشفافة، لِيُغّرِق الشعراء بذاكرته حتى يتحول إلى رمز خالدٍ.
وفي الفجر تتراءى طنجة كغجرية مجنونة ترقص عند حافة البحر لا تسعها الأكوان، تهيم هناك لا تبحث عن جثة شاعرها فحسب، بل جثة شاعر الغجر الإسباني الذي قتله الغزاة البرابرة هناك، والمقابر الجماعية مازالت تحت البحر، وتبدو كمدن اغتالها البحر ذاته.
وفوق ساحل البحر وعند حافته بالذات ترقص الشاعرة الغجرية، التي تتمنى أن يغتالها هو وتصبح جزءاً من غنائمه، لهذا فإنها ترن له بخلخالها لتوقظه، وتوقظ معه الموتى والأحياء؛ ومن بينهم يقوم لوركا من رقاده ليبدأ رقصة الغجري -التي أثارت البرابرة – في شوارع المدن المستباحة، وطنجة كمربية له ستدعوه بحنان.
ويدور لوركا كشاعر طنجة (الذي فقدناه) خائفاً حافياً في شوارع الطمأنينة، تحيطه مجموعة من الراقصين الغجر، وهم ينقرون دفوف الجنون. لكن المدن المستباحة تغتال دائما الشعراء الغرباء الذين يهيمون بلا أوطان، لكنهم عند جرف البحر يعرفون كيف يواسونها بدهاء.
وعندما تسقط السماء ملتصقة بالبحر يغرقان في اللانهاية المحتومة، والشعر دائما ستكون له علاقة باللانهاية عندما يشعر بها الإنسان. إنه هوس عميق وغريب ولا محدود لنهايات الأشياء، إنه زمن الصفر الذي تتجلى فيه الرؤى الشعرية؛ فيتماهى فيها الشعراء الغجر مع الموت في ذات اللحظة التي يعزفون فيها موسيقاهم للبحر.
استخدام الأشياء
في العديد من قصائد الديوان، هنالك تأكيد على وجود الأشياء ككيان مستقل؛ فالشاعرة تحولها من وجودها الواقعي إلى وجودها الصرف المكثف والمفروض.
” هل كان على الريح المثقلة بتباريح الشوق
أن تجرف كل ما يدور ببال الستائر الحمراء؟
في فندق المنزه ..
هل كان على القصيدة أن تخرج للبلكونة ؟
تدخن صورها ..
أو تذيبها قطعة قطعة في الشاي،
ليراني
ويرى فراشاتي .. “
وأمام مرايا طنجة (ذاكرتها) تعترف الشاعرة بأسئلتها المحيرة:
“ … وها رأسي،
مغروسا في الكتف،
سؤال للمرايا:
ماذا أكون لولا انصهار الشكل بالشكل ؟
ماذا أكون لولا هشاشة تتسكع حافية
في شوارع طنجة ؟
ماذا أكون
……؟ “
وبالتأكيد، فإن هذه الأسئلة تقلق المدينة قبل الشاعرة؛ لأنها أسئلة في الجوهر الوجودي تعمق ذاكرة المدينة والشاعرة في آن واحد.
نكاية بالمدينة
والآن لنتناول القصيدة الأهم، وهي”نكاية بالمدينة” مهداة إلى شاعر طنجة منير بولعيش الذي مات بعد إصدار ديوانه الأول “لن أُصدقك أيتها المدينة”، والشاعرة الراوي كانت قريبة من كل هذا، فقدت قصيدتها لتلقيها في ذكراه لكن الحزن تغلب على حنجرتها. ومنير بولعيش شاعر طنجة العصامي، والمتفرد ففي اللحظة التي مسك بها أبدية الشعر في داخله، أدهشنا بديوانه الأول والأخير فرمى ألأبدية في بحر أشقّار، وأنسحب بهدوء وصمت كصمت العظماء كما كتبت الشاعرة، لذا فإنها قررت أن تكمل حلمه:
” أتوسد حلمك لأكمل حلمي
بقصيدة نثر تعلق أبياتها
على سياج مقبرة
نكاية بالموت
نكاية بالمدينة
……… “
وتوسد الحلم، هو تكملة للماضي الذي سيمتد إلى حاضر الشاعرة أو حاضر الشاعر بولعيش، والمقبرة والبحر هو توهم وسر شعري، إذن سيكون الماضي إما توهماً أو سراً، وتتحول قصيدة الشعر إلى قصيدة للماضي، والماضي يتحول إلى قصيدة للحاضر. هذه هي قصيدة الشاعر، وبها تتمايز الشاعرة عندما تكتب قصيدتها بتوهج شعري متفرد. مات منير بولعيش، لكن أشعاره مازالت تتردد في شوارع مدينته طنجة بالرغم من أنه لم يصدقها.
