الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة 1. الرئيسية 2. آراء الدفع بعدم دستورية القوانين في المغرب.. بين طموحات النص وإكراهات التفعيل عبد الحكيم العياط الأحد 27 أبريل 2025 - 0:28 في عالم السياسة والقانون، نادراً ما تمنح الأنظمة الدستورية للمواطن العادي فرصة الوقوف في وجه القوانين الجائرة بقوة الدستور نفسه. لهذا السبب، شكلت آلية الدفع بعدم دستورية القوانين التي أتى بها دستور المملكة المغربية لسنة 2011 تحولا غير مسبوق في فلسفة العلاقة بين المواطن والدولة. لأول مرة، لم يعد التشريع محصنا بالكامل، ولم يعد البرلمان بمنأى عن الرقابة، بل أصبح بوسع أي طرف في نزاع قضائي أن يصرخ من داخل المحكمة: هذا القانون مخالف للدستور. غير أن هذه الصرخة ظلت حبيسة النصوص، معلقة في الفراغ بين طموحات الدستور ومحدودية التفعيل التشريعي. فبعد مرور أكثر من عقد على التنصيص عليها، لا تزال آلية الدفع بعدم الدستورية معطلة بسبب غياب نص تنظيمي ملائم، بعدما أسقطت المحكمة الدستورية مشروعي القانونين التنظيميين المتتاليين بدعوى مخالفتهما لروح الفصل 133. في واقع الأمر، كان هذا الفصل يعني أن كل فرد، بمجرد أن يتضرر من تطبيق قانون ما، يستطيع أن يدفع بعدم دستوريته أمام القاضي العادي، الذي يحيل الدفع إلى المحكمة الدستورية للبت فيه، ولكن التشريعات التي حاولت تنظيم ذلك أدخلت شروطاً وإجراءات معقدة حولت الحق الدستوري إلى متاهة قانونية. في فلسفة الدفع بعدم الدستورية، المواطن ليس مجرد مستهلك للحقوق، بل هو مدافع عنها. وهو لا يحتاج إلى وساطة برلمانية أو نقابية أو حزبية لرفع شبهة المخالفة، بل يكفي أن يستند إلى دستوره، ويتقدم بدفعه أثناء التقاضي. وهذا جوهر دولة القانون: أن الدستور يحمي الجميع بنفس الدرجة، وأن المحكمة الدستورية ليست سيدة القانون فحسب، بل حارسة الحقوق الفردية في وجه الانزلاقات التشريعية. لهذا السبب، انتقلت دول رائدة مثل فرنسا إلى تبني الدفع بعدم الدستورية سنة 2010 عبر آلية "المسألة ذات الأولوية الدستورية" QPC، وهو ما مكن من إلغاء عدد معتبر من النصوص القانونية التي كانت لولا هذه الآلية ستمر مرور الكرام رغم تعارضها مع الدستور. يؤكد فقهاء القانون الدستوري أن نجاح أي تجربة لدفع بعدم دستورية القوانين يرتبط أساساً بمدى بساطة وسلاسة الإجراءات المسطرية التي تحكم هذه الآلية. ففي التجربة الفرنسية مثلاً، رغم اعتماد نظام التصفية أمام محكمة النقض أو مجلس الدولة، فإن المسطرة تم تبسيطها إلى أقصى حد بحيث لا تتحول إلى عائق بيروقراطي أمام المواطن. أما في السياق المغربي، فإن المشروعات التي طرحت إلى حدود الساعة حملت في طياتها قيوداً معقدة وإجراءات تراتبية أدت إلى تفريغ الحق من مضمونه، وهو ما صرحت به المحكمة الدستورية بوضوح في قرارها رقم 70/18. توسيع رقابة الدفع بعدم الدستورية من شأنه أن يُعيد التوازن داخل النظام السياسي، خاصة في بلد يعرف ضعفاً تقليدياً في آليات الرقابة المؤسسية الداخلية. فبدلاً من الاقتصار على الرقابة السابقة التي تمارسها المحكمة الدستورية بطلب من جهات محددة، فإن إتاحة المجال لكل متقاضٍ لإثارة الدفع يجعل الرقابة أكثر انفتاحاً وأقل خضوعاً للحسابات السياسية. وهذا البعد هو الذي يجعل من آلية الدفع وسيلة لتعزيز الممارسة الديمقراطية من القاعدة، وليس فقط من القمة. تشير الدراسات المقارنة إلى أن الدول التي اعتمدت الدفع بعدم الدستورية بطريقة فعالة شهدت تطوراً نوعياً في حماية الحقوق الأساسية. ففي ألمانيا مثلاً، تُسجَّل سنوياً مئات الأحكام التي تُعلن عدم دستورية قوانين كانت قائمة لعقود طويلة، بما يعكس دينامية دائمة لمراجعة المنظومة القانونية. هذا النموذج يؤكد أن الدفع ليس فقط أداة لتعطيل بعض القوانين، بل هو أداة لإبقاء التشريع متجدداً ومتسقاً مع تطور المعايير الحقوقية والدستورية. غياب التفعيل الفعلي لهذه الآلية في المغرب لا يعني فقط إخفاقًا في تنزيل إحدى مواد الدستور، بل يعني إهدار فرصة ذهبية لبناء ثقافة دستورية جديدة. ثقافة يعتبر فيها كل فرد أن الدفاع عن الدستور شأن يومي وليس نخبويًا، وأن سمو الدستور فوق كل تشريع مهما علا شأنه السياسي. في ألمانيا، حيث يُتاح الدفع أمام المحكمة الدستورية الفيدرالية بشكل موسع، يرد سنويًا حوالي 6000 دفع فردي بعدم الدستورية، ما ساهم في تطهير المنظومة القانونية بشكل دوري من القوانين المناقضة للحقوق الأساسية. لو كان الدفع مفعلًا في المغرب، لكانت القوانين التي تمس بحرية التعبير أو الحريات الفردية أو الضمانات الجنائية قد خضعت لاختبار دستوري قاسٍ قبل أن تؤثر على المواطنين. ولأمكن للقضاة، بدل الاكتفاء بتطبيق النصوص، أن ينخرطوا في حماية الكرامة الإنسانية كقيمة دستورية. ولكان البرلمان نفسه قد غيّر كثيرًا من ممارساته التشريعية، تحت ضغط وعي دستوري يتجاوز الأغلبيات السياسية الظرفية. إن الرهان اليوم لا يكمن فقط في إصدار قانون تنظيمي يحترم الفلسفة الأصلية للفصل 133، بل في إعادة بناء علاقة احترام متبادل بين المواطن والقانون والدستور. المواطن المغربي يستحق أن يرى دستوره وهو يُمارس في حياته اليومية، لا أن يبقى شعارًا فوق المباني الرسمية. والدستور بدوره يستحق أن يحظى بما يحفظ سموه أمام جموح التشريع والسياسة. الدفع بعدم دستورية القوانين هو أكثر من مجرد تقنية إجرائية، إنه تجسيد عميق لفكرة أن كل قانون لا يُحترم فيه الدستور، يصبح نفسه غير مشروع. وإن مستقبل الديمقراطية الدستورية في المغرب سيتحدد بمدى قدرة الدولة على تحويل هذه الآلية من نص معطل إلى ممارسة حقيقية تؤسس لعدالة أرقى وأقرب إلى طموحات المجتمع المغربي. باحث جامعي في العلوم السياسية