ليس من قبيل المزايدة في شيء الادعاء بأن حكومة عبد الإله بنكيران (حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم بالمغرب) قد نجحت -وإلى حد كبير- في فتح العديد من الملفات، ومباشرة العديد من الأوراش (المشاريع) التي لم تكن الحكومات المتعاقبة السابقة تجرؤ على الاقتراب منها، فما بالك بفتحها أو مباشرتها أو إيجاد السبل لمعالجتها: - فالرجل (حكومته أقصد) وضع يده منذ اليوم الأول من وصوله إلى رئاسة الحكومة، على ملف الريع (الفساد المالي) المستشري بقوة بكل مفاصل الدولة، فنشر لائحة المستفيدين بدون وجه حق أو استحقاق من مأذونيات النقل ورخص مقالع الرمال والمناجم والصيد بأعالي البحار، وقطع مع سلوك التوظيف المباشر بأسلاك الوظيفة العمومية، لفائدة التباري على المناصب المتاحة، وباشر في الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل (مع احترام حقهم الدستوري في الإضراب)، والذين كانوا بزمن من الأزمان يشلون -بإضراباتهم المؤدى عنها- قطاعات بأكملها، لأسابيع وشهور عدة. - والرجل باشر بإصلاح منظومة المقاصة (التي تتحمل الخزينة العامة بموجبها الفوارق بين الأسعار الحقيقية والأسعار المطبقة بالأسواق) والتي التهمت لسنين طويلة -ولا تزال تلتهم- جزءا ضخما من موارد الدولة، ولا تفيد منها الطبقات الضعيفة والمتوسطة، المنشأة من أجلها، بل تذهب لجيوب بعض رجال الأعمال الجشعين، أو لفائدة بعض المنتفعين، المضاربين في النفط والخبز والسكر والحليب. - والرجل، ببعض من العزيمة وبكثير من الجرأة، استعجل فتح ملف صناديق التقاعد، فاستصدر لأجل ذلك دراسات معمقة، أثبتت بالمعطيات الرقمية الدقيقة، أن منظومة التقاعد قد باتت قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس، إذا لم يتم تدارك الموقف وسد العجز الذي يطالها، أو الاعتكاف على رسم سيناريوهات جديدة، بغرض البحث عن موارد جديدة لتطعيمها وإنقاذ الملايين من المتقاعدين. وعلى الرغم من أن رئيس الحكومة لم يذهب بعيدا في بعض الأوراش (من قبيل اكتفائه بنشر قائمة المستفيدين من الريع، دون متابعتهم، أو مصادرة ما تحصلوا عليه)، واحتمى بشعار "عفا الله عما سلف" (كي لا ينفر المستثمرين، أو ليحول دون هروب رؤوس الأموال)، جراء ضغط لوبيات الدولة العميقة، وابتزاز بعض "الحلفاء" السياسيين؛ فإن الرجل عازم ومصرٌّ فيما يبدو على إصلاح منظومة المقاصة ونظام التقاعد، حتى وإن كانت التكلفة المقابلة في ذلك (أو هكذا يزعم في تصريحاته) تراجع شعبيته، وشعبية حزبه بأفق القادم من انتخابات. قد يتفق المرء مع ما أوردناه أعلاه وقد يختلف معنا في بعض الجزئيات. لكن الذي لربما لا مجال للاختلاف بشأنه كبير، إنما حقيقة الإخفاق الواضح في تدبير "ملف إصلاح الإعلام العمومي" الذي طالما نادى به الحزب وهو في المعارضة، ولم يملل من التبشير به بكل الحملات الانتخابية، وأدرجه كأولوية لا تقبل التأجيل، في التصريح الحكومي الذي حازت الحكومة بموجبه على ثقة البرلمان. ثمة محطات عدة بالإمكان التوقف عندها لتبيان ذلك. إلا أن المحطة الأساس في هذا الإخفاق، إنما تتمثل في اعتقادنا، في عجز وزير الاتصال -ومن خلفه الحكومة برمتها، ناهيك عن وزن رئيسها- في تمرير دفاتر في التحملات، تضمنت موادها وبنودها مفاصل الإصلاح المنشود لقطاع الإعلام العمومي، وللقطاع السمعي والمرئي على وجه التحديد. فعلى الرغم من أن الصيغة النهائية لهذه الدفاتر قد أجيزت واعتمدت من لدن حكماء الهيئة العليا للاتصال السمعي/البصري (أعلى هيئة دستورية للبت في كذا قضايا)، فإنها لاقت معارضة شرسة من لدن القائمين على القنوات العمومية، لدرجة تحول