حسن لقيبي الأثنين 7 يوليوز 2025 - 11:26 أفول الجماعات الانفصالية واقع دولي في صالح المغرب يشكل أفول الجماعات الانفصالية ظاهرة لافتة تعكس تحولات جيوسياسية وتاريخية... إذ ظلت هذه الجماعات لعقود تمثل تهديدا لاستقرار الدول ووحدتها خاصة منذ نهاية الحربين العالميتين وبداية حركات التحرر الوطني حيث ارتفعت الأصوات المطالبة بالاستقلال عن الدول الأم مدفوعة بعوامل تاريخية وإثنية وثقافية واقتصادية غير أن المشهد الدولي الراهن يكشف عن مسار انحداري لهذه الجماعات التي بدأت تتراجع وتنحل في كثير من الحالات وهو تراجع لم يأت عرضا بل جاء نتيجة تفاعل معقد لمتغيرات قانونية وجيوسياسية وأيديولوجية أعادت صياغة العلاقات الدولية والمواقف تجاه الانفصال. ففي سياق بروز هذه الجماعات خاصة في دول الجنوب بعد الحرب العالمية الثانية لعب مبدأ حق تقرير المصير دورا محوريا إذ نصت مواثيق الأممالمتحدة على حق الشعوب في تقرير مصيرها وهو ما ساعد المستعمرات على نيل استقلالها إلا أن هذا المبدأ توسع لاحقا ليشمل أقليات وجماعات إثنية داخل دول مستقلة حديثا خصوصا تلك التي شعرت بالتهميش أو بعدم تمثيل هويتها في الحدود الموروثة عن الاستعمار كما ساهم الإرث الاستعماري نفسه في إذكاء النزعات الانفصالية بسبب تركيزه على حدود إدارية لم تراع الانسجام الثقافي أو العرقي فجمعت بين شعوب متنافرة أو فرقت مجموعات متجانسة مما خلق بؤرا للتوتر قادت إلى مطالب بالانفصال لتصحيح ما اعتبرته هذه الجماعات ظلما تاريخيا. وتزامنا مع تصاعد الخطاب الدولي لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات وجدت الجماعات الانفصالية في هذا الخطاب إطارا أخلاقيا وقانونيا لدعم مطالبها خاصة في حالات الاضطهاد الممنهج كما أن فترة الحرب الباردة شكلت بدورها بيئة مثالية لازدهار هذه الجماعات إذ أدى التنافس بين المعسكرين الشرقي والغربي إلى تقديم دعم سياسي وعسكري ومالي للحركات الانفصالية كأدوات لتعزيز النفوذ الإقليمي. وعلى عكس باقي الجماعات الانفصالية ورغم استفادتها من السياق أعلاه فمنذ نشأتها، لم تكن جبهة البوليساريو تحمل في جوهرها مشروعا انفصاليا متكاملا، كما لم يكن قادتها الأوائل يمتلكون خلفية فكرية أو مرجعية إيديولوجية تؤهلهم لصياغة رؤية انفصالية ناضجة. لقد تشكلت البوليساريو في سياق دولي اتسم بصعود خطاب حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وهيمنة المد الشيوعي على الأوساط الجامعية في العالم الثالث، وهو ما أتاح لها فرصة الاصطفاف مع موجة تمردات الهامش تحت لافتة "التحرر الوطني". إقليميا، ساهم وصول اشخاص من العدم إلى مركز السلطة بقوة الانقلاب أو السلاح مثل القذافي في ليبيا وبومدين بالجزائر في تبني شباب البوليساريو ودعمهم، ليس من منطلق مبدئي، أومن منطلق الصراع على النفوذ الإقليمي بل منطلق نفسي ومقارنة شخصية مع المغرب، وضمن هذا السياق تم تبني فكرة الانفصال، التي ولدت في مختبرات الضفة الأخرى، كأداة سياسية أكثر من كونها تعبيرا عن تطلع شعبي داخلي. هكذا وجد شباب