وها هي نسيمة الراوي، تمجد أحلام صديقها الشاعر بقصيدة متميزة، وتجعل من شخصيات قصائده كورس للندب ليس على شاعرهم، وإنما أيضا على مدينته مازجة بينهما وبين لوركا، وكأن طنجة قد سبتهما هما بالذات. شخصيات وأبطال أحبها بولعيش، وأحبتهما بعد ذلك الشاعرة الراوي أيضاً.
فالرافضة ببنطال ممزق، كانت هي الحب الأول والأخير للشاعر واقعاً وشعراً، وكذلك شخصية الهيبي الذي أُصيب بخيبته إبان غزو الهيبين لطنجة في الستينيات من القرن الماضي، لتصبح عاصمة للخيال والشعر، وبالرغم من أنه انتحر إلا أنه أخفى مفتاح المدينة كما مجده بولعيش. وكذلك شخصية مثل الكاتب محمد شكري الذي أيقضه الشاعر بعدة قصائد.. وغيرهم كثيرون، وهم قريبون من الشاعرة ذاتها. وإذا كان منير بولعيش لم يصدق المدينة، فإن نسيمة الراوي تعلن غضبها نكاية بالمدينة، عندما تعلن بأن جبلا من الأحلام والهموم يجثم على قلب الشاعر المنسي، أي هروب “لطنجة العالية”من المشهد البشع، مشهد غريب بطله الشاعر منير بولعيش الذي كان يتنفس فيه أنفاسه الأخيرة، قال: ” أسندوني” ليطل على طنجة من نافذة الشعر العالية، وكانت إطلالته الأخيرة. إذن أي همس روحي شعر به لوركا عندما قال له قاتله “اذهب ” حتى يغتاله من الخلف ؟.أتكون طنجة هي المقبرة الأخيرة لتمرد الشعراء ؟.
وكحلم كان بولعيش ينتظره، تأتي الرافضة ببنطالها الممزق، لتضع بعض من زهور سرقتها من مقبرة الآخرين، لتضعها على شاعر حلم بها يوماً من شرفة مطلة على الأطلسي، وبالرغم من بشاعة المشهد تنتظر الرافضة في المقبرة البحرية. ومن جديد تتلصص الشاعرة على الهيبي الذي تجول في المدينة سئماً بقبعة تستقر في الفراغ؛ لأنه وضع رأسه بين يديه وسار مفتونا ً يسابق حلمه. إنها تحيي تلك الشخصيات التي خلقها بولعيش -في حياته وديوانه- الذي تركناه يجمع الأزهار البرية من مقبرة مولاي بوعراقية، ويعيد المحار إلى أعماق البحر، وهو ينظر إلى ذلك الهيبي الذي أخفى وجه محمد شكري داخل حقيبته، كي لا تتهمه المدينة بأنه داس على الخبز الحافي في زمن الأخطاء، هيبياً له القدرة على المشي فوق الموج أو الغيم:
” ولأن طنجة ليست عالية بما يكفي،
مشى الهيبي على سجادة من غيمٍ”
ولكن الشاعرة الراوي ترى الرؤيا من جديد، وتسمع مطارق غريبة تقترب من طنجة فترى:
” مقبرة تجاور البحر
بالمقبرة عشبٌ يابس ٌ..
من بعيد
أرى سفينة تحمل البحر
صوب المقبرة .. “
وفي الختام أقدم لكم الشاعرة نسيمة الراوي وهي تحمل بعض من أسرار القصيدة النثرية المؤسلبة التي تطمح أن تضع المدينة في زجاجة، وترميها في بحر أشقّار كما رمى الشاعر بولعيش الأبدية هنا، لهذا ستحتفظ الشاعرة بأبدية الشعر في روحها، وهي تسير حافية في مدينة الشعراء. وتبقى نسيمة الراوي تكتب شعرا قريباً من تعاويذ الغجر محاولة بذلك أن تترك أثرها على سطح الموج.
قبل أن تستيقظ طنجة نسيمة الراوي دار النهضة العربية بيروت ، لبنان 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.