عرفت العلاقات المغربية المصرية التاريخية كما توصف مؤخرا اهتزازا وتوترا غير مسبوق وغير مبرر، تجاوز حدود المتعارف عليها دبلوماسيا، فقد تمر العلاقات بين البلدان بنوع من الفتور، وربما الجمود، دون اللجوء إلى الضرب تحت الحزام، كما يعبر عنه في رياضة الملاكمة. توتر كاد أن يعصف بعلاقات فوق العادة وظفت فيه الماكينة الإعلامية للبلدين وتوارت الآلية الدبلوماسية. وكما كان متوقعا، لم يُعمّر التنافر طويلا لأسباب كثيرة، منها أن كلا من المغرب ومصر عضو في تحالف الاعتدال الذي تتزعمه السعودية والإمارات العربية وينفقان عليه؛ وبالتالي، فالمغرب ومصر أشبه بأخوين يعيشان في حضن أبيهما، لا يملكان في النهاية إلا الائتمار بأوامر الوالد فيبادران للتعانق إرضاءً له وتفاديا لغضبه/سخطه. وقبل التحليل والاستخلاص، نعرض كرونولوجيا الأحداث: 1. استُهدِف المغرب من قبل الإعلام المصري المحسوب على القطاع الخاص، واتهامه بناتِه بالدعارة مرة، والشعوذة أخرى، وتُوِّج الاستهداف بإثارة نفقات تنقلات الملك الخارجية تركيا نموذجا تزامنا مع حجم كارثة الفيضانات التي عرفتها مناطق من المغرب. 2. التقارب المصري الجزائري والتنسيق العسكري السياسي، شكلت زيارة رموز فكرية وفنية مصرية لتندوف أحد مؤشراته. 3. رد المغرب على هذا الاستهداف الإعلامي بالمثل، وذلك من خلال خرجة للقناتين الأولى والثانية، حيث دبجت القناتان تقريرين ناريين عُرضا في وقت الذروة سمَّيا ما حدث في مصر بأسمائه ووصفا عبد الفتاح السيسي بالانقلابي عن الشرعية، ومحمد مرسي بالرئيس المنتخب. 4. تنكر وزير الاتصال خلال جلسة برلمانية أن يكون للحكومة في شخص وزارته دخل في الخرجة الإعلامية للقناتين بدعوى استقلالية الخط التحريري للقناتين. 5. تنسيق أحزاب المعارضة البرلمانية واتهامها حزب العدالة والتنمية القائد للائتلاف الحكومي بتغليب المصالح الحزبية على المصالح العليا للبلاد، في تلميح إلى التعاطف والانتصار إلى الإخوان المسلمين في مصر. 6. تراجع الإعلام المصري عن لغته الهجومية وتغيير خطابه ب: 180 درجة، ودون حرج عادت نفس الوجوه المهاجمة لتخطب وُدَّ المغرب، في لغة أشبه بالتسول، وتعترف بفضله على أرض الكنانة متهمة جهات تقليدية الإخوان المسلمون في الشتات بالسعي لتسميم علاقات تاريخية بين البلدين الشقيقين. 7. زيارة وزير خارجية مصر لرأب الصدع وتقديم الاعتذار لملك المغرب، إيذانا بطي صفحة التوتر والترتيب لزيارة عبد الفتاح السيسي للمغرب، الذي سيغدو خلال الزيارة المرتقبة ضيف المغرب الكبير، وسترفع صوره كما جرت العادة خلال الاستقبال تعبيرا عن كرم الشعب المغربي، وستبحُّ حناجرُ معلومة في ذكر عراقة العلاقات بين المغرب وأم الدنيا، وفي جرد مناقب عبد الفتاح السيسي القائد الانقلابي، عفوا الرئيس المنتخب حسب آخر نشرة إخبارية. 8. مغربيا، وبنفس الدرجة: 180، تغيرت لغة تغطية زيارة رئيس الدبلوماسية المصرية للمغرب، إذ تراجع الإعلام المغربي عن نبرته الهجومية وراح يعدد مجالات التعاون والتنسيق بين بلدين شقيقين ما يجمعهما أكثر مما يفرق بينهما. 9. في الحالتين معا: حالة التوتر أو حالة الانفراج في العلاقة بين البلدين، يتوفر لدى القناتين المغربيتين من "الخبراء" الاستراتيجيين الذين يقدمون الخدمات تحت الطلب ويبررون ما لا يبرر. وسبحان الله الذي لم يجعل في اللسان عظما! كما تقول العبارة الشعبية. الآن، وقد هدأت العاصفة، يمكن للمواطن المغربي كالمصري أن يتساءل: هل كان هذا التصعيد بين البلدين ضروريا؟ وإذا كانت أسباب التوتر توفرت من هذا الطرف أو ذاك، ألم يكن هناك مسار آخر لاستيعاب هذا التوتر وتجاوزه؟ ففي الحالة المصرية، واستحضارا لطبيعة المرحلة وتطورات أحداث ما بعد 30 يونيو2013، هل من مصلحة النظام المصري أن يفتح عليه جبهات عدائية، وهو الذي يتوسل اعترافا دوليا؟ وإذا فُرض على النظام المصري الباحث عن الشرعية، أن يدخل في مواجهة إعلامية أو دبلوماسية، فالمغرب يجب أن يكون آخر البلدان، بالنظر لانتمائهما معا إلى نفس التحالف؟ وحيث، إنه وقع انفلات إعلامي من طرف قنوات محسوبة ظاهرا على القطاع الخاص، مدعومة ومُدعّمة من النظام القائم، ألم تفرض الحكمة والمصلحة العامة لمصر السيسي التدخل العاجل لاحتواء الانفلات، عوض ترسيخه اختيارا وموقفا؟ وارتباطا دائما بطبيعة مرحلة إثبات الوجود التي يمر منها النظام المصري القائم، هل من مصلحته أن يدخل في تحالفات ويخندق نفسه في صراعات إقليمية؟ طبعا، الأجوبة واضحة، وتتوحد في اتجاه اتهام الجانب المصري بالتهور واستسلامه للتفكير بمزاج عسكري قائم على منطق: أبيض أو أسود. وفي الحالة المغربية، وعوض الاكتفاء بتلقي الضربات وعدِّ الأهداف المسجلة في مرماه، لماذا لم يتحرك دبلوماسيا ويبادر للفت نظر مصر في شخص سفيرها بالرباط، أو من خلال السفير المغربي في أرض الكنانة، أن هذه الخرجات الإعلامية تستفز المغرب ويمكن أن تسمم العلاقة بين البلدين، قبل أن تتطور وتتبلور إلى موقف سياسي من المغرب: منظومة قيم ووحدة ترابية ورموزا سيادية؟ وكيف تنجح الجزائر في استقطاب رموز فكرية وفنية لزيارة مخيمات تندوف وتستصدر منهم نوعا من التعاطف الانساني مع المخطط الانفصالي، ولا يستثمر المغرب الحضور الكثيف والمكثف للفنانين المصريين الذين يوفر لهم المغرب فرصا للانتعاش المالي مهرجان مراكش للسينما الأخير نموذجا يعوضون به انسداد وإفلاس السوق الفنية المصرية بحكم الأوضاع القائمة؟ وبماذا يفسر تأخر الرد المغربي الذي تحرك بعد أن طالت الحملة الإعلامية المصرية نفقات سفريات الملك خلال زيارته لتركيا؟ قد يقال: إن المساس بشخص الملك خط أحر، ودستوريا هو رمز السيادة المغربية، ولكن، أليست الوحدة الترابية عنوان هذه السيادة، ورأس الأولويات كما تصنف في الخطاب الرسمي؟ من زاوية أخرى، وبعد أن وقع ما وقع، هل اختيار الرد على الاستهداف الإعلامي المصري للمغرب ورموزه وقضاياه، بتعبير بيان الديوان الملكي بعد زيارة وزير الخارجية المصري للمغرب؛ هل اختيار الرد عليه من خلال القناتين المغربيتين الأولى والثانية كان مُوفقا وسليما؟ فإذا كانت القناتان المصريتان تتدعيان الانتماء إلى القطاع الخاص، وبالتالي، فما يصدر عنهما لا يكتسي الرسمية، ولا يُلزم النظام المصري بتبعات أو حتى تفسيرات؛ فإن الأمر يختلف عن القناتين المغربيتين، ذلك أن ما يصدر عنهما على الأقل مغربيا تعبير عن التوجه الرسمي للدولة، وبالتالي ما صرح به وزير الاتصال والناطق الرسمي للحكومة عار من المصداقية، ولا يعدو أن يكون تهربا من المسؤولية، والأولى أن يثمن خرجة القناتين ويعتبرهما موقفا متساوقا ومشاعر المغاربة الذين استُفزوا في هويتهم وسيادتهم. ثم ألم يكن من الحكمة التصدي للعدوان الإعلامي المصري ببلاغ للحكومة يشجب فيه الاستهداف ويدعو النظام المصري للتدخل لتصحيح الموقف؟ ومن زاوية المواطن المغربي، ما حقيقة ما جرى يوم 30 يونيو2013 في مصر، بعد احتواء العاصفة، هل هو انقلاب عن الشرعية أم تصحيح للثورة؟ وهَبْ أن الاستهداف الإعلامي المصري تكرر وطال رموز الدولة، بنفس الحدة أو أكبر منها، هل سيعود الإعلام الرسمي الحديقة الخلفية للنظام كما كان يصفه الملك الراحل الحسن الثاني لتصنيف النظام المصري القائم انقلابيا مرة أخرى؟ وبالتالي، على أي أساس تبنى المواقف السياسية للدولة ويتصرف الساسة والحكام عندنا؟