بعدما قدمنا للقراء، في نهايات الأسابيع الأخيرة، ترجمات لحوارات مع مفكرين وكتاب ينتقدون العولمة والليبرالية والرأسمالية، ويحملونها مسؤوليات إضعاف القطاعات الاجتماعية، كالصحة والتعليم، ما تسبب في عجز المنظومة الصحية الحالية عن مواجهة فيروس كورونا المستجد في بعض الدول؛ ارتأينا في صفحة «الأخيرة» لنهاية هذا الأسبوع تقديم وجهة نظر مغايرة لواحد من أشد المدافعين عن العولمة والليبرالية. إنه الكاتب البيروفي، ماريو فارغاس يوصا، الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 2010. من بيته في مدريد، حيث يخضع للعزل الصحي كباقي المواطنين الإسبان، يدلي يوصا بدلوه بشأن أزمة جائحة كورونا، في حوار مع صديقه الكاتب الصحافي خوان كروث. «أشعر بأنني أقل من إنسان أو أقل من حيوان أو أقل من نبات. أشعر كما لو أنني نفاية صغيرة، قطيرات من البول، وأحيانا لا هذا ولا ذاك. ليس هناك مقهى، ولا سينما. وحتى فكرة القيام بتلك الرحلة الطويلة إلى أماكن مأهولة تصيبي بالاكتئاب…». إنه تأمل شخص تحت العزل الصحي دون شك. من أين انبجس هذا؟ استدللت به من رسالة كنتَ كتبتها إلى صديقك آبيلاردو أوكيندو، بتاريخ 12 فبراير 1966، عندما كنت تكتب رواية «محادثة في الكاتدرائية» (من أروع ما كتب يوصا). كيف هو إحساسك اليوم؟ إن هذا العزل الصحي شيء رائع بالنسبة إلي، لأنه منحني وقتا للقراءة لم أحظ به قط من قبل. بشكل عام، أشتغل كثيرا في الصباح، لكن، في الظروف العادية، كان هناك لقاء أو مقابلة صحافية مساء كل يومين أو ثلاثة في الأسبوع. الآن لا أحد يطرق الباب! هكذا أستطيع القراءة عشر ساعات يوميا! تقرأ حاليا كتاب «أحداث وطنية» للكاتب الإسباني بينيتو بيريث كالدوس؟ نعم. لقد أنهيت قراءة «أحداث وطنية». إنه عمل عظيم وممتع، ومكتوب بلغة في المتناول. لقد اعتمد على التوثيق، لكنه حُرر بأسلوب رائع. يصف الفوضى، والتناقضات، وعبثية بعض الأحزاب. هناك تلك الشخصية الرائعة، موسين أنطون، الذي تنتابه نوبة الغضب، والذي يشبه الفرنسيين في المزاج السيئ. تخيل معي ما تعنيه هذه الفوضى. وأنت تقرأ «أحداث وطنية»، هل وجدت ما يتقاطع مع ما نعيشه في إسبانيا هذا الشهر (مع كورونا) مثلا؟ لا ريب في ذلك. كنا لدينا انطباع بأنه مع التقدم والحداثة قد سيطرنا على الطبيعة. حسنا، لم نهيمن عليها! إنها حماقة كبيرة، وخير دليل على ذلك هو أنه (فيروس كورونا) ضربنا عمليا على حين غرة في كل الدول، ولا أحد كان مستعدا لتحدٍّ كهذا. صيني يأكل الخفاش، وتسبب ذلك في جائحة ترعب العالم. في الحقيقة، لم يكن هناك بلد مستعد لمثل هذا التحدي. وهذا إن كان يدل على شيء، فإنما يدل على نسبية التقدم، وأنه يمكن أن نبتلى بمفاجآت سيئة للغاية بسبب هذه الثقة الزائدة. وواحدة من العبر التي يجب أن نستخلصها هو أنه يتوجب علينا أن نكون مستعدين بشكل أفضل لما هو غير متوقع. مع هذه الأزمة، أصبح ما هو كوني/عولمي محط تساؤل؟ كل شيء له تكلفة؛ والتكلفة السلبية للعولمة هي ما يجري الآن. من جهة أخرى، كل هذا يسمح للبلدان الفقيرة بهزم الفقر بسرعة فائقة، وهو شيء لم يكن ممكنا قبل وقت قصير. للمرة الأولى، لدى البلدان الفقيرة إمكانيات التقدم بسرعة لا يمكن تصورها. كل هذا تسمح به العولمة. سيكون نبأ سلبيا أن تتقهقر العولمة، نتيجة لهذا الوباء، وأن نعود إلى تشييد الجدران الحدودية التي كلفنا تقويضها الشيء الكثير. ألم يصدمك أن تُهاجم قوة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية من لدن حشرة/فيروس، ولا تجد ما تواجهها به إلا العلم أو الحظ أو الأمل، رغم أنها أكبر قوة عسكرية؟ الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي كانت تبدو أبعد من الشر والخير، كانت غير مستعدة بما يكفي لذلك. وخير دليل على ذلك، تسجيلها 2000 هالك في يوم واحد خلال هذه الأيام. لقد بلغت بنا الثقة أن نعتقد أن التقدم جلب الكثير من الفوائد، وأنه لم يعد هناك احتمال لوقوع مفاجآت سيئة. لقد أخطأنا التقدير! فالمفاجآت السيئة على الأبواب. صحيح أن بعض الدول صمدت أمام الأزمة أكثر من أخرى، لكن لم يكن هذا حال الدول التي كنا نعتقد أنها في صدارة التقدم مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية. كنت من الأوائل الذين نددوا بتلاعب الصين بالمعطيات التي تخصها حول الفيروس؟ حالة الصين مهمة للغاية، لأن هناك الكثير من الناس الذين اندهشوا من التقدم الذي جعلها الآن نموذجا؛ وذلك من خلال التضحية بالحريات، وفتح سوق حرة في الاقتصاد. لقد ثبت اليوم أن التقدم دون حرية ليس تقدما، والصين نموذج صارخ؛ بلد ضربته مثل هذه الجائحة، بلد خرج منه الوباء، وأمام كل هذا يتحرك مسؤولوه بطريقة استبدادية من خلال العمل على حجب ما حذر خيرة الأطباء الصينيين من وقوعه. والرد الذي يخرج من طبيعة النظام الاستبدادي، هو النفي، وإجبار أولئك الأطباء على التراجع عن أقوالهم. كان يمكن منع سقوط الكثير من الضحايا لو أن الحكومة الصينية قدمت كل المعطيات التي تتوفر عليها في الحين. لقد كان الرئيس الأمريكي ترامب والبرازيلي بولسونارو ورئيس الوزراء الإنجليزي جونسون يرفضون فكرة أنهم معنيون بما يجري… نعم، وقد كلف ذلك الكثير من الأرواح! لقد تعاملوا مع الجائحة بطريقة غير مسؤولة. كانوا يعتقدون أنه يمكنهم تجنب تهديد الفيروس. لذلك، أعتقد أن الناخبين في البلدان الديمقراطية والحرة سيحاسبون المسؤولين المقصرين، الذين سيدفعون الثمن حتما. لقد اختاروا اتباع هذا المنهج الاستبدادي (الصيني) القائم على التقليل من أهمية الفيروس في الوقت الذي كان يشكل خطرا حقيقيا. كيف تنظر إلى الوضع في أمريكا اللاتينية في هذه الظرفية؟ من حسن الحظ أن الجائحة وصلت هناك في فصل الصيف. والحرارة تدمر الفيروس. حتى هذه القارة يضربها الفيروس، لكن بدرجات أقل بكثير مقارنة بما كان سيكون عليه الحال لو وصل في فصل الشتاء. وخير دليل على ذلك هو صعوبة تقديم تفسير آخر لتسجيل 100 حالة وفاة فقط في البيرو، مثلا، حيث البنيات التحتية ليست في مستوى مواجهة هذا التحدي. في كل الأحوال، لقد تصرف بلدي البيرو بحزم وبسرعة، حيث إن شعبية الرئيس مارتين بيثكارا ارتفعت بشكل هائل. هل تتفق مع التحذيرات التي تقول إن إجراءات محاربة الوباء قد تمس الحريات المدنية؟ لا شك في ذلك. للأسف، هذا من نتائج الخوف الذي تسبب فيه الوباء. كان هناك – قبل الوباء- مسار لتذويب الحدود. كانت العولمة تشتغل بشكل جيد، غير أن الهلع من هذه الجائحة يحمل خطر سحبنا إلى نوع من الرجوع إلى القبيلة، من خلال الاعتقاد بأن هذه الحدود ستحمينا بشكل أفضل من الجائحة. هذا غير صحيح. أعتقد أن الرد الأوروبي على نطاق واسع في مواجهة الوباء ينقذ اليوم الكثير من الأرواح مقارنة بأحداث الماضي (أجري هذا الحوار بعد الاتفاق الأخير للاتحاد الأوروبي على دعم دول الجنوب التي عصف بها الفيروس، كإسبانيا وإيطاليا). في مقال لك بتاريخ 15 مارس المنصرم في صحيفة «إلباييس» تحت عنون «الرجوع إلى العصور الوسطى» قلت: «إن الهلع أمام الجائحة هو بكل بساطة الخوف من الموت الذي يرافقنا دوما ودائما كالظل». هل انتابك الخوف؟ أعتقد أنه لا يمكنك إلا أن تخاف الموت، إلا إذا كنت يائسا أو تعيش حياة تراجيدية تتمنى أن تنتهي. عدم الخوف هو الاستثناء وليس القاعدة. الطبيعي هو أن تخشى الزوال. في هذه الظرفية التي نعيشها اليوم، حيث نرى أصدقاء أو أقارب وقد غيبهم الموت بسبب كورونا، من المستحيل ألا تصيبك عدوى الخوف من الموت. هذا هو الشعور السليم والطبيعي. ومع ذلك، فإن الحياة رائعة بفضل الموت.