البوليساريو أنفسهم، بعد مشاركتهم في مؤتمرات "فخمة" وعلاقات نسجت في عواصم "الثورة"، يقتنعون بأنهم لا يحررون الصحراء فحسب، بل يؤسسون لقيادة المغرب انطلاقا منها، في وهم اختلط فيه الحلم الشخصي بالمشروع الإقليمي المدعوم خارجيا. غير أن نهاية الحرب الباردة وبداية الألفية الثالثة قلبت الموازين إذ تراجع الدعم الخارجي للجماعات الانفصالية بفعل انهيار الأحلاف الإيديولوجية وانصراف القوى الكبرى نحو أولويات الاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب فانقطعت منابع التمويل والتسليح والتدريب التي كانت تغذي هذه الجماعات وتقلص تفسير القانون الدولي لحق تقرير المصير ليصبح مقتصرا على حالات قصوى من التمييز أو الاضطهاد المنهجي في حين بات المجتمع الدولي ميالا لدعم سيادة الدول ووحدتها الترابية كما تراجع خطاب حقوق الإنسان أمام انتقائيته في توظيفه لخدمة مصالح الدول الكبرى إضافة إلى أن بعض الجماعات الانفصالية أساءت لسمعتها بسبب لجوئها للإرهاب وللعنف مما نفر جزءا من داعميها. كما نجحت العديد من الدول المركزية القوية في إضعاف الدوافع الانفصالية عبر سياسات الاندماج والحكم الذاتي وتوسيع التمثيل السياسي للأقليات وتنمية المناطق المهمشة بينما أسهمت الفعالية الأمنية للدول والرفض الشعبي للعنف في تفكيك الجماعات المسلحة وتراجعت شعبية الانفصال لصالح البحث عن حلول سياسية متوازنة. وتظهر نماذج حل جماعات انفصالية نفسها أو تلاشيها مثل الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، ومنظمة إيتا، وحزب العمال الكردستاني، أن مسار الانفصال المسلح غير مجدي، بل يمكن تجاوزه نحو تسويات سياسية متى توفرت الإرادة والظروف الملائمة، ففي أيرلندا الشمالية أدى اتفاق الجمعة العظيمة سنة 1998 إلى إنهاء عقود من العنف، من خلال تقاسم السلطة، وتخلي الجيش الجمهوري عن السلاح نهائيا في 2005، وتحول جناحه السياسي إلى قوة ديمقراطية مؤثرة. أما منظمة إيتا الباسكية، فاختارت طي صفحة العنف، وأعلنت وقفا دائما لإطلاق النار في 2011 قبل أن تحل نفسها نهائيا عام 2018، بعد فشل مشروعها المسلح وتزايد العزلة الشعبية. وفي السياق ذاته، شكل إعلان حزب العمال الكردستاني في 12 ماي 2025 عن حل نفسه رسميا، والتخلي عن الكفاح المسلح ضد الدولة التركية، نقطة تحول تاريخية بعد أكثر من أربعة عقود من المواجهة المسلحة التي أودت بحياة عشرات الآلاف، وجاء هذا القرار استجابة لدعوة زعيمه عبد الله أوجلان، وكنتيجة لمداولات مؤتمره الثاني عشر، الذي أوصى بإنهاء التنظيم وتفكيك بنيته القتالية. هذه النماذج مجتمعة تؤكد أن السلاح بدأ يفقد فاعليته كأداة لتحقيق المطالب السياسية، وأن الانتقال إلى الحلول السلمية والمؤسساتية يظل ممكنا حين تدفع التحولات المحلية والدولية الأطراف نحو إعادة تموضع استراتيجي أكثر واقعية. تؤكد النماذج المذكورة أن التحول من الكفاح المسلح إلى الحلول السياسية ممكن عندما تتوفر إرادة داخلية صادقة، وتنضج شروط التفاوض الواقعي، لكن إسقاط هذه التجارب على النزاع المفتعل في