لازالت مساحات كثيرة من البياض تلف كواليس التناوب التوافقي الذي قاده الراحل عبدالرحمان اليوسفي، سواء من حيث ملابسات قبوله بمشاركة إدريس البصري في حكومته، أو ما جرى الحديث عنه من “قسم على القرآن” أمام الحسن الثاني، ومضمون هذا القسم. وفي إحدى الشهادات النادرة التي سبق أن قدمها امحمد بوستة، الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، في نونبر2014، أي حوالي ثلاث سنوات قبل وفاته، كشف بعض الحقائق عما جرى من مفاوضات وملابسات قبول اليوسفي. كانت المناسبة ندوة نظمها مركز طارق بن زياد، في كلية الحقوق بالرباط، حول كتاب صدر حول “تجربة التناوب”، قدم فيها بوستة هذه الشهادة التاريخية. يروي أنه قبل وفاة الزعيم الاتحادي عبدالرحيم بوعبيد، اجتمع مع الحسن الثاني، وتحدثا عن الحاجة إلى التعاون “لإخراج البلاد من الحكم المطلق” مضيفا: “قلت له هذا الكلام بأدب، وأكدت على أنه يجب الاتفاق على تعديل الدستور بما يضمن سلطات واضحة للحكومة”. وكشف أن النقاش مع الحسن الثاني تناول نقطتين حصل اتفاق بشأنهما: الأولى في حالة فوز حزب الأغلبية، فإن الملك له الحق والواجب بأن يعين منه رئيس الحكومة. والثانية، أن يعين الملك الوزراء باقتراح من الوزير الأول، وأن تكون سلط الحكومة مضبوطة وأن تعرض برنامجها على البرلمان. وبعد وفاة عبدالرحيم بوعبيد وتولي عبدالرحمان اليوسفي قيادة الاتحاد، يقول بوستة، جاءت الانتخابات سنة 1993، فعرفت تزويرا “تصرف إدريس البصري، وزير الداخلية حينها، وكريم العمراني، الوزير الأول في الانتخابات بشكل مخالف للاتفاق مع الحسن الثاني”. وهنا تساءل بوستة “هل ما فعله البصري في الانتخابات كان باتفاق مسبق مع الحسن الثاني”؟ أنا أعرف الجواب، لكن بوستة لم يجرأ على القول بأن الحسن الثاني هو الذي طلب من البصري ذلك، لكن الجميع فهم الرسالة. وبعد تلك الانتخابات، تبين أن أحزاب الكتلة لم تفز بالرتبة الأولى لأن البصري تدخل في عملية الانتخابات بالتزوير، وقال: “كنا كأحزاب الكتلة قريبين من الوصول إلى نصف مقاعد البرلمان، لولا تزوير البصري”. يروي بوستة أنه بعد هذه الانتخابات استدعى الحسن الثاني قادة الكتلة، بوستة واليازغي، لأن اليوسفي كان غادر إلى فرنسا احتجاجا على التزوير، كما حضر بنسعيد آيت يدر، وقال لهم “لقد وصل الوقت لكي تتحملوا المسؤولية”، ثم توجه إلى بوستة قائلا له: “أنت من سيتحمل المسؤولية”. يقول بوستة إنه رد عليه قائلا: “لكن ليست لدينا أغلبية”، وذكره بأن الاتفاق معه كان يقضي بأن “تكون لنا أغلبية ليكون هناك مدلول للاتفاق”. وأضاف بوستة أنه أبلغ الملك بأنه يفضل أن يقود حكومة تتوفر أحزابها على الأغلبية، فرفض الحسن الثاني، وأصر على فكرته. وفي لقاء آخر عاد الحسن الثاني ليقدم العرض عينه على بوستة، فسأله هذا الأخير عن إدريس البصري، فرد الحسن الثاني، أن البصري سيبقى وزيرا للداخلية، حينها علق بوستة قائلا: “لقد تبين لي أن كل ما قلناه لا فائدة منه”. يقول بوستة إنه لم يكن ليقبل أن يكون إدريس البصري وزيرا في حكومته، فقبل شهر على لقاء الحسن الثاني، كانت هناك جلسة في البرلمان هاجم فيها بوستة بشدة إدريس البصري، وكريم العمراني: “قلت لهما إنكما بممارساتكما تخربان البلاد، وتمارسان الإجرام عندما تزوران الانتخابات”، متابعا “وأضفت كلاما خطيرا بالنسبة إليهما عندما قلت لهما: “إنكما لا تتبعان تعليمات جلالة الملك الذي قال إنه يريد انتخابات حرة ونزيهة”، و”إنكما تضران بالمغرب والملكية”. ويروي بوستة أنه رغم رفضه للبصري إلا أن الحسن الثاني بقي مصرا عليه قائلا له: “سيبقى البصري في الحكومة ل6 أشهر فقط”، فرد بوستة قائلا: “لن أقبل به ولو ليوم واحد”. يروي بوستة