أكثر المصطلحات السياسية شيوعا في زمننا، الخاصة بنظام الحكم: مصطلح «الديمقراطية» بمدارسها، ومصطلح «الاستبداد» بتلويناته المتعددة. لكن أغلب مفكري العصر يميلون إلى مصطلح الديمقراطية، بعدما عملوا على تجاوز معناه الحرفي «حكم الشعب لنفسه بنفسه»، إلى «تمثيل الشعب» أو «النيابة عنه» في الحكم بواسطة انتخابات حرة، وفق قاعدة الأغلبية. أما الاستبداد، فهو حكم الفرد أو العسكر. وتتألف الديمقراطية المعاصرة من شكلين: الديمقراطية السياسية، والديمقراطية الشعبية. ومن قيم الديمقراطية السياسية: - احترام اختيار الناخبين لحكامهم ونوابهم في البرلمان. – احترام التعددية السياسية، واعتبار الحزب الأغلبي معارضيه مجرد خصوم سياسيين وليسوا أعداء. ومن ثمة انتهت الحروب بين الفرقاء السياسيين في هذه الأنظمة. - احترام التعدد الثقافي واللغوي داخل المجتمع الواحد، وكنماذج على ذلك: سويسرا وإسبانيا في أوروبا، ماليزيا والهند في آسيا، رواندا وإثيوبيا في إفريقيا. - اعتبار حرية الرأي والتعبير والتجمعات السلمية، والمطالبة بحقوق المواطنة، من صميم ممارسة الديمقراطية. - احترام القانون وتطبيقه على الجميع، طبقا لمبدأ «القانون يعلو ولا يعلى عليه».أما الديمقراطية الشعبية، فمن آلياتها: - وحدة الفكر والتصور، المجسدان في قائد الدولة والحزب الواحد، باسم الديمقراطية الشعبية، أو دكتاتورية البروليتاريا. - امتلاك الدولة لجميع وسائل الإنتاج، واعتماد الاقتصاد الموجه. - منع التعدد السياسي والنقابي والإعلامي في المجتمع. - ترسيم المرشحين للبرلمان، المختارين من الحزب، بالاستفتاء عليهم. وقد لجأت مجموعة من الأنظمة الاستبدادية الناجمة عن الانقلابات العسكرية في البلاد المتخلفة، إلى تبني آليات وشعارات الديمقراطية الشعبية. وبعد سقوط جدار برلين سنة 1989، وانهيار الشيوعية في روسيا، سنة 1990، بدأ إشعاع مصطلح الديمقراطية الشعبية يتوارى إلى الخلف، ليفسح المجال لأنظمة الديمقراطية السياسية، التي زادت من 40 دولة إلى 120 دولة في العالم خلال الفترة الممتدة من 1990 إلى 2002، وفقا للصندوق القومي الأمريكي للديمقراطية. وراح كثير من أنظمة الاستبداد تدعي أنها هي، كذلك، ديمقراطية، وأن ديمقراطيتها حقيقية ومسؤولة، تهدف إلى تحقيق الحكم الرشيد؛ هذا الحكم الذي يمر بمرحلة الانتقال الديمقراطي، دون أي التزام بتاريخ انتهاء المرحلة. مما لا شك فيه أن الديمقراطية حققت طفرة حقيقية في احترام الحريات واختلاف الآراء، والتعدد السياسي والثقافي، والتداول على السلطة بناء على اختيار أغلبية الناخبين، وتطبيق القانون في حدود مقبولة مرحليا؛ وهذا كله أدى إلى تمكين السكان من حقوق المواطنة والاطمئنان على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم بالحصول على ضمانات تحقيق العيش الكريم في ظل الأمن والأمان. ينظر بعض الناس إلى الديمقراطية كنظام مماثل لتصور المدينة الفاضلة عند بعض الفلاسفة، الذي تسود فيه السعادة والعدل. لكن، هل يمكن أن نُقرَّ بوجود الديمقراطية بدون وجود نقيضها المجسد في الاستبداد؟ وهناك من ينظر إلى علاقة الديمقراطية بالاستبداد كالعلاقة المتلازمة بين السيد والعبد. ويعتز المستبدون بحكمهم، ويصفون الديمقراطيين بالحمقى الذين لا يدركون أن إدارة الدولة إذا تركت للشعب سينجم عنها خلل كبير في الأمن وانتشار الفوضى. وقد شاعت هذه الأطروحة في العالم العربي، بعد حَراك الشارع العام ضد مستبديه بصفة خاصة، ويذيعون أن مصلحة الشعب لا يدركها إلا الصفوة. ويؤكد المستبدون أنهم هم الصفوة. وفي الجانب الآخر، يوظف الديمقراطيُّ المستبدّ في كبح طموح الشعب إلى التحرر من الاستبداد، وفي الحصول على المواد الخام لمصانعه بسعر النّهب، وضمان أسواق المستبد لترويج إنتاج مصانع الديمقراطيين، بما في ذلك بيع الأسلحة الفتاكة لاستعمالها ضد تمرد الشعوب على المستبدين. ومعروف أن الدول الديمقراطية الكبرى تستنكر قولا ما يقوم به المستبدون ضد شعوبهم، لكنها تعينهم عمليا على قمع المطالبين بحقوقهم، بل تلقنهم كيف يبررون استبدادهم بترديد عبارات من قبيل «الخصوصية الثقافة لشعوبهم»، أو أنهم يسيرون على نهج تحقيق الديمقراطية المسؤولة، وترويج مقولة «الديمقراطية لها تطبيقات متعددة بتعدد الشعوب». فهل تناول ثنائية الديمقراطية والاستبداد لا يختلف، وجودا ووظيفة، عن تناول ثنائيات الحرية والعبودية، أو العدل والظلم، أو الحق والباطل، أو الغنى والفقر… وهلمّ جرا؟