في كل يوم، نجلس أمام شاشات التلفزيون ونتابع كمّا هائلا من الأخبار. في أحيان كثيرة جدا، نبتلعها بلا هضم ونعتقد أن كل خبر نراه ونسمعه هو الخبر اليقين، خصوصا وأن الأخبار المدعومة بالصور تمارس دورا رهيبا على المشاهدين وتجعلهم يؤمنون بأنها وحي منزل من السماء. هناك أخبار نسمعها باستمرار، ثم نبدأ في الاقتناع بها إلى درجة لا نسمح لأخبار مناقضة بأن تدخل عقولنا؛ ومن بين هذه الأخبار ما نسمعه باستمرار عن قراصنة الصومال، إلى درجة أننا نصدق أي شيء عنهم ولا نجرؤ على طرح تساؤل بسيط وبديهي يقول: كيف تحول هؤلاء الصوماليون الجوعى إلى قراصنة يُرهبون العالم؟ هذا هو السؤال الذي لو طرحناه على أنفسنا، لاكتشفنا أشياء كثيرة ورهيبة؛ فموضوع قراصنة الصومال هو مجرد مثال على ما نتعرض له يوميا من قصف بوابل من الأخبار المزيفة والمفبركة وغير الصحيحة، والتي تجعلنا نقف في صف القتلة والإرهابيين الحقيقيين، عوض أن نقف إلى جانب المظلومين والضحايا والمستضعفين. حكاية القرصنة في الصومال بدأت بعد سقوط نظام الرئيس محمد سياد بري سنة 1991، في وقت لم يكن هناك ربيع عربي ولا صيف عجمي، حيث سقط نظام هذا الرجل نتيجة صراعات قبلية وسياسية؛ ومنذ ذلك الزمن، لم يعد الصومال هو الصومال؛ كما أن ما جرى كان مؤشرا سابقا لأوانه على مآلات ما سمي بالربيع العربي. منذ 1991، تحول الصومال إلى بلد مشاع، وبارت فلاحته وصناعته ومؤسساته، ولم يبق للكثيرين سوى أن يقتاتوا من البحر، وهو بحر سخي في ثرواته ومساحته، حيث إن مساحته تفوق مساحة الشواطئ المغربية على المتوسط والأطلسي. لكن بعد سنوات قليلة بار كل شيء في هذه البلاد، السياسة والفلاحة والصناعة.. وحتى البحر؛ وأفلست الكثير من مصانع تصبير السمك التي كانت تُشغل عددا كبيرا من الصوماليين، والسبب بسيط، وهو أن القوى المتوحشة العظمى جعلت من شواطئ الصومال مقبرة مفتوحة لنفاياتها النووية والكيماوية، حيث اغتنمت بلدان كبرى، مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها، غياب الحماية عن شواطئ الصومال، فدفنت فيها كل أشكال السموم، وهي سموم على قدر كبير من الخطورة، بل إنها الرعب بعينه. سنوات بعد ذلك، بدأ الصيادون يكتشفون أن الأسماك التي كانوا يصطادونها صارت قليلة، وتوالت السنين وصارت أسماك الصومال أندر من بيضة الديك، بل حتى مذاق الأسماك ولونها وحجمها تغير، وكأن لعنة من السماء حاقت برزق هؤلاء الصيادين.. وبرزق الصوماليين عموما. الصدمة الكبرى حدثت في ما بعد حين بدأ الصوماليون يكتشفون أن المواليد الجدد يعانون من تشوهات خلقية رهيبة، حيث يولد أطفال بعين واحدة أو يولدون بأنف فوق الرأس أو أذن على الكتف، وأحيانا يولدون بأجهزة تناسلية في غير مكانها تماما، مع تشوهات أخرى لا يمكن أن يصدقها حتى من يراها في فيلم للخيال العلمي. لم يفهم الصوماليون ما يجري ورفعوا أكفهم إلى السماء راجين العلي القدر أن يلهمهم كشف أسباب تلك الكارثة، وهي الأسباب التي كانت قرب أنوفهم ولم ينتبهوا إليها، لأنهم كانوا يلاحظون باستمرار اقتراب سفن غربية كثيرة من شواطئهم، وهو اقتراب حيّرهم لزمن طويل، وعندما بحثوا عن السبب وجدوا كميات هائلة من النفايات النووية والكيماوية مرمية في قعر بحارهم.. آنذاك، فهموا لماذا ندرت الأسماك وتغير طعمها ولونها، وفهموا أيضا لماذا يزداد مواليدهم مثل كائنات خرافية مشوهة.. فقرروا أن يتحركوا. بدأ الصيادون الصوماليون تحركات بسيطة ضد سفن الموت التي تزرع الرعب في بحارهم. في البداية، كانوا يستعملون نفس قوارب الصيد الخشبية التي كانوا يصطادون بها، ثم تطورت وسائلهم شيئا فشيئا من أجل طرد الإرهابيين الغربيين من بحارهم، وشيئا فشيئا بدأت تظهر الأخبار الأولى في وسائل الإعلام الأوربية عن الإرهابيين الصوماليين الذين احترفوا القرصنة ضد السفن الغربية، واقتنع الناس، مرة أخرى، بأن الصوماليين تحولوا إلى إرهابيين عن بكرة أبيهم، وأن هذا الغرب المسكين هو ضحية، مرة أخرى، لتوحش هؤلاء المسلمين المجانين. استمر العالم الغربي يرسم نفسه ضحية في وسائل الإعلام العالمية، وهذا شيء طبيعي في وقت تلعب فيه وسائل الإعلام المنحرفة دورا أخطر بكثير من دور الشيطان، إلى أن تجرأ صحافيون ومخرجون سينمائيون من عدد من مناطق العالم وتوجهوا نحو الصومال بحثا عن الحقيقة، فوجدوها حقيقة مخيفة، بل مرعبة. لكن المخيف هو أنه، رغم كل ذلك، لايزال الإعلام يصف الصوماليين بالقراصنة الإرهابيين، ولايزال الغرب المتوحش مجرد ضحية للهمجيين في الجنوب. في الماضي كانوا يزوّرون التاريخ، واليوم يزورون حتى الحاضر، وقبل بضعة قرون كانت هناك حالة مماثلة للقراصنة الأندلسيين، وتلك حكاية مثيرة نتحدث عنها السبت المقبل، بحول الله.