الأمر معها إلى تراشق مباشر بالألفاظ من على صفحات الجرائد الورقية، ومن بين ظهراني مواقع التواصل الاجتماعي، وتهديدا بل وتصميما من لدن هؤلاء على عدم الأخذ بمضامينها، ورفض الاعتداد بتوجهاتها وتوجيهاتها. ودفعهم الأساس في ذلك إنما القول بأن من شأن إعمال هذه الدفاتر "التراجع عن المكتسبات"، و"عودة التحكم في الإعلام"، بل وتم التلميح بالبدء -ثم المجاهرة فيما بعد- بأن هذه الدفاتر إنما تعبر عن توجه الحكومة والحزب الأول ضمنها، إلى "أخونة الإعلام"، تماما كما ألصقت التهمة ذاتها بحكام ما بعد الانتفاضات في تونس وفي مصر وفي غيرهما. ودفعهم في ذلك أيضا إنما الزعم -زعمهم هم- بأن من شأن تفعيل بنود هذه الدفاتر التنكر "للمشروع الديمقراطي الحداثي" الذي حمل لواءه الملك محمد السادس منذ وصوله للسلطة، ومن شأنه كذلك "التراجع على هامش الحرية" الذي باتت تتمتع به هذه القنوات، بعد عقود من الرقابة المباشرة والتضييق المضمر. لم تطل عملية المد والجزر هاته كثيرا، إذ سرعان ما أتى التحكيم الملكي على شكل إنذارين مباشرين قويين، وضعا الأمور في السياق العام الذي أخذته من حينه: - إنذار للحكومة، كونها دفعت -تقول حيثيات الإنذار إياه- بمشروع أشير إليه منذ البداية، بأنه صيغ بطريقة متسرعة، غير مكتملة النضج، ولم تخضع -فضلا عن ذلك- لمبدأ التوافق الذي اعتمدته الدولة منهجا في الحكم منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي. وعليه، فقد تمَّ سحب الدفاتر جملة وتفصيلا، من بين يدي وزير الاتصال صاحب الاختصاص، ليتكفل به زميل له بالحكومة، مكلف بقطاع السكنى وتعمير المدن، لكنه مدرك بما فيه الكفاية لتضاريس الملف وتشابك خيوطه، بحكم إشرافه وإشراف حزبه على نفس الوزارة بحكومات سابقة. - وإنذارا للهيئة العليا للاتصال السمعي/البصري، تمت إقالة رئيسها ومديرها العام، كونهما -تقول الحيثيات المسربة- لم يتريثا في التصديق على الدفاتر، ولم يتمثلا جيدا حسابات ملف البعد التقني من بين ظهرانيه هو أهون الأبعاد وأقصرها، ولم يحصلا -إضافة إلى ذلك- على "الضوء الأخضر" من عل، الذي لا سير إلا بهداه المباشر في مسألة من هذا القبيل. بهذين الإنذارين المباشرين، يبدو أن ملف إصلاح الإعلام السمعي/البصري لم يعد من اختصاصات الحكومة، وأن المتغير الذي راهنت عليه هذه الأخيرة اصطدم بالثابت القار الذي لا يقبل التحول بالمرة، وإن قبل به فببعض من الجرعات المحسوبة، المتأنية، والآتية إشاراتها من فوق. لم تتوقف التجاذبات بصدور هذين الإنذارين، بل ذهبت بمناهضي المشروع، أو ما تبقى منه، لحد شن هجوم مضاد على رئيس الحكومة، حتى وهو في ضعفه وترهله، وانتفاء الحيلة من بين يديه ومن خلفه. لم يعد -والحالة هاته- من أثر يذكر لواجب التحفظ الذي تفترضه المساطر الإدارية، ولا من قيمة اعتبارية للمؤسسات المنتخبة، صاحبة الشأن في اتخاذ القرار وفرض تنفيذه، بل تساوت السهام، وبدأ الاحتراب وجها لوجه، كل بحسب ما أوتي من قوة وذخيرة: - فمدير عام قناة البحر الأبيض المتوسط (وهي مؤسسة عمومية بامتياز) "رفض" الانصياع للمطالبين (من الحكومة ومن الجهاز التشريعي) بتدقيق مالي للقناة، على خلفية من ادعاءات رائجة حول سوء في التدبير وتسيب في التسيير، وأشار (المدير أعني) بالتلميح الذي لا يقبل التأويل، بأن لا رقابة للحكومة على "قناته"، وأن لهذه الأخيرة مجلس إدارة يحميها، ويؤشر على حساباتها بالسلب أو بالإيجاب أو بالتحفظ. - ومديرة الأخبار بالقناة الثانية (وهي مؤسسة لوزارة الاتصال الوصاية المباشرة عليها) لا تعير أنشطة الحكومة كبير اعتبار، بل يذهب رئيس الحكومة ذاته لحد اتهام ذات