الصحراء المغربية يكشف عن اختلافات جوهرية تجعل من الحل أكثر تعقيدا. ففي الحالات الثلاث، كانت الحركات الانفصالية تتصارع داخليا مع الدولة المركزية، وتنتهي إلى مراجعات ذاتية نتيجة الضغط الشعبي أو فشل الخيار المسلح. أما في الحالة المغربية، فالبوليساريو لا تتحرك كفاعل داخلي مستقل، بل كأداة جيوسياسية في يد الجزائر التي توفر لها الدعم غير المشروط، والغطاء الدبلوماسي والعسكري، مما يفرغ أي دعوة للحل السياسي من مضمونها الواقعي. وفي الوقت الذي نجحت فيه بريطانيا وإسبانيا وتركيا بدرجات متفاوتة في إرساء آليات تفاوضية مع قادة الانفصال، يظل المغرب في مواجهة "تنظيم خارجي"، لا يملك قراره السيادي ولا يستطيع القبول بحلول وسط، ما يجعل المعالجة رهينة بتغير موقف الدولة الراعية لا فقط بتبدل مواقف قادته. من هنا، فإن تجاوز الجمود يمر عبر تثبيت الواقعية السياسية على الأرض، وتعزيز التنمية والهندسة الديموغرافية في الأقاليم الجنوبية، إلى حين بروز ظروف إقليمية جديدة تنهي منطق الوكالة والانفصال. هذا لا يعني أن الحل الوحيد مرتبط برضا الجزائر أو مرتبط بصفقة دبلوماسية معها مكلفة تاريخيا، فالمغرب بخلاف الدول التي واجهت تمردا داخليا، لا يواجه أزمة مشروعية في أقاليمه الجنوبية، بل يمارس سيادته الكاملة، ويمضي في ترسيخ واقع تنموي ومجالي متميز. لذلك فإن التعويل على "حل مستعجل" ليس فقط خطأً استراتيجيا، بل قبلة حياة لرعاة المشروع الانفصالي، كما أن خطاب "سنة الحسم" الإعلامي خطاب بدون بوصلة واضحة يزيد من الضغط على الدبلوماسية المغربية وقد يتحول إلى إحباط شعبي. يجب أن نعي جيدا المغرب في موقع قوة، والطرف الآخر في موقف هش وعاجز عن المبادرة والفعل، وليس هناك ما يمنع من أن يطول أمد النزاع 50 سنة أخرى إذا كان ذلك سيفضي إلى ترسيخ واقع يبطل طموحات الانفصال من جذورها، بل إن التسرع في الحسم قد يجعل من الملف ورقة قابلة للابتزاز من قبل أطراف دولية، ويحوله إلى "بقرة حلوب" تستفيد منها قوى خارجية، قد تفرض حلولا جزئية باهظة الثمن، وتفتح الباب لمشاكل جديدة بدل أن تطوي صفحة النزاع، لذا فإن الحكمة تقتضي المزاوجة بين الواقعية الميدانية والنفس الطويل، دون الوقوع في فخ الاستعجال أو الحسم الدبلوماسي. أخيرا وفي ظل التحولات الدولية المتسارعة التي تشهد انكماش الحركات الانفصالية وتراجع شرعيتها أمام صعود منطق الدولة الوطنية، وفي ضوء الواقع الميداني الذي يكرس سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية سياسيا وتنمويا وعسكريا، لم يعد المغرب في موقع يفرض عليه التهافت على "حسم الملف" بأي ثمن، بل إن النجاحات المتراكمة خلال خمسين سنة من إدارة النزاع تؤكد صواب نهج النفس الطويل، القائم على التدرج، وتثبيت المكاسب، ورمي ثقل التعقيد على الطرف الآخر، إن استمرار هذه الاستراتيجية الواقعية والمتزنة، في حد ذاتها أداة حسم هادئ، تفرغ المشروع الانفصالي من مقوماته، وتحول الزمن من حليف للخصوم إلى عبء يثقل كاهلهم. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة