تعيد «أخبار اليوم» و”اليوم24″ نشر افتتاحيات سابقة لمؤسسها توفيق بوعشرين، كل نهاية أسبوع. الكلمات الصادقة لاتموت.. عندما يتحول الصحافي من ناقل للأخبار إلى موضوع للأخبار فاقرأ السلام على مهنة المتاعب. عندما يصير الصحافي علبة رسائل يلقي فيها كل صاحب رسالة بضاعته فاغسل يدك على الصحافة. عندما تصير لأجهزة الأمن مقاعد محفوظة في غرفة تحرير الصحف والمجلات والإذاعات والتلفزات فابحث لوسائل الإعلام هذه عن اسم جديد في قاموس السياسة لا في دليل المهنة. عندما يقدم الصحافي ولاءه إلى صاحب الشكارة أو صاحب السلطة أو لهما معا فإنه يتحول إلى بوق لا إلى عقل.. إلى أداة لا إلى فكر، إلى جندي ينفذ التعليمات لا إلى جنرال يقود الرأي العام. الصحافيون ليسوا ملائكة ولا مخلوقات نزلت من السماء، لكنهم عندما يختارون هذه المهنة يصبح في عنقهم قيد بأعراف المهنة، بتقاليد القلم والحبر القديمين، بمسؤولية الكلمة، وبجسامة التوجه إلى الناس بالخبر والرأي والتحليل والتعليق. إلى عهد ليس ببعيد كان الناس يطلقون على الصحافي «الأستاذ» اعترافا بدوره وتكريما لرسالته، وتشبيها له بالمعلم الذي يقوم بمهنة نبيلة في فصول الدرس وبناء وعي الأجيال الصاعدة. الآن صار الناس يخترعون ألقابا أخرى للصحافي من قاموس الشارع، فتسمع هذا «بلطجي» وذاك «شمكار»، والثالث ملفق، والرابع شعبوي، والخامس «باع الماتش وقلب الفيستة»، وآخر مجرد مسخر أو موظف للقيام بمهمة تشويه من تعتبرهم السلطة أعداء أو خصوما أو مزعجين… لكن أخطر شيء يواجهه الصحافي وتواجهه الصحافة هو التجاهل.. هو نزع المصداقية.. هو التشكيك في كل ما يكتب ويقال ويسمع في وسائل الإعلام. مؤلم أن تلاقي شخصا ويسألك: «لقد قرأت خبرا في جريدة أو موقع، هل هذا صحيح؟»، فتسأله: «ألا تصدق ما تقرؤه في الصحف والمواقع وما تسمعه من الإذاعات وما تراه في التلفزيون؟»، فيرد عليك ببرودة قاتلة: «لا». كان الراحل الحسن الثاني يشن حملات على صحف المعارضة التي كانت تزعجه بخط تحريرها، حتى قال يوما متهكما عليها: «لا توجد في الجرائد سوى معلومتين صحيحتين.. تاريخ صدورها وثمن بيعها». كانت هذه نكتة فصارت حقيقة، ليس فقط لأن الكذب اجتاح الصحافة مثل ما يجتاح الجراد شجرة خضراء، بل لأن جل المؤسسات الصحافية باعت المهنة في سوق النخاسة خوفا أو طمعا أو هما معا… هنا المسؤولية يتقاسمها الصحافي والمؤسسة والدولة؛ الصحافي عندما يرى يد الدولة غليظة وعصاها طويلة فهو أمام ثلاثة خيارات؛ إما أن يعتزل المهنة ويغادر البلد بحثا عن هواء جديد، وإما أن يصبر على الحملات الشعواء وعلى الأذى وأن يذهب إلى السجن، نافذا كان أو موقوف التنفيذ، أو أن يبيع الجمل بما حمل، ويتحول من صحافي إلى موظف.. من صاحب رأي إلى عازف في جوقة العميان، ولكل اختيار ثمن، ولكل اختيار كلفة. هذا ليس جلدا للذات، هذا اعتراف صريح بما آلت إليه مهنة نبيلة تتعرض كل يوم لحملات «تشرميل» خطيرة وفظيعة. في الدول الديمقراطية كلما ازدادت قوة الرأي العام ازدادت قيمة الصحف ووسائل الإعلام، لأن هذه الأخيرة هي الجسر الرابط بين الدولة والأحزاب والحكومات والشركات والمؤسسات والشارع الحي المتفاعل. في الدول المتخلفة كلما انتعش الرأي العام ازدادت قبضة السلطة على عنق الإعلام، وعلى روح الصحافة، وعلى وظيفة النقد العميق للسياسات العمومية وللقرارات الكبرى ولما ينفع الناس ويضرهم. عِوَض أن تصلح الدولة من صورتها تعمد إلى تكسير مرآة الصحافة التي تعكس صورتها الحقيقية، وتعتقد أنها بهذه الطريقة تحل المشكلة. أصبحت جل الصحف عندنا تهرب إلى تغطية أعطاب المجتمع عِوَض التطرق إلى أعطاب السلطة، أو على الأقل المزاوجة بين الاثنين. أصبحت الجريمة والمنوعات وأخبار كواليس الفن والمشاهير تغطي على الخبر السياسي والاقتصادي. أصبح ترتيب الأخبار يخضع لسلم خاص ليس فيه اعتبار للقارئ أو للحدث أو للوطن أو للمنطق. أصبح الصحافي يكتب شيئا ويتحدث في شيء آخر، وعندما تسأله: «لماذا لا تكتب هذا الذي تقوله؟»، يرد عليك: «ما كل ما يقال يكتب وللي خاف نجا». لأسبوعين أصبح الخبر في المغرب هو نوع العلاقة التي ربطت صحافي الجزيرة أحمد منصور بسيدة مغربية، وهل كان هذا الزواج على المذهب المالكي أم الشافعي؟ وهل دخل بالسيدة أم لا؟ وهل سافر معها أم لا؟ وهل وثقا الزواج أو الخطبة أم لا؟ لكن خبر إضراب صحافي آخر اسمه علي المرابط في سويسرا عن الطعام، لأن السلطة رفضت إعطاءه شهادة إدارية ليصدر جريدة، هذا ليس خبرا ولا معلومة مهمة، هذا لا خبر… وقس على هذا المثال آلاف الأخبار والإشاعات والتفاهات والافتراءات وأنصاف الحقائق التي تروج من أجل التغطية على أخبار أخرى مهمة لا ينبغي أن تصل إلى القرّاء. المواطن اليوم ينتقم من الجريدة المخدومة والإذاعة الكذابة والتلفزة الغبية فيلجأ إلى الحائط الأزرق، إلى الفايس بوك، بما له وما عليه، فيكتب فيه أخباره، ويعلق على الأحداث ويصنع جريدته، ويقرأ ما يريد من أخبار، ويلعن من يراه أحق باللعن. ما عاد الإعلام التقليدي يحتكر مهمة الإخبار والتعليق، صار كل صاحب هاتف ذكي ولوح براق وحاسوب في البيت صحافيا ومحللا ومعلقا وصاحب رأي.. هذا لا يحل مشكلة الإعلام لكنه يخفف من أضرارها.