المديرة بالتعتيم على تحركاته والتحامل على إنجازاته، وإخضاع تصريحاته لمقص الرقابة، وفي بعض الأحيان إخراج ذات التصريحات من السياق التي وردت في إطاره، فيما يشبه التشهير بالرجل والانتقاص من مبادراته، واستقصاده لشخصه. - ومدير القناة الأولى (وهي مؤسسة عمومية من عقود طويلة مضت) لم يمسس طبيعة شبكة القناة البرامجية، ولا طريقة المعالجة التي من المفروض أن تطال مؤسسة عمومية باتت تتمتع بالصفة المعنوية والاستقلال المالي، بل أبقى على الطابع الرسمي للقناة، وكأن لا شيء يجري من حولها بالمرة، بالبلاد كما بخارجها. ولكأن كل هذا غير كاف لتطويع رئيس الحكومة، وتركيعه، يقول البعض. شن القائمون على الإعلام العمومي حملة شعواء على حكومة بنكيران، بدعوى محاولتها التحكم في الإعلام، وكأن الرجل قد تمكن حقا من مفاصل القطاع، وباشر حقا وحقيقة في تصريف سياسته من بين ظهرانيه. إن بالأمر تحديا واضحا وسوء تقدير، وبه أيضا بعض من التقصير في الإدراك، ليس من لدن القائمين على الإعلام العمومي (وهم جزء من الدولة العميقة دون شك)، بل من لدن رئيس في الحكومة منحه الدستور صلاحيات واسعة لرسم سياساته العامة، ووضع الإدارة رهن إشارته، لتصريف ذات السياسة دون تلكؤ من هذه الجهة أو تردد من تلك، دع عنك سلوك المناهضة والرفض، لكنه اصطدم مع من يعتبرهم مناهضين للإصلاح، فيما لا يرد هؤلاء إلا بالقول بأنهم حماة حق مكتسب، وحاملو لواء مشروع في الحداثة والديمقراطية يبدو لهم مهددا ومستهدفا. لقد قلنا، ومنذ أمد بعيد، بأن محنة الإعلام العمومي بالمغرب، والإعلام التلفزيوني تحديدا، إنما تتمثل في "التعايش" القسري بين سلطة الإعلام وإعلام السلطة: - وقلنا بأن التنابذ والتضاد بينهما هو تنابذ في الطبيعة والطبع، وتضاد في الغاية والوظيفة. إذ تنبني الأولى على سلطة الكلمة، تترعرع بالتشبث بها، ولا تقبل بالمزايدة على هامش الحرية الذي اقتطعته لنفسها من هنا وهناك. في حين تتكرس الثانية وتتشرعن بالاحتكام إلى كلمة السلطة. - وقلنا بأن الإعلام العمومي، والتلفزيون على وجه التحديد، هو جزء من بنيان لا بنيانا قائم الذات، أي أنه جزء من منظومة مادية ورمزية، هي التي تحدد له المرجعية ومجال الاشتغال وهامش الفعل وسقف الأداء. ولما كان الأمر كذلك، فقد قلنا دائما بأنه من المتعذر حقا (لدرجة الاستحالة ربما) المساس بهذه التركيبة وهذا البناء. إنهما من مجال "سيادة خاصة"، تتجاوز على الحكومات والبرامج والسياسات. القائمون على الشأن الإعلامي العمومي بالمغرب يدركون ذلك جيدا، ويدركون أن مقام المنابر التي يعملون بها هو من المجال الخاص، ومن ثم فهم ليسوا مطالبين بتقديم الحساب إلا لهذه الجهة لا لسواها، حتى إن كانت حكومة منتخبة، بامتداد شعبي واسع. ولذلك، فإن فشل حكومة بنكيران في إصلاح المنظومة الإعلامية، والتلفزيونية خصوصا، ليس متأتيا فقط من الإكراهات أعلاه، وهي مظاهر وعناوين ليس إلا. ولا هو متأت من غياب في العزيمة أو ضعف في التصور، ولا من تقصير في الرؤية حتى. إنه متأت من سماكة الجهاز المراد إصلاحه، وعصيانه على التحول، وجنوحه "الطبيعي" للاستقلال عن الأحزاب والحكومات، فما بالك بالأفراد. لذلك، فإننا نعتقد جازمين بأنه من الظلم -ومن الغبن أيضا- أن نعتبر أن فشل الإصلاح بهذا القطاع هو فشل لحكومة بنكيران في ذلك. بالعكس، فإن الذي جرى ويجري بالقطاع إياه، هو تأكيد لتصور قائم لدينا، مفاده أن الإعلام العمومي بالمغرب عصي على الإصلاح، لأنه مكمن رهانات وحسابات تتجاوز الأحزاب والحكومات والمشاريع، ولأنه ينهل من معين "شرعية" متشعبة المصادر من الصعب الإمساك بدواليبها وآلياتها.