خلال ندوة شاركت فيها في نونبر 2014 بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بالرباط، إلى جانب الراحل العزيز محمد العربي المساري، وحسن طارق، وعبدالصمد السكال، لتقديم كتاب محمد الطائع: "عبدالرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض"، ألح حسن أوريد الذي أدار الجلسة على السي امحمد بوستة، الذي كان حاضرا، أن يأخذ الكلمة. ولأن المناسبة شرط، فقد تحدث الرجل عن خلفيات تشكل الكتلة الديمقراطية بحرص مسبق على مد الجسور مع الجالس على العرش، وقال إنه كان قد اتفق مع عبدالرحيم بوعبيد على تفكيك بنية الاستبداد بتدرّج، بناء على وصية من علال الفاسي أوصى فيها؛ أولا، بمد الجسور مع المنسحبين من حزب الاستقلال (يقصد الاتحادين الوطني وبعده الاشتراكي)؛ وثانيا، بعدم ترك الحسن الثاني محاطا بأولئك الذين كانوا يحيطون به. ثم عاد السي امحمد للحديث عن تناوب اليوسفي بنقد غير مسبوق، وقال: "السي عبدالرحمان (…) عندو حسن النية اكثر من لقياس، لقد أثر فيه الكلام الذي سمعه من الملك". ولمزيد من التوضيح عرّج السي امحمد على حكاية القَسم الذي أدَّاه اليوسفي على المصحف أمام الحسن الثاني، وقال بتلقائية العارف بأعراف دار المخزن: "كنقيلو نحلفو عند الملك". مثل هذا الكلام الذي قلما يصدر عن سياسي بقامة وتاريخ السي امحمد بوستة، يُلخِّص طريقة تعامل قادة الأحزاب الديمقراطية – أساسا الذين لم يغادروا المغرب إلى المنافي، مثل بوعبيد وبوستة- مع دار المخزن، خصوصا في المرحلة التي كان الطريق إلى تلك الدار محفوفا بالألغام والدسائس، فكان الديمقراطيون يتعاملون بمقياس ألا يبتعدوا طويلا فينفجر الوطن، أو يقتربوا كثيرا فتحترق ذواتهم وأدواتهم التنظيمية. وكان الحسن الثاني واعيا بهذا، لذلك قال لبوستة عندما رفض وجود إدريس البصري في الحكومة خلال عرض 1993: "آ السي امحمد خلّي ادريس بيناتنا.. أنا نمسح فيه وانت تمسح فيه". وقد قدم بوستة في تدخله على هامش الندوة سالفة الذكر، مثالا على دور "الممسحة" الذي لعبه وزير داخلية الحسن الثاني، حين قال: " في 1992، كانت هناك انتخابات تصرَّف فيها إدريس البصري وكريم العمراني، وهذا كان مخالفا لما اتفقنا عليه مع الحسن الثاني لترتيب دخولنا إلى الحكومة.. هل الملك كان متفقا مع هذا التزوير؟ أنا أعرف الحقيقة"، قالها وضحك وضحكت القاعة في إثره، قبل أن يضيف متحدثا عن عرض 1993: " قال لي الحسن الثاني: "السي ادريس سيبقى في الداخلية لستة أشهر، فأجبته: هاذ شهر أو شهرين ألقيتُ كلمة في البرلمان واجهت فيها رئيس الحكومة والبصري وقلت لهما: أنتما تخربان البلد وما قمتما به من تزوير هو إجرام، ولم تحترما كلام الملك الذي تعهد بأن تكون الانتخابات نزيهة.. قلت ذلك للملك وأنا كنعرف شنو كاين"، في إشارة إلى أن الحسن الثاني كان على علم بالتزوير، الذي "مُسح" في البصري. المرة الثانية التي أتيحت لي فيها فرصة مجالسة الرجل والاستماع إليه، كانت بمنزل السي يحيى بنسليمان، وهو من أكبر وأنشط ذاكرات المغرب التي التقيتها. خلال هذا اللقاء حكى لي السي امحمد تفاصيل غير معروفة أعقبت وفاة الملك محمد الخامس، وكيف "هاجر" شيخ الإسلام مولاي العربي العلوي وإدريس المحمدي (وزير الداخلية في حكومة عبدالله إبراهيم) إلى تافيلالت واعتصما بالزاوية، رفضا منهما تزكية انتقال العرش لأمير جافى الوطنيين وقرّب "تركة فرنسا" مثل أوفقير واكديرة ومولاي حفيظ العلوي، فما كان من الأمير الذي سيصبح الحسن الثاني، إلا أن خاطب بوستة: "اتصل بهم وقل لهم يجيو، أو غادي نصيفط "باطيون" ديال الجيش يجيبهم". لقد كان لسان حال الحسن الثاني يقول: رغم أنني جافيت الوطنيين، فإنني أقدِّر قيمتهم وضرورتهم في تزكيتي ومبايعتي. وهذا عينه ما تكرر عندما استأمن خصمه "الدغري"، عبدالرحمان اليوسفي، على انتقال العرش منه إلى خلفه محمد السادس. هكذا مر مولاي العربي العلوي وعلال الفاسي وعبدالرحيم بوعبيد وعلي يعتة ومحمد بنسعيد آيت يدر وعبدالرحمان اليوسفي وامحمد بوستة… من دار المخزن فرموا أحجارا صغيرة في بركة التقاليد المرعية، الراكدة، دون أن يرشهم ماء المخزن. رحم الله السي امحمد.