من المثير حقا أن يكون جل من ألتقيهم من المواطنين، وبينهم سياسيون وحقوقيون وجامعيون، يشكون في حقيقة القضية التي يُحاكم بسببها الصحافي توفيق بوعشرين. من هؤلاء، على سبيل المثال، مؤرخ وباحث مرموق دخل المغرب حديثا قادما من وراء البحار، قالي لي عبارة لاتزال تحفر في ذاكرتي: «حينما قرأت خبر اعتقال بوعشرين أصابني الخوف، وقلت في نفسي: لقد عدنا مرة أخرى إلى ممارسات الماضي». كان هذا رد فعل مؤرخ لم يكن قد اطلع على تفاصيل الملف أو عرف بعض مقدماته، ولا أدري إن تابع بتفصيل مجرياته بعد ذلك، خصوصا بعدما تجرأت بعض المصرحات على تبرئته، وهن اللائي أُريد لهن أن يكن وسائل إثبات في اغتياله المعنوي. لكن المثير دوما هو هذا الشك العارم في أفعال السلطة، وفي كل ما يصدر عنها لدى المواطن المغربي، مهما كان مستواه العلمي أو الدراسي. أذكر جيدا في هذا الصدد وصية جدي رحمه الله: «يا بني، لا تثق في ثلاثة: النار، والماء، والمخزن». لاحقا أدركت أن قناعة جدي يتقاسمها معه كل من احتك بالمخزن، قليلا أو كثيرا، ومنذئذ وأنا منشغل بالسؤال التالي: لماذا لا يثق المغاربة في المخزن؟ أو، بعبارة أخرى، لماذا يشكون في كل الأفعال الصادرة عن السلطة؟ أقرب الأجوبة إلى الذهن أن عدم الثقة في شخص أو مؤسسة، أو الشك في أقواله وأفعاله، هو نتيجة طبيعية لممارساته، أي أن أحدنا لا يفقد الثقة في الآخر إلا بعد مُعايشة واحتكاك متكرر لفترة من الزمن، ولنقل بعد التجربة والاختبار. وبهذا المعنى، فالشك في الأفعال الصادرة عن السلطة لم يتأكد ويتحقق عبر الزمن، إلى أن أصبح قناعة عامة لدى المثقف والأمّي، إلا بعدما ملّ الناس كذبها المتكرر، واختلاقها الملفات، بل وعدم ترددها في الاغتيال المادي أو الرمزي لخصومها. يطابق هذا تماما الوصف الذي حفظته لنا كتب الآداب السلطانية حول الحملات المخزنية ضد القبائل «المتمردة»، والكيفية التي يتم بها دهس المعارضة والقضاء عليها، مرة بعبارة «أكلهم أكلا»، أي قضى عليهم وشرّدهم تشريدا حتى يكونوا عبرة لغيرهم، أما إذا كانت الإغارة أقل عنفا فنجد عبارة «ودوّخهم»، أي دهسهم ومزّق أوصالهم، وهي حال أفضل من «أكلهم». أما في المغرب الراهن، فإن السلطة لم تكن تتورع عن اختلاق ملفات لخصومها، ودهس حقوقهم، والتنكيل بكل من تجرأ على انتقادها أو التشكيك في نزاهتها. ولا يحتاج المرء إلى كثير جهد لكي يقتنع بهذا، لأن مرحلة كاملة من تاريخنا توصف ب«سنوات الرصاص» مازالت آثارها شاهدة على سلوك السلطة تجاه كل من يجرؤ على معارضتها ولو كان ذلك سرّا. واليوم إذ يستمر الشك وعدم الثقة بين الطرفين، فلأن السلطة اختارت أن تُعرف نفسها للمواطن بأنها والقمع سيان. تضرب بعنف من يعارضها علانية حتى يخاف من يعارضها سرا، أما الآخرون، فقد اختارت تربيتهم على الطمع، وتعليمهم الخنوع، واستغلال طموحاتهم وحاجاتهم المعيشية لإذلالهم. أما الهدف، في الحالتين، فهو ضمان الولاء المطلق لها. ذلك أن السلطة لا تريد منّا أن نكون مواطنين صالحين ندافع عن الوطن؛ دولة وشعبا، بكل ما نملك وفي كل الأحوال، بل تريد منّا أن نكون موالين لها. وأظن أن هذا هو الجرم الوحيد الذي ارتكبه بوعشرين، وأدركه الناس جيدا في كل الآفاق، لذلك، لم يصدقوا، وهم يشككون، وأظن أنهم على صواب حقا.