أن أحزاب الكتلة حاولت إقناع اليوسفي بالعودة إلى المغرب “ليستمر معنا في الكفاح”، وأكد أنه شخصيا سافر إلى فرنسا للقاء اليوسفي لإقناعه بالعودة، مضيفا أن الحسن الثاني بدوره أرسل 3 مقربين منه للقاء اليوسفي في مدينة “كان”، منهم المستشار عواد وبوشنتوف. وبعد عودة اليوسفي من فرنسا، توجه الحسن الثاني إليه ليعرض عليه التناوب بعدما فشلت محاولته مع بوستة. وهنا يروي بوستة كيف وقع هذا التحول. قبل ذلك توقف بوستة عند قصة علاقته القديمة باليوسفي، حيث قال إنه التقاه لأول مرة في أكتوبر 1938 في “داخلية كوليج سيدي محمد” بمراكش، حيث كانا يدرسان في السنة أولى ثانوي، أكثر من ذلك كان يجلس إلى جانبه في القسم، وكانت تجمعهما علاقة قوية. وعن شخصيته قال إنه “رجل حساس وحكيم، ويحب أن ينجز عمله في صمت”، قبل أن يضيف بخصوص قبوله التناوب “السي عبدالرحمان عُرف بحسن نيته، لكن في مثل هذه المواقف السياسية لا يجب التعامل بحسن نية، بل يجب أن يكون هناك المعقول”. ومضى بوستة شارحا كيف قبل اليوسفي بالتناوب، قائلا: “اليوسفي تأثر بكلام الحسن الثاني”، قبل أن يستطرد: “كلنا كنا نقسم أمام الملك”، قالها بالدراجة “كنا كانقيلو نحلفو عند الملك”. لكن بالنسبة إليه، فإن “اليوسفي تأثر لحالة السكتة القلبية للمغرب التي تحدث عنها الحسن الثاني”، مضيفا أنه تأثر بكلام الحسن الثاني وأعطى التزاما بتشكيل الحكومة”. ويصف بوستة اليوسفي بأنه “رجل الالتزام الذي يحب بلده”، ورغم أن “الرجل يمكن أن تكون له ألاعيبه ضد هذا أو ذاك.. لكنه رجل مستقيم”. يروي بوستة، أنه مباشرة بعد خروج اليوسفي، من عند الحسن الثاني اتصل به، وقال: “اتصل بي وأتى عندي، وأخبرني بما جرى مع الحسن الثاني”، وأضاف: “قال لي اليوسفي لقد التزمت مع الحسن الثاني، واشترطت ضرورة مشاركة حزب الاستقلال”، فرد بوستة عليه: “إن حزب الاستقلال قرر في مؤتمره أنه لن يشارك في حكومة منبثقة من انتخابات مزورة (انتخابات 1997)، والتي “اعتبرها حزب الاستقلال عقابا له لرفضه التناوب”. لكن اليوسفي تشبث بضرورة مشاركة حزب الاستقلال، وقال لبوستة: “لديك سلط كثيرة لتغيير موقف حزبك”، فرد بوستة: “إن قرار عدم المشاركة اتخذه المؤتمر ولا يمكنني تغييره”، وهنا تطور الأمر إلى استعطاف، حين قال “استعطفني اليوسفي فقلت له بحكم علاقتنا، إن مؤتمر الحزب سينعقد بعد 22 يوما”، فقال اليوسفي: “أنا مستعد لتوقيف كل شيء وانتظار المؤتمر”، ولكنه ألح على أن يقوم بوستة بإلقاء كلمة في المؤتمر يدعو فيها المؤتمرين إلى التراجع عن قرار عدم المشاركة في الحكومة. وهكذا انقلب الموقف في حزب الاستقلال بإلحاح من بوستة، بشرط أن يلتزم اليوسفي بالاتفاق الذي جرى بين بوستة وعبدالرحيم بوعبيد، والذي ينص على أن يكون “هدف التحالف بين الحزبين هو تفكيك الحكم المطلق لنظام الحسن الثاني”. بوستة قال إن اليوسفي، طلب، أيضا، أمورا شخصية، لكنه لم يكشف عنها. وبعد موافقة حزب الاستقلال، يقول بوستة، إنه سأل اليوسفي عن مصير إدريس البصري، فرد “إن الحسن الثاني طلب منه أن يبقى البصري لمدة 6 أشهر في وزارة الداخلية”، ويعلق بوستة: “قلت له هذه هي الكارثة”. ويلخص بوستة تجربة اليوسفي في الحكومة بالقول، إنه “رجل حسن النية، قام بأمور جيدة رغم الصعوبات التي واجهها داخل حزبه وخارجه، وكانت له القوة ليكمل الإصلاح، لكن هل نجح أم لا؟ لا يجيب بوستة، لكنه يقول: “لقد وقعت أغلاط”، مشيرا إلى أن “الغلط الفادح هو عندما يكون عليه اتخاذ موقف ولا يتخذه”. وبنبرة مراكشية تهكمية قال بوستة: “لقد ألبسوه الجلابة والسلهام، وهذا أساسي عند الحكم”، قبل أن يضيف “في الأمور الجوهرية لم يكن لليوسفي الجرأة ليقول “لا” في الوقت